طلال سلمان

على الطريق من النبي شيت إلى أم الفحم

لأن النصر لا يأتي إلا بالشهادة، فلا بد من مزيد من الرجال يعطون أرواحهم ودماءهم لتقريب ذلك الموعد السني الذي يكاد يستوطن الحلم الآن، وبعد التحولات الصاعقة في مواقف الدول والأحزاب والأشخاص، على المستوى الكوني كله، وإن اتخذ طابعاً كاريكاتورياً في بلادنا.
… وها هي قافلة جديدة من الشهداء تعطي أرواحها بسخاء، لعلها تسهم في تقريب ذلك الموعد الذي لا تفعل سياسة المفاوضات المتعددة الأغراض المتعاظمة تنازلاتها غير إبعاده واستبعاده إلى حد الاستحالة.
اخترق الثلج والزمن الصعب، هذا البعلبكي الشديد السمرة والإيمان، عباس الموسوي، وحمل كفنه بيمينه وقصد موطن الشهادة في الجنوب،على طريق فلسطين، وانغرس في الطين الطري المشبع بعطر زهرالليمون، وانتثر بعض دمه عبر البحر مشعلاً يهدي التائهين إلى سواء السبيل.
في اللقاء الأخير كان يتحدث بلهجة رسول. وكنت أكتم دهشتي: هل تتسع وهدة التردي والانحطاط لمثل قامة هذا الكلام القديم، المنتمي إلى زمن غادرتنا قيمه ومعالمه إلى الذاكرة المجهدة بالمفارقات بين وقائع الامس وملامح المستقبل.
عباس الموسوي إرهابي، وقتله مطلب للنظام العالمي الجديد، نظام الديمقراطية وحقوق الإنسان. وقتلته الإسرائيليون دولة متحضرة وهي واحة للتقدم في الشرق المتخلف. وها هي تستخدم منطقاً لا يدحض: لكل عربي صاروخ طالما أصر أنه حيّ وصاحب إرادة وليس مجرد تابع أو عبد، مجرد عبد، في إمبراطوريتها حتى آخر بئر نفط وبئر مائ في الأرض العربية.
وإسرائيل التي تثقب الآن وجدان كل فلسطيني في الأرض المحتلة، بحثاً عن أبطال عملية المعسكر، وتعتقل الشجر والشمس والقمر والهواء والظلال بتهمة المشاركة أو التكتم، هي ذاتها التي اخترقت أمس بالطائرات، جبين لبنان، لتطارد فيه آخر الأمنيات النابضة في ضمائر الأطفال المتشوقين إلى غد أفضل.
هذه الكوكبة الجديدة من شهداء المقاومة الإسلامية – القومية – الوطنية، والتي تضم بعض قيادة “حزب الله” لن تكون الأخيرة… ولن تكون الشهادة إلا تحريضاً على مزيد من الجهاد من أجل ذلك الموعد السني مع الحرية والكرامة، مع استقلال الأرض والإرادة، مع الخبز وفلسطين.
ومن النبي شيت في شرقي بعلبك، إلى أم الفحم على كتف جنين في الضفة الغربية، صلة رحم تعززت الآن وتأكدت باستشهاد عباس الموسوي وأخوانه على طريق القدس الشريف.
وليس بيننا من يعرف “أم الفحم”. هي بعض الماضي، بعض الحقيقة المحرمة كالمعصية: ممنوع خروجها من الذاكرة، فعليها أيضاً ينسحب “قانون الطوارئ” الذي يفرض – في ما يفرض – منع تجول التاريخ والذكريات والأسماء الأليفة مثل قصائد محمود درويش القديمة.
وليس بيننا من تعرفه “أم الفحم”. فالاحتلال “حاجز طيار” على الجغرافيا، يعدل فيها ويبدل، يحل الأسطورة محل الحقيقة، ويفرض المؤقت والمتحول في مكان الثابت. يبدل اللافتات، ويضع مكان كل حرف دبابة لتحميه من “الأصل” الضاربة جذوره في الأرض بعمق الكينونة.
لكن “الحدث” استخرج “أم الفحم” من جب النسيان وأعادها إلى دائرة الضوء، وفرض اسمها على السنة الرؤساء والعظماء والكبراء من أهل النظام العالمي الجديد الذي لم يكن قد لحظ وجودها على خريطته، إلا – ربما – عبر المستوطنات الجديدة التي ستقيمها العشرة مليارات دولار الإضافية التي تتوقعها إسرائيل من قيصر نهاية القرن العشرين.
… ولأن “أم الفحم” غير ملحوظة على الخريطة فقد أقاموا في ظاهرها معسكراً للمستقدمين الجدد من يهود الخزر تمهيداً لأن “يستعيدوها” ويعيدوا إليها اسمها التوراتي المنسي.
لكن الاحتلال ليس وطناً. إنه مجرد ثكنة عسكرية تقيمها الحراب فوق نهر من الدماء.
الاحتلال جسم غريب وناشز، لا سبيل إلى مؤاخاته مع اللحم والعظم، ولا يمكن لقدراته – بالغة ما بلغت – أن تلغي الوجدان، وأن تمسح من الهواء أنفاس الأقدمين أو أن تلغي ذوبان اجداثهم في ثراها. يمر الزمن متثاقلاً ويبقى الاحتلال شيئاً طارئاً واستثنائياً ومؤقتاً، فطبيعته لا تتغير مع تقادم الأيام، ووضع اليد لا يكسبه ملامح الأرض التي شق قلبها بسيفه لينسبها إليه.
الأرض تعطي النسب وليس الملك. في كل ذرة تراب تحتشد ألقاب ألف ملك وأمير وزعيم عبروا واندثروا ولم تستبق منهم ما يدل على أنهم قد وجدوا أصلاًز
“إنك من تراب، وإلى التراب تعود”،
لكن المشكلة: أي تراب؟!
فأم الفحم ليست ريغا، ليست مينسك، ولا هي كييف أو أوديسا أو لينينغراد – سان بطرسبورغ. هي أيضاً ليست أديس أبابا أو أسمرة. هي أصغر، وأقل شهرة، وأبسط عمارة، وضئيلة عدد السكان، لكنها هي هي. لا تعرف ولا تعرف عن نفسها ولا تعرف إلا بفلسطينيتها وعروبة أهلها. نيويورك أعظم، وباريس أفخم، ولندن أكثر امتداداً وخضرة ورشاقة، وهي أصغر من زاروب متفرع من أحد الشوارع الفسيحة في موسكو البلاد تخوم… لكنها هي، أم الفحم، في عيون أهلها البداية والنهاية. ما قبل فلسطينيتها اغتراب وما بعد عروبتها استلاب، أهلها هم الأهل والوافدون الآخرون قاهرون لإرادتها مزورون لهويتها، يجيء بهم المدفع في انتظار أن يذهب بهم المدفع ذاته، مهما طال الأمد.
ثلاثة من الفتيان كانوا، يحملون أسماء عادية جداً مثل عبد القادر وحسن وعز الدين، وتفضحهم ملامحهم السمراء بلون الأرض، أرضهم، بقدر ما تكشف الآخرين ملامحهم الغريبة التي تدل على انتمائهم إلى أرض أخرى.
كانوا في ليل الثلج والريح والظلمة قد خرجوا يتفقدون أخوتهم، لعل أحدهم بحاجة إلى تموين أو كساء إضافي أو حماية من الذئاب… ولقد تم كل شيء بسرعة وبعفوية: شهرت الحقيقة ذاتها فتهاوت الخرافة مندحرة إلى العدم. تحركت الأرض فابتلعت بعض أولئك الذين جاؤوا ينتزعونها من تاريخها وأهلها ليدخلوها قسراً في الأسطورة.
لم يستطع ديفيد كوهينسكي أن يصير محمود درويش، لم يستطع أن يملأ مدى اسمه ولم يتمكن من إقناع نجمة الصبح التي تحرس ملاعب صباه بأنه خدينه أو بديله أو وريثه. كان الجذر أقوى من البندقية وأعمق من أن تطاله طلقات المدافع التي يحدد إحداثياتها الكومبيوتر الأميركي.
كيف يكون غيرك أنت وتمنع أنت من أن يكون أحداً؟!
… والمطلوب منك أكثر : أن تلغي نفسك بنفسك، وقبل أن تندثر تماماً عليكأن تقر بأن “الآخر” هو أنت مع أنك ليست هو. كنت قد غصبته حقه بوجودك، ولكنك غير موجود ليكون غاصباً لحقك! أنت موجود لتأكيد وجوده هو ولتأكيد نفيك لذاتك!
وعليك أن تذهب إلى المفاوضات لأنها فرصتك الأخيرة، فإذا ذهبت قالوا: وكيف يحضر معنا هنا من ليس له وجود أصلاً؟!
ما الفرق بين أم الفحم ومئات القرى الفلسطينية الأخرى وطائرات البان أميركان التي فجرت فوق لوكربي؟!
تفجير الطائرة المدنية بركابها جريمة نكراء ليستفظعها أي عاقل، ولاسيما الثوار والمناضلون من أجل حقوقهم، في أرضهم وتاريخهم وأسمائهم الأصلية.
ولكن ماذا عن تفجير المدن والقرى والمزارع، نسف تاريخها وذكريات أهلها وتمويه حقيقتها ونزع جلدها ليغرس في لحمها من بعد – وبالقوة – القادمون من الخرافة والمتسلقون باسم الدين سقف الدنيا ورمي أهلها إلى العدم. أليست الخرافة عدماً بدورها؟ أم أن الخرافة المسلحة أقوى من الحقيقة العزلاء إلا من التاريخ والجغرافيا والسكان أمواتاً وأحياء؟!
إذا كنت أنت أنت يحكم عليك بالإعدام نسياناً حتى الموت،
وإذا لم تكن أنت أنت فباي حق تطالب أيها الذي لا وجود لك؟!
وهل أنت أولى بفلسطين من هذا اليهودي المستقدم من روسيا أو من الحبشة أو من بولونيا ليثبت أن لا أهمية للأرض ولا قيمة لها، بينما المتشبث بكل ذرة رمل ينفي بوجوده وجوده ووجود وطنه؟!
الموت الأبيض وأهل الدولة…
البقاع صفحة بيضاء، بلا ملامح تقريباً إلا أشباح السلسلتين من الجبال التي تجعله أشبه بيمامة خفاقة الجناحين في سديم من الفراغ والصمت والرهبة وجبروت الطبيعة.
البقاع خارج الزمن منذ زمن بعيد، وخارج الدولة منذ قيام الدولة، برغم أن كثيرين من أهل الدولة الآن هم بعض أهله،
فوق الصفحة البقاعية البيضاء الآن سطور سوداء من المرارة والخيبة وانهيار الآمال التي خلفت أضراراً أفدح من تلك التي خلفتها الانهيارات الثلجية في حزرتا المنكوبة.
لقد أراد الناس أن يصدقوا أن الدولة – برجالهم فيها!! – قد اعترفت بهم أخيراً، وإنها قد لحظت وجودهم وقررت الاعتراف بهذا الوجود الحي.
لكن الثلج – ببياضه المبهر – فضاح، والفضيحة محزنة أكثر منها مشينة،
وفي الكلام الذي سمعه وزير الداخلية اللواء سامي الخطيب والمحافظ سيمون كرم ما يتجاوز اللوم على التقصير والحرقة على ضحايا الموت الأبيض، كان في العيون، والكلمات، والنبرة، ذلك المعنى المشبع بالخيبة: أأنتم أيضاً مثلهم؟! أو، إن شئت: حتى أنت يا بروتس؟!
ومع تقدير أهل البقاع للحضور المؤثر للمثقف الذي ساقته أيامه لأن يكون محافظاً وفي البقاع، سيمون كرم، ولوصول وزير الداخلية – ولو متأخراً – لتفقد أحوالهم، ومع وعيهم بنقص القدرات والإمكانات عند الحكومة وبمشكلات الموازنة غير المتوازنة وضرورة شد الأحزمة وعصر النفقات ووقف الهدر الخ…
برغم هذا كله فلقد تمنى هؤلاء البقاعيون البسطاء لو أن من تاجروا بقوتهم وبحاجتهم الماسة إلى مازوت التدفئة كانوا أبعد صلة بالدولة وأهل الدولة.
لقد أثبت “حزب الله” أنه حاضر فعلاً وقادر على المبادرة، ويعيش هموم الناس بأكثر مما تفعل الدولة… مع أنها دفعت في حالات كثيرة كلفة نخوته واندفاعه إلى إنقاذ الناس.
والتقصير جريمة قديمة عفا عليها زمن الدولة في البقاع، ولكن أن يصبح الموت الأبيض تجارة لبعض ذوي الأرحام مع الدولة فهذا ما لا يمكن غفرانه.
أم لعل الاحتراف قد غلب… فتجار “الأبيض” اعتبروا أن الموت بالثلج الأبيض يدخل ضمن اختصاصهم؟!

Exit mobile version