طلال سلمان

على الطريق من المسجد الأقصى إلى هونغ كونغ!

هل هو خطأ قديم في الاتجاه، أم انحراف طارئ عن الجادة، أم بعض الضياع العربي العام وسط الليل الدموي الساجي للنظام العالمي الجديد؟!
وهل حدث كل هذا الذي يتساقط علينا من اتفاقات مزلزلة وتهديدات رادعة فجأة وفي يوم واحد أم أنه نتيجة تراكم أخرج الحركة عن سياقها في حين ظلت الشعارات مرفوعة في أعلى الجدار فغدت أداة تضليل أكثر منها إعلاناً عن موقف وعن متابعة للنضال حتى تحقيق المقدس من الأهداف؟!
كانت الوجهة المعلنة فلسطين، على طريق توحيد الأمة عبر تحريرها “من النهر إلى البحر” وتحت الشعار المدوي: النصر أو الشهادة!
وكان البعض من المتزمتين (كما يوصفون اليوم!!) يصر على الصلاة في المسجد الأقصى إلى حد الموت من أجل تحقيق هذا الحلم السني.
وكنا شركاء في اللقمة والملجأ والبيت والبندقية والأرض، في الحاضر القلق وفي المستقبل المرتجى، عدونا هو العدو، وصديقنا عدو عدونا وعدو صديقنا عدونا بالذات.
وكان الغرب الفظ والكريه والملطخ تاريخه بدمائنا يبدو بعيداً خلف بحر الظلمات، لا نطلب منه ولا نأمل منه خيراً، وأقصى ما نرجوه إلا يستمر في قتالنا لحساب عدونا – صديقه، بل قلعته المتقدمة، فيكتفي بحماية الكيان الصهيوني بدلاً من إبادتنا.
… حتى جاء التوقيع الفلسطين في واشنطن فسقط الوهم وتكشفت الحقائق التي كانت مطموسة أو مموهة بعناية، وإذا الدنيا غير الدنيا، وإذا “الشقيق” قد غادر الموقع بغير سابق إنذار، ولذا العدو يحاصرنا من الجهات الأربع ويكاد يقتلنا عناقاً!!
طويلة هي المسافة بين القدس الشريف وهونغ كونغ،
وصعب التصديق أن قليلاً من الانحراف في وجهة السير قد انتهى بنا أو سينتهي بنا إلى نموذج سنغافورة الإسرائيلية بدلاً من فلسطين العربي.
حتى والسيف الأميركي مسلط على الرقاب جميعاً فمن المستحيل القبول بمنطق يصور الدكاكين والوكالات الأجنبية ومكاتب الكومسيون والمواخير وعلب الليل بديلاً من المسجد الأقصى وكنيسة القيامة والجلجلة.
إنه هدف آخر لقوى أخرى يستحيل أن تكون عربية، وفلسطينية على وجه التحديد،
فكثير على ما تبقى من العقل العربي أن يرى في التحول من النضال إلى السمسرة تطوراً إيجابياً وبناء ومجارياً لروح العصر؟
ثم إن هونغ كونغ ليست وطناً، ولا يمكن أن تكون، وكذلك سنغافورة.
إنها مجرد مركز غربي للتجسس والمافيات والمخدرات والتآمر على الشعوب المحيطة، تتخذ شكل الواجهة الرأسمالية البراقة لإخراج الصينيين من شيوعيتهم ولإخراج الآسيويين عموماً من جلودهم ومسخهم خدماً للغرب وإتباعاً ومقلدين تافهين أرقاهم سائق تاكسي في نيويورك وأعظمهم دليل سياسي للجنرال الأميركي الذي يحتل عاصمة بلاده ويقرر لها مستقبلها.
أكل ذلك السيل من الدماء والتضحيات وتجرع الهزائم والحروب الأهلية واقتتال الأخوة من أجل مسخ المستقبل أيضاً بعدما هدر الماضي وضيع الحاضر في المفاوضات السرية من أجل ذلك الشبر في أريحا؟!
إذن فهي المرحلة الثانية من “عاصفة الصحراء” الأميركية على المصير العربي!
لقد قالها وزير الخارجية الأميركية وارن كريستوفر بغير مواربة وبغير مداراة لاحتمالات انعكاسها سلباً على بطل صفقة الصلح المنفرد الثاني!
وما قاله ويقوله سائر المسؤولين الأميركيين يسقط كل ذلك اللغو الذي يطلقه ياسر عرفات وجوقته، وكذلك كل تلك الأكاذيب المكشوفة التي تروج لها وسائل الأعلام الرسمية المصرية.
إنه اتفاق غربي مائة في المائة، وبهذا المعنى فهو إسرائيلي مائة في المائة،
إنه تحصين غربي إضافي لإسرائيل الغربية المزروعة على الأرض العربية بالتوقيع الفلسطيني الذي من شأنه أن يغطي أو يستدرج تواقيع عربية إضافية للتسليم بالمشروع الغربي الجديد للمنطقة العربية برمتها، وليس لفلسطين فحسب.
بعد مصر والعراق ها قد شطبت فلسطين،
وإذا كانت مصر قد شطبت سلماً، والعراق قد شطب حرباً، فها هي فلسطين تشطب بمسخها تماماً، بحيث يكاد ينكر إنها كانت موجودة أصلاًز
ثمة فلسطينيون ولا فلسطين،
وهؤلاء الفلسطينيون يمكن أن يكونوا كمثل أولئك المقيمين في هونغ كونغ: ليسوا من الصين وليسوا فيها، حتى ولو كانت أرضهم صينية، علمهم قطعة نقد، حاكمهم بريطاني والرساميل أميركية وكبار التجار يابانيون، وبعض الأرباح تذهب إلى الخزينة الصينية (الشيوعية)… والبشر مجموعات من أصحاب الحوانيت والبارات والعملاء والمخبرين والمهربين والقوادين والمضاربين في البورصة، ولكنهم ليسوا شعباً، وأرضهم ليست وطناً، ولا في مطامحهم أن تكون لهم “دولة”، ولا تشغلهم هموم الاستقلال والسيادة والكرامة الوطنية الخ.
إنه “التحالف الدولي” مرة أخرى،
وهو التحالف الدولي ضد العرب وضدهم فقط،
والالتحاق به شرط حياة، لمن أراد الاستمرار على قيد الحياة من الأنظمة العربية: من بقي خارجه مصيره السحق، ومن دخله فهو آمن، أقله في انتظار أن يفرغ من أكل لحمه نيئاً!
لا ذكر لفلسطين،
كل الحديث عن “فلسطينيين”،
وثمة كلام كثير عن خطة للنهوض الاقتصادي وعن مليارات ستدفع من أجل إنجازها لتحسين شروط حياة هؤلاء الفلسطينيين.
وإلغاء المخيم ليس خطوة على طريق إقامة الوطن، بل على النقيض تماماً: فالمخيم يلغى من أجل السوق الحرة، ويلغى من أجل مشاريع النهوض بالاقتصاد الإسرائيلي،
و”الفلسطيني” مرشح لأن يتحول إلى مروّج للبضائع الإسرائيلية عربياً، وإلى مسوق بالكومسيون، وبالطبع إلى مرتبة عامل زراعي أو عامل يدوي في المصانع الإسرائيلية.
إنه اليد العاملة الرخيصة عند “شعب الله المختار”،
وهو الطابور العربي الخامس للغرب عموماً وللمشروع الإمبراطوري الإسرائيلي، خصوصاً… أو هكذا يراد له أن يكون.
بعد كامب ديفيد بقيت مصر.
بل بقيت مصر وذهب السادات.
صحيح إنها بقيت ضعيفة، مهيضة الجناح، وإن الصلح المنفرد لم يغرقها بالمليارات، وإن الغرب لم يحولها إلى يابان جديدة أو ألمانيا جديدة،
لكن مصر بقيت وبقي المصريون فيها، يعملون أو يأملون أو يحلمون بيوم تستعيد فيه مصر عافيتها ودورها الذي لا يعوض عربياً وأفريقياً وإسلامياً وبالتالي دولياً،
لكن الخوف أن يذهب الصلح المنفرد الثاني بفلسطين وإن استبقى بعض الفلسطينيين كحرس حدود للكيان الصهيوني أو طباعة متجولين لترويج البضاعة الإسرائيلية وكرأس حربة لاختراق إسرائيلي واسع (بقوة الغرب كله هذه المرة) للنسيج الاجتماعي العربي.
وأخطر ما في هذا الانهيار الفلسطيني إنه يجيء في زمن فقد فيه الجسم العربي مناعته فصار قابلاً لالتقاط الجراثيم جميعاً،
إنه زمن الوباء الشامل يجيئنا من بوابة الصلح المنفرد!
ومسخ فلسطين إلى هونغ كونغ يحتاج إلى كل هذا الحشد الدولي،
إنها الحملة الصليبية الجديدة، حتى لو كان في عداد جندها، وفي المرتزقة، بعض العرب.

Exit mobile version