طلال سلمان

على الطريق من القمة ولجنتها الثلاثية إلى مجلس الأمن وصاية دولية على العرب بدلاً من حل عربي للبنان!

بين القمة العربية الاستثنائية بضيافة الحسن الثاني في الدار البيضاء، وبين الدعوة الاستثنائية لمجلس الأمن الدولي في نيويورك بالرئاسة الجزائرية وبالتحريض الفرنسي المكشوف، نشبت حرائق كثيرة في لبنان تسببت في العديد من التشوهات بحيث تكاد “مسألته” الآن تبدو مغايرة لحقيقتها أو للصورة التي كانت عليها قبل ثلاثة شهور إلا قليلاً.
لم يعد ثمة تقريباً من يذكر أو يتذكر أسباب الأزمة والتطورات التي فاقمت خطورتها إلى هذا الحد.
لم تعد “الحرب” بأسبابها العميقة والمتشابكة والمعقدة، الظاهرة والخفية، هي الموضوع بل صار الموضوع وقف اطلاق النار الفوري وغير المشروط (!!) إلا باستمرار “حرب التحرير”!!
وغابت كلمة “الحل” غياباً مفجعاً مخلفة وراءها الاعلان الصريح عن العجز وعن التبعية المطلقة لأصحاب القدرة، وهم هم أصحاب المصلحة في استمرار الحرب، بمناخها إن لم يكن بدوي مدافعها.
سحبت من التداول تلك المشاريع حول الاصلاح السياسي الذي أقر بضرورته جميع من تعاطى أو اقترب من المسألة اللبنانية، يستوي في ذلك قيادات الغرب في العواصم البعيدة وحكام العرب الصيد في العواصم القريبة.
واختفى أهم عنصر في سياق تطورات الأزمة وهو الفراغ في قمة السلطة وضرورة انتخاب رئيس جديد للجمهورية وقيام حكومة مركزية مؤهلة وموثوقة وقادرة على بعث الحياة في هياكل الدولة ومؤسساتها المهشمة أو المشوهة بالولادة.
تبدل جدول الأعمال جذرياً، بلا سبب مباشر وواضح، مما سد الطريق أمام اللجنة الثلاثية المبجلة فاستقالت… تاركة الحرب تلتهم من تبقى من لبنان واللبنانيين وانصرف أعضاؤها إلى مشاغلهم وأعبائهم الثقيلة والجليلة والتي تنوء بها الجبال!
لم تنفع المناشدات، ولم تفد التوسلات وصرخات الاستغاثة، وبيانات التأييد في استدرار عطف أمير المؤمنين – صاحب المغرب، ولا خادم الحرمين الشريفين ملك السعودية ولا حتى الرئيس الجزائري الذي يفترض أنه يختزن تراث ثورة المليون شهيد.
… فكان منطقياً أن “تكرج” كرة النار في الفراغ العربي في اتجاه مجلس الأمن الدولي.
وكان منطقياً أن يعيدها هذا المجلس الموقر مشفوعة ببيان مؤثر إلى اللجنة الثلاثية العربية بذريعة إن “الدول” تفضل عدم التدخل في الشؤون العربية الداخلية!
على هذا ليس من المستبعد أن تعود إلينا اللجنة الثلاثية قريباً وقد اعتمرت القبعة الافرنجية بدلاً من الكوفية والعقال، ولعلها سترطن هذه المرة باللغة الإنكليزية لأنها لغة عالمية بعكس لغة أمرئ القيس المهددة بالانقراض.
البعض فرح، الآن، لغبائه وقصر نظره، ويهلل لانتصاره بتدويل الأزمة،
والبعض الآخر متفائل، الآن، لسذاجته وتشوقه إلى السلام ولو مؤقتاً وهشاً، ويرى في نداء مجلس الأمن بداية طيبة لتناول جدية ومسؤول للأزمة اللبنانية،
وبعض ثالث منشرح الصدر لأن “الدول” وضعت يدها على الملف اللبناني، و”الدول” هنا اسم حركي للغرب ممثلاً بالولايات المتحدة الأميركية، وهذه “الدول” أكثر قدرة بما لا يقاس من “العرب” فهي في نهاية المطاف صاحبة القرار في شؤونهم وليس عليهم إلا الطاعة.
ومع إن في هذه التقديرات جميعأً شيئاً من الصحة إلا أن فيها قدراً هائلاً من التبسيط والتسطيح والتسرع في الاستنتاج،
فـ “الدول” موجودة في الأزمة، منذ البدايات البعيدة، بل لعلها قد أسهمت في اصطناعها ثم في تضخيمها تمهيداً لتوظيفها واستغلالها لخدمة مصالحها في المنطقة العربية الفسيحة والغنية.
و”الدول” قالتها بصراحة ووضوح قاطع وبصفاقة أحياناً، إنها غير معنية بحل الأزمة في لبنان، ولا تملك ما تقدمه للبنانيين إلا بعض التعاطف السمج وبعض المساعدات الإنسانية المهينة.
و”الدول” قالت، بلسان كبرائها وسفرائها وموفديها، إن أزمة لبنان لا يمكن فصلها عن الأزمة الكبرى التي تدوخ المنطقة وتحرمها العافية منذ أربعين عاماً أو يزيد، أي منذ قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين العربية،
ثم إن “الدول” كانت دائماً موجودة في القمم العربية، بل لعل معظمها قد عقد بناء على طلبها أو بإيعاز منها أو توسلاً لاسترضائها بالقرارات المناسبة واللازمة لضمان الأمن لإسرائيل وازدهارها الاقتصادي وتأمين استمرار تفوقها العسكري على الدول العربية مجتمعة.
وقمة الدار البيضاء، على وجه التحديد، داخل هذا السياق حتماً،
و”الدول” موجودة في اللجنة الثلاثية… بل إنها “ثلاثية” لأن “الدول” رفضت أن تقبلها رباعية كما كان الاقتراح الأصلي.
وهل أسطع دليلاً من كونها برئاسة الحسن الثاني وعضوية الملك فهد والرئيس الشاذلي بن جديد؟!
إنهم “الدول” شخصياً، يحظون برضاها، ولا يتورطون في ما يزعجها أو – لا سمح الله – بغضبها ويخرجها عن طورها، يقبلون ما تقبله ويرفضون ما لا تستسيغه، ويحققون مصالحها ويضمنون سلامة استمرارها بغير طلب وبغير تكليف.
ما الجديد، إذن، في اللجنة العربية الثلاثية الآن وقد دولت؟!
إنها لجنة “دولية” منذ اللحظة الأولى، لم تتحرك خطوة إلا بعد استئذان “الدول”، ولم تقدم على أمر إلا بعد الاستئناس والاستشارة، ولقد توقفت في وقت معلوم وبطريقة دراماتيكية تذكر بأفلام الإثارة والرعب لأنها خشيت من الزلل أو الخلل أو الخطيئة والعياذ بالله،
بل إن اللجنة المستقيلة من مهمتها النبيلة قد دفعت الأزمة في اتجاه التدويل ربما لكي تكتسب مشروعية التكليف “الدولي” بعدما أكدت جدارتها به،
فاللجنة، ومنذ البدايةن أي بعد ثلاثة أيام فقط من صدور قرار القمة حول لبنان، ارتكبت جريمة تحوير طبيعة الصراع في لبنان حين أسقطت منه العامل الأخطر والأشد تأثيراً: الاحتلال الإسرائيلي،
ألم يصف الحسن الثاني، في مؤتمره الصحافي الشهير، ما يجري في لبنان بأنه صراع سوري – عراقي ليس إلا؟!
ولقد جاءت النهاية، عبر تقرير اللجنة الثلاثية، مصداقاً في استنتاجاتها وتحديداتها للمنطق الملكي السامي،
… وعلى منوال اللجنة وبهدي تقريرها المستهجن سار مجلس الأمن فدوّل حرباً عربية – عربية فوق الأرض اللبنانية لا علاقة لإسرائيل بها من قريب أو بعيد،
العرب هو الذين “يدولون” خلافاتهم، إذن،
الخلافات العربية دولية، والعرب دوليون الآن!
تهرب من المواجهة الحتمية فتقع في الشرك، وبدلاً من أن تحل مسألتك بالتصدي لأسبابها مباشرة، تحملها وتذهب مستعطياً الحل فتفرض عليك الوصاية الدولية كأنك تحت سن الرشد.
ألم تؤكد، بتصرفك، إنك تحت سن المواجهة، إذن لا بد من وصي عليك، والوصي هو “الدول”، و”الدول” هي الولايات المتحدة الأميركية وأكرم بها وصياً على مصالح الشعوب وأمنها وأسباب تطورها وتقدمها.
يقولون الآن: أخيراً وضعت اليد الدولية على الملف اللبناني،
والحقيقة إن العرب، وضعوا أنفسهم، مرة أخرى، وبإرادتهم (؟) بل بطلب منهم، تحت الوصاية الدولية،
فلا هم يريدون أو يقدرون على الحرب، بل إنهم هاربون منها إلى ما هو أسوأ منها بكثير: إلى الاستسلام الذي يحرمهم شرف القتال والمحاولة ولا يوفر لهم حتى هناءة العيش، ولو تحت النفوذ الأجنبي،
… ولا هم مؤهلون لاستيلاد السلام في ما بينهم بما يقويهم في وجه عدوهم و”الدول” فيتقدمون بذلك خطوة نحو حل مشرف يأتي لهم – من بعد – بالسلام الشامل والعادل المنشود.
في أي حال فإن الذهاب إلى مجلس الأمن لا يقرب اللبنانيين من السلام الوطني المرتجى، بل لعله يفاقم من أزمتهم الداخلية، بقدر ما يعقد علاقتهم بالطرف العربي المعني والمتأثر مباشرة بهذه الأزمة، أي سوريا.
وصحيح إن الكيان اللبناني قرار دولي حظي من بعد بموافقة عربية أو بتسليم عربي، لكن قبول سوريا على وجه التحديد ظل شرطاً لوجوده.
وصحيح إن النظام اللبناني ينسب نفسه إلى “العالم الحر”، لكن هذا العالم نفسه – وبلسان واشنطن ذاتها – قال في هذا النظام السياسي الأشوه ما لم يقله غلاة المطالبين بالاصلاح من اللبنانيين،
هذا حتى من قبل أن يتم اختراع الجنرال المعجزة ميشال عون، ومن قبل أن يعلن حربه التحريرية ضد مواطنيه عموماً، يستوي في ذلك المطالبون بالاصلاح والمعترضون عليه!!
اللجنة العربية الثلاثية عائدة الآن بقرار دولي،
ولكنها لم تأت أصلاً إلا بقرار دولي، ولم تتوقف إلا بقرار دولي، ولن تستأنف نشاطها – إذا ما استأنفته – إلا بقرار دولي،
فما الجديد؟!
ومن قال إن أي حسم من الدور العربي لحساب “الدول”، سيكون في صالح لبنان الممزق وشعبه المشرد في أربع رياح الأرض ينتظر خلاصاً عجائبياً ما تصطنعه له الملائكة أو الشياطين لا فرق؟!
وبالطبع فإن الخلاص لا بد أن ينبع من الداخل، أولاً وأساساً، من اللبنانيين أنفسهم، بقواهم الحية، بإرادتهم الحرة، بمؤسساتهم الشعبية على كل عيوبها وعللها، بسياسييهم ورجال الدين بكل الملاحظات على سلوك هذا أو ذاك منهم.
وشرط الخلاص فهم الظروف الموضوعية وحقائق الحياة في البلاد تلك المتمثلة بتاريخها وجغرافيتها ومصالحها العليا.
وليس مجلس الأمن هو المكان الصالح، ولا النداء الإنساني المؤثر الذي أطلقه هو الإطار الصحيح لأي توجه نحو الحل، سيما وإنه توجه بالاهتمام إلى بعض النتائج، أي إطلاق النار والحصارات، وليس إلى الأسباب،
اللجنة الثلاثية العربية نعم،
ولكن على أي أساس؟! على أساس قرارها الشهي رالصادر في 22/5/89 بالدار البيضاء، أم بمجموع ما صدر عنها مجتمعة أو عن أعضائها الأصليين أو عن وزرائهم بعد ذلك من شروح وتفسيرات واستنتاجات أطاحت بالقرار نصاً وروحاً وتركتهم يهيمون على وجوههم في مصائفهم وقصورهم الجديدة والقديمة. في الوطن والمغتربات وتركتنا نحاول الهرب من الموت فننجح حيناً ونفشل أحياناً؟!
وهل كان العيب والقصور وعلة الفشل في القرار أم في اللجنة الفخمة القاب أعضائها الذين لم يكلف أحد منهم خاطره عناء الانتقال إلى ميدان الصراع، أو إلى ما يحاذيه من أرض… وأرض العرب واسعة ما شاء الله؟!
وهل تنجح اللجنة إذا ما تحررت من قرار القمة وتسلحت، بدلاً منه، بنداء مجلس الأمن ودعم “الدول”؟
وهل حجب هذا الدعم عن اللجنة بسبب من القرار، فأرادت التخلص من أعبائه عبر مجلس الأمن؟!
وماذا يتبقى من اللجنة إذا ما تخلت عن قرار القمة، وهل تبقى ممثلة للقمة، سيما وإن قرار تشكيلها محدد بتنفيذ قرار مكتوب باللغة الفصحة لتلك القمة التي لما ترض نتائجها “الدول” كما تبين في ما بعد؟!
اللجنة عائدة، مدولة هذه المرة، فأهلاً وسهلاً، وعساها تنفع في أن تكون لجنة للهدنة بعدما فشلت في أن تكون حاضنة للحل، بل وفشلت في أن تكون مجرد لجنة أمنية تنظم وقف إطلاق النار وتشرف على عدم خرقه برياً كان أم بحرياً أم شاملاً للأرض والبحر والسموات السبع!
مع التمني ألا تسبقها فتلغي الفائدة من عودتها بواخر السلاح والذخيرة، الآتية باسم “الدول” لتعزيز موقف الجنرال ميشال عون، حتى لا يسقط إذا ما تكررت عملية سوق الغرب التي هزت “الخطوط الحمر”… وهي هي حدود حركة اللجنة العربية الثلاثية ومداها الحيوي، بوصفها مضمون القرار الدولي باستمرار الحرب في لبنان إلى أن يتحقق السلام الإسرائيلي على امتداد الأرض العربية!

Exit mobile version