طلال سلمان

على الطريق من الطائف إلى الفاتيكان عبر باريس في انتظار الأذن بالعودة!

الكلام مثل “السيل” في الطائف، لكن السياسة ليست “رهينة” في قصر المؤتمرات، كما السادة البرلمانيين اللبنانيين، ولا هي ترتبط بما أنجزوه أو “يناضلون” لإنجازه، ولو على الورق.
ولقد طال زمن الكلام هنا حتى مله محترفو الكلام ومجه سامعوه، مباشرة أو بالواسطة، خصوصاً وغنه ليس “الحل” ولا بالضرورة الطريق إليه.. بل إنه طال حتى لم يعد ينفع في إشغال الوقت الضائع والهرب من الفراغ الممض!
والفراغ سجن، حتى لو كنت في قصر بلاطه رخام إيطالي. رياشه فرنسية من طراز الملك – الشمس، ثرياته كريستال وارد بوهيمياً، وفي مطعمه تتلاقى مطابخ الشرق بتوابلها المتعددة والنفاذة روائحها ومطابخ الغرب بالاستخدامات الكثيرة الأسماء للحم ذاته وللأسماك وسائر ثمار البحر،
وكلام السادة البرلمانيين اللبنانيين غداَ، بعد أن أدى غرضه، مثل تلك المياه في النوافير القائمة على شكل ورود أمام قصر المؤتمرات: ترتفع إلى مدى معلوم، وفي الهواء، ثم تنطوي لتعود إلى البركة فإلى الخزان لتعاون سيرتها الأولى: لا هي تنقص ولا هي تزيد، ولا تروي عطشاً ولا تروي زرعاً ولا تحفر في الأرض مجرى جديداً ينتفع به الناس.
وعبر البوابات المحروسة جيداً لقصر الكلام (حتى لا تتسلل لفظة أو فاصلة أو نقطة إلى الخارج، والعياد بالله) كثيراً ما شوهد بعض البرلمانيين يتأملون تلك النوافير التي تحدث من “الضجيج” مثل ما يحدثونه، ولكنها – مثلهم – تفتقد الجدوى إذا لم يكن خلفها علة وجودها أي القصر.
العلة في القصر، إذن، لا في النوافير، ولا في السادة البرلمانيين الذين يتزايد شعورهم بأنهم “رهائن” ذلك القابع في ملجأ القصر الآخر، البعيد، ينتظرون إذنه بالعودة إلى بيوتهم، إلى ذواتهم، إلى السياق المألوف لحياتهم بظروفها الاستثنائية والخارجة على كل المألوف.
الفراغ مفسدة، ثم إنه باب عريض تقتحمه الهواجس والتصورات المقلقة والمخاوف التي سكنتها الدعوةوتستثيرها الآن فكرة العودة وسط عواصف التهديدات التي يطلقها “الجنرال” ويعممها أولئك المنتفعون بوجود “الجنرال” والذين يعظمون دوره لكي يرفعوا من سعره فينتفعوا ببيع جلده في المزاد.. الدولي!
الدول… آه، الدول، أين هي الدول، وهل ترى مشاغلها قد أسقطتنا من ذاكرتها فلم تعد معنية بنا وبما يصيبنا، أم إنها سلمتنا إلى أقدارنا معتبرة إن لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا؟!

آه من الدول التي هي كالمرأة شركلها، ولكنها شر لا بد منه!
السادة البرلمانيون يتابعون هنا كل تصريح، كل بيان، كل كلمة تصدر في عواصم القرار و”المحترفون” منهم و”الطامحون” لا يكتفون بالسماع أو القراءة السيارة، بل هم يطلبون النصوص وبلغاتها الأصلية حتى لا يكون ثمة مجال للتحريف أو التاويل أو سوء التفسير.
ولقد سمعوا ما يطمئن من موسكو، وسمعوا ما يرضي عن واشنطن، وسمعوا ما يؤكد الاهتمام في لندن، ولكن صمت باريس يقلقهم جداً… خصوصاً وإن باريس قد تولت، منذ إعلان “الجنرال” حربه على الولايات المتحدة الأميركية، مهمة ترويض “قائد حرب التحرير” وتدجينه وغسل الدم عن يديه وثوبه ليصير مقبولاً في نادي السياسة والحكم في لبنان الجريح!
باريس صامتة، فإن هي نطقت قالت ما معناه إنها قد “نصحت” وإنها لا تملك أن تفعل أكثر… إلا إذا أعطيت أكثر!!
ماذا تريد باريس، تماماً، وممن؟!
الأمر يتعدى السادة البرلمانيين وما يستطيعون أن يعطوه،
الأرجح أن الطلب موجه إلى دمشق، ولعله يتصل برئيس جمهورية المستقبل، في لبنان، أو هذا ما يعتقدونه هنا،
.. ولكن ماذا يملك النواب إزاء دمشق؟1 أم ترى الخطاب موجه إلى الطائف ومن فيها؟
والطائف عاتبة، ومعها اللجنة العربية الثلاثية، وثمة من يقول إن فرنسا تبتز السعودية وسوريا وسائر العرب عبر لبنان،
وبرغم إن السعوديين يدارون “إحراجاتهم” الدبلوماسية بالكتمان، فقد أحرجتهم فأخرجتهم مماطلة الأطراف الأخرى في “التوافق العربي الدولي” حول صيغة التسوية في لبنان،
من هنا ظهرت بعض صحفهم، المحلية و”الدولية” أمس، بكلام صريح يحذر، ولأول مرة ، من الفشل ومخاطره، ويحمل المسؤولية سلفاً للغير، من اللبنانيين و”الدول”.
“إذا وقع الفشل نكون قد أدينا ما علينا، ولن ننفض أيدينا..
“وهي ليست مسألة نجاح للسعودية أو فشل لها، فالنجاح أمر لا يمكن أن ندعيه أو نستأثر به، والفشل هنا مأساة إضافية لشعب غارق في المآسي، وبالتالي فإننا لن نقبله حداً أخيراً في حدود العمل من أجل السلام.
“… والطائف ليست نهاية المطاف”!
إنه إنذار، ولكن بلغة “ملكية”، وهو ليس موجهاً بالتأكيد إلى البرلمانيين اللبنانيين بذاتهم، بل إلى من يقف خلفهم وعن يمينهم وعن يسارهم ويحد من قدرتهم – المحدودة أصلاً – عن الإنجاز ولو على الورق.
وما تقوله السعودية بالتلميح، “يهدر” به الجزائريون بغير تحرج، أما المغاربة فيعتصمون بحبل الصمت والصبر آملين أن ينتهي الأمر، ذات يوم، فيرتاحوا بعد طول عناء،
قلة بين “البرلمانيين” المستشعرين عبثية الكلام تحدد مصادر خوفها، وترابط بين “الصمت المريب” في الخارج، و”التهديدات” المدوية الصادرة عن بعض “الأقوياء” في الداخل، وفي الطليعة منهم “جنرال التحرير”.
ولقد طفح الكيل بالدكتور جورج سعادة، أمس، فقالها صريحة إلى حد الفجاجة: “من الظلم أن تلقى على كواهلنا الضعيفة مسؤولية خطيرة وشائكة ومعقدة كتلك التي تعنيها مسألة السيادة، ومن الضروري أن تشرك القيادات والفاعليات والقوى في هذه المسؤولية التاريخية الجليلة…”.
أينك يا فرنسا، بدالتك على بعض الأطراف “المخيفة”؟!
أينك يا الفاتيكان، بنفوذك الذي تعودناه مصدراً للطمأنينة؟!
بل أينك يا غبطة البطريرك.. أينك عن لبنان، وأينك مما يجري فيه، وأينك مما يدبر لنا ولما كلفنا بإنجازه؟!
أينك لا توفر لنا الغطاء الموعود، سيما وإنك في ضيافة الحبر الأعظم الذي كاد “يقتحم” لبنان لكي يغطينا ببركته الواسعة؟!
لقد جرب البعض، فاتصل بالبطريرك آملاً أن يسمع منه ما يطمئن، فإذا هو لا يسمع إلا تلك الوصايا التي يحفظها غيباً والتي لا تنفعه كثيراً في بيروت فكيف في الطائف؟!
وثمة من يقول إن الاتصال الوحيد الذي تعذر إتمامه كان ذلك الذي حاوله حسين الحسيني لوصل ما انقطع وتجديد التعاقد وتثبيت الجوامع المشتركة التي تشكل مرتكزات الصيغة العتيدة.
ثمة من يذهب أبعد من ذلك، ربما بتأثير المخاوف، فيطرج أسئلة وتساؤلات كثيرة تبدأ بسبب خروج البطريرك الماروني من لبنان، في هذه الظروف، وتنتقل إلى صمت البطريرك في حين يحتاج النواب كلمة منه أكثر مما احتاجوها في أي يوم، لتنتهي بإظهار القلق من “أن يكون البطريرك الماروني يخاف مثلنا من العودة وميشال عون حيث هو، في ملجأ القصر الجمهوري ببعبدا”.
يقول قائلهم: من تراه يعطي الأذن بدخول البيت في الحازمية واليرزة وبعبدا ومارتقلا والرابية والنقاش، وحتى في الكفور وعجلتون وريفون ويحشوش، إضافة إلى جونيه وحارة صخر وسائر الضواحي بما فيها تلك التي تنام في حضن بكركي؟
المشكلة هي المشكلة، والحل هو الحل، والحل أخطر من أن يترك للطوائف، بما فيها “الطائفة العظمى”.
فالطوائف ولادة مشاكل، أما الحلول فتجيء من خارجها وعلى حسابها وتفرض عليها فرضاً، ولو بصيغة تسوية.
الطائفي لا يتحدث ولا هو يتقن الحديث بغير “اللغة” الطائفية، حتى لو أراد…
ولقد “استفز” النقاش حول إلغاء الطائفية السياسية، بالمنطق الطائفي المحموم إياه، أعضاء اللجنة العربية الثلاثية، وكان تعليق وزير الخارجية الجزائري طريفاً وبليغ الدلالة.
قال سيد أحمد غزالي إنه استذكر وهو يسمع الطائفيين يتناقشون في إلغاء الطائفية السياسية حكاية فرنسية (للأطفال) تقول ما مفاده: “إن المدرس، في زمن الاقطاع، طلب من تلامذته أن يكتبوا موضوع إنشاء يصفون فيه أحوال أسرة معدمة، وكان بين التلامذة ابنة أحد النبلاء، فكتبت موضوعاً استهلته بالقول: كانت هناك أسرة فقيرة فقيرة، الأب فقير، الأم فقيرة، الأبناء فقراء، السائق فقير، مدبرة المنزل فقيرة والخدم فقراء فقراء…”.
كل يستخدم اللغة التي يتقنها، ويصف حياة الآخرين بمواصفاته من غير أن يستشعر فداحة التناقض بين الكلام والموضوع الأصلي، أو بين المنطق الذاتي والواقع الموضوعي.
المشكلة هي المشكلة، والحل هو الحل،
… والمشكلة، بالنسبة للبرلمانيين اللبنانيين المتواجدين الآن في الطائف هي “شروط” العودة إلى البيت، إلى الأسرة، إلى الذات وإلى الدور المطلوب، مع الوعي بأن هذا الدور يلغي أدواراً خطيرة لقيادات تخصصت في اغتيال المنطق وتدمير الدولة ومؤسساتها لاسيما تلك التي لها صلة ما بأي شكل من أشكال الشورى وحريات الآخرين والديموقراطية.
لقد أدى المؤتمر في الطائف، وإلى حد كبير، الغرض منه.
ناقش البرلمانيون وثيقة من جزأين: الأول داخلي ولهم حق الرأي والقرار فيه، ولو من حيث المبدأ، والثاني له طبيعة التعاقد بين دول، عربية واجنبية وعظمى أساساً.
فأما ما يعنيهم مباشرة، وما يملكون أن يقولوا أو يقرروا (نظرياً) فيه، فقد أوفوه نقاشاً حتى توافقوا عليه (بالجملة)… لم يتركوا عبارة أو جملة أو كلمة أو فاصلة إلا وأشبعوها درساً ووضعوا لها التفسير المحدد، وأقاموا الحدود من حولها حتى لا تكون حمالة أوجه،
أما التعاقد العربي – الدولي فهم – على قوتهم – أضعف من أن يقرروا فيه، خصوصاً وغن اللجنة أبلغتهم مراراً وتكراراً أن نصوص الجزء الثاني من الوثيقة العربية للوفاق الوطني في لبنان، أي ما يتصل بالسيادة والانسحابات والعلاقات اللبنانية – السورية، قد تطلبت جهوداً مكثفة واتصالات شملت مراكز القرار في العالم أجمع، ومفاوضات صعبة مع دمشق، حتى أمكن الوصول إلى صيغتها الدقيقة التي ينسفها تحريك سطر فيها، لأن كل كلمة درست بعناية شديدة واختيرت بعناية فائقة كونها تلخص موقفاً لدولة أو التزاماً لطرف دولي.
على هذا لم يبق إلا تهيئة “الجول” للعودة بالسلامة،
وقديماً قيل: تكسب الحرب يا بني عندما تعود إلى منزلك…
والسادة البرلمانيون لا يفعلون هنا غير الانتظار، انتظار ضمان سلامة العودة.
وهم يطلبون هذه الضمانة من تلك القوى والجهات التي ضمنت لهم سلامة الخروج من بيروت والوصول على قصر المؤتمرات في الطائف.
من هنا يتزايد شعورهم إنهم رهائن “الجنرال” (وشركاه) حتى وهم خارج “دويلته” ومدى مدفعيته…
فالطائف ليست نهاية المطاف.
لكن “الجنرال” يعرف إن من في الطائف هم الذين سيكونون الرافعة أو “الونش” الذي سيسحبه من ملجأ القصر الجمهوري ببعبدا، لفتح الطريق أمام “العهد الجديد” الآتي باسم “التعاقد العربي الدولي” وعلى قاعدة الوفاق الوطني المكرس – شرعياً – في مؤتمر البرلمانيين اللبنانيين بالطائف.
… ومخرج النجدة من الطائف ، بالنسبة للمتضررين من التسوية العتيدة، هي “حقوق الطوائف”، وبالذات امتيازات الطائفة العظمى التي يحمل “الجنرال” الآن سيف الذود عن حياضها، بحماية الإصرار الفرنسي على دور خاص ومتميز، وصمت الفاتيكان وضيفه البطريرك الذي يمضي خريفه “رهينة” في عاصمة الرومان.
وفي غياب “الأذن بالعودة” يمضغ من في الطائف الفراغ ويمضغهم، فيلتهم إضافة إلى الإحساس بالدور والجدوى الأبعاد والأحجام، فإذا التفصيل أساس، وإذا الشكل جوهر، وإذا “الشبح” أخطر من الرجال المن لحم ودم وافكار وعقائد وتاريخ نضالي عريق.
وأيها المحسنون: لله، وبالله، ومن أجل خاطر الله، إذن بالعودة، يرزقكم الله بدله أذناً بدخول الجنة،
والحسنة بسبع. أمثالها، أيها المؤمنون!

Exit mobile version