طلال سلمان

على الطريق من الخميني إلى “أبو موسى”

قبل ثلاث عشرة سنة، إلا قليلاً، قصدت إلى “نوفل لي شاتو”، في ظاهر باريس، للقاء مع الإمام الراحل روح الله الموسوي الخميني، في جملة من قصد هذا القائد الإسلامي العظيم في منفاه لكي يتعلم منه الكثير، ولكي يكتشف أن الثورة لا علاقة لها بالإعمار بل بالإيمان وبالإنسان.
وأذكر أني طرحت مسألة الخليج مع ذلك الداعية النادر المثال في التاريخ الإنساني، إذ لم يعرف عن عجوز بمثل عمره، إن قاد وفي مثل الظروف التي كان فيها الخميني، شريداً طريداً وبغير رصيد أو جهة داعمة، ثورة من المنفى ضد واحدة من الإمبراطوريات العاتية وضد حاكم نصب نفسه – من موقع الرهينة للغرب – شرطياً قامعاً لطموحات شعبه وحقوقه وكذا للشعوب المجاورة.
بدأ الجدل حول اسم الخليج، وهل هو “العربي” أم الفارسي،
ولقد ابتسم الوجه العبوس، وبرقت العينان بشيء من الحبور والإمام يجيبني بهدوء: – وهل تستحق التسمية مثل هذا الخلاف بين أخوين؟! يقولون إنه “الاسم الجغرافي” لهذا الخليجن ولقد عرفناه به.
وانتهى الجدل بأن وافقني على أنه من الممكن أن يسمى “الخليج الإسلامي” إذا كان هذا ينهي الإشكال ويحمي علاقة حسن الجوار مع العرب من أهله على الضفة الأخرى.
وفي لقاء قبل أيام مع القائم بالأعمال الإيراني في بيروت، علي أصغر زاده، كان موضوعه الأزمة التي أثيرت فجأة مع دولة الإمارات العربية المتحدة، استخدم كلانا تسمية مختلفة للخليج، فهو “الفارسي” عنده “والعربي” عندي، وكان أن توافقنا ضمناً على الاكتفاء بكلمة “الخليج” من غير صفة حتى لا تشجر أزمة إضافية!
ولقد سادت لهجة الدبلوماسي الإيراني تعابير الاستغرب لتضخيم هذه الأزمة، التي وافقني على أن ثمة أطرافاً غريبة عن الجانبين ستكون هي المستفيدة النهائية منها، وإنها ربما تكون فخاً لإيران تتجاوز أهدافه تعكير العلاقات العربية – الإيرانية إلى محاولة إكمال طوق الحصار على الجمهورية الإسلامية واستدراجها إلى معركة لا مبرر لها مع جار صديق لم يصدر منه مطلقاً ما يؤذي إيران، لاسيما بعد ثورة الخميني وإسقاط الشاه.
… واستكذر بين ما قاله الخميني، في اللقاء معه في منفاه الفرنسي ، قبل ثلاثة عشرة سنة: – لا تحملونا أخطاء هذا الفاسق (الشاه)… لسوف تمحو الثورة، غداً، سيئاته تجاه الإيرانيين كما تجاه أخوتهم في الإسلام وجيرانهم في الأرض، العرب،
وأزمة الجزر الثلاث، واحداها “أبو موسى”، هي بعض التركة الثقيلة التي خلفها الشاه لحكم الثورة الإسلامية، والغريب. أن تكون قد بقيت بلا حل حتى الآن.
يقول مسؤول كبير في دولة الإمارات: – في البداية انتظرنا استقرار الأمور في إيران الثورة، وقدرنا إن الثوار الآتين باسم الإسلام سيبادرون إلى إنهاء هذه الأزمة التي افتعلها الشاه افتعالاً وبدوافع أطماعه الإمبراطورية، فالكل يعرف أن الجزر الثلاث عربية، وإن السكان القلة فيها، وتحديداً في “أبو موسى”، عرب أقحاح وتابعيتهم لإمارة الشارقة التي كانت قد غدت ضمن دولة اتحاد الإماراتز
يضيف المسؤول الإماراتي الكبير: – بعد الثورة بوقت قليل بدأت الحرب العراقية – الإيرانية، واتخذ الشيخ زايد بن سلطان، رئيس دولة الإمارات، موقفاً متميزاً وشجاعاً، إذ رفض الانحياز إلى صدام حسين، برغم الادعاءات القومية، وحرص على أن يرعى بنفسه علاقات حسن الجوار مع إيران، فظلت موانئنا مفتوحة لإعادة تصدير البضائع والسلع التموينية إليها، وحاولنا جهدنا أن نقوم بدور في حصر النار والضرر، أكثر من ذلك، رفضنا محاولات صدام حسين لإثارة مسألة الجزر والمطالبة بها، وعرضه مساعدتنا لاستعادتها بالقوة، ثم ضغطه علينا لمنحه التفويض باستخدحامها لأغراضه العسكرية، ودائماً تحت لافتة القومية وحماية عروبة الخليج.
“كنا نتصرف على أساس أن موضوع الجزر خارج دائرة الحرب، وإننا قادرون على حله ودياً، وفي إطار حسن الجوار، مع إيران، فالحرب ليست قدراً، ولن تدوم إلى الأبد، بينما الشعوب باقية وكذلك الأرض.
“وانتهت الحرب العراقية – الإيرانية، فأعددنا ملفاتنا بأمل طرح الموضوع مع إيران، مفترضين إنها ستستجيب لطلبنا المحق بلا تردد، ولو من باب رد التحية بمثلها… ولكن سرعان ما نشبت حرب الخليج الثانية، والتي تسبب فيها أيضاً صدام حسين، وتوقفنا مضطرين، وتحت ضغط الزلزال الجديد المدمر، عن إثارة حقنا في جزرنا، وهو حق موثق ومثبت لدى جامعة الدول العربية كما لدى الأمم المتحدة.
ويختم المسؤول الإماراتي الكبير بالقول: – لم نصدق ما جرى في شهر آب الماضي، حين أقدمت القوات المسلحة الإيرانية على تصرفها الأخرق حيال القاصدين إلى جزيرة “أبو موسى” ، وكلهم موظفون لدى دولة الإمارات أو من رعاياها، وهي المسؤولة عنهم… وللمناسبة، فليس صحيحاً أن أياً من هؤلاء كان يحمل سلاحاً، أو أنه أوقف، فلتعرض إيران هؤلاء الأجانب المسلحين، مع ملاحظة إن أي دولة في العالم لم تقل إن مواطناً لها قد اعتقل في إيران، والكل يعرف أن معظم دول الغرب لا تكن وداً لطهران، وبالتالي فهي لا يمكن أن تجاملها بالسكوت عن اعتقالها لأي مواطن منها”.
وخلال المحادثات في دمشق مع القيادة السورية التي اندفعت إلى بذل مساعيها الحميدة لتسوية الأزمة سلمياً، كان منطق الإمارات واضحاً ومحدداً: نعرف أن قوى أجنبية كبرى على رأسها الولايات المتحدة الأميركية قد تستغل هذه الأزمة للإيقاع بإيران، وبنا، ونحن لا نريد شراً بإيران، ولا نقبل بأي حال أن نستخدم كمخلب قط للأجنبي، ولكن السؤال الذي لا بد من طرحه على المسؤولين في طهران: لماذا افتعلوا، لأنفسهم ولنا، هذه الأزمة التي نعرف كيف بدأت ولا نعرف كيف يمكن أن تنتهي؟! لماذا يسيرون إلى الفخ، إذا ما سلمنا بأنه فخ، بإقدامهم وبكل هذا التعنت؟!! لقد حلوا مشكلات أكثر تعقيداً مع تركيا، على سبيل المثال، وبشيء من التنازل عن بعض مقتضيات السيادة، فلماذا يستقوون علينا وينازعوننا حقنا على السيادة على أرضنا؟!”
هل ينجح لقاء أبو ظبي، الذي بدأ أمس، في إنهاء هذا الإشكال الذي ينذر بالتحول إلى مأزق لن تجني منه إيران أو دولة الإمارات إلا الويل والشر وزيادة مساحة النفوذ الأجنبي في المنطقة؟!
ومرة أخرى، فطهران تعرف – كما يعرف العرب والعالم – أن الشيخ زايد ليس صدام حسين.. فلا هو بالمعتدي ولا هو بالمتواطئ مع الأجنبي على إيران الثورة الإسلامية، ولا يمكن اتهامه بأنه طامع بأرض إيرانية أو سيء القصد تجاه “جارته الكبرى” التي نصرها في أيام محنتها، ورفض الانحياز ضدها إلى “أخ شقيق” نصب نفسه حامياً للبوابة الشرقية، فإذا بن ينتهي وقد شرع كل أبواب الأمة للأجنبي الطامع ومكنه من انتهاك أرضها وكرامتها وحرمة قرارها وأعادها إلى ذل المحميات.
وما زال ممكناً إنهاء الأزمة بإنهاء الأسباب التي أدت إليها،
وهذا قرار تملكه طهران، والكل يأمل أن تبادر إليه، وبأقصى السرعة، ليس فقط بدافع الحرص على الإمارات وسيادتها، بل أساساً بدافع الحرص على إيران وثورتها الإسلامية التي رأى فيها العرب نوراً مضيئاً ويتمنون – من أعماق قلوبهم – ألا تتحول إلى نار حارقة، تؤذي أول ما تؤذي أهلها على الضفتين.

Exit mobile version