طلال سلمان

على الطريق من الحرم الإبراهيمي إلى كنيسة الذوق: للحزن ملامح الأنبياء…

الأحزان لا تأتي فرادى. وللحزن هذه الأيام ملامح الأنبياء وللصلاة والتراتيل هسيس الدم وهو يسيح ليوشي الآيات البينات في “المصحف” ووصايا السيد المسيح التي استهدفت “إكمال الناموس”.
للحزن وجه عربي الملامح، يطفئ نور العينين الانكسار، ويحفر الإحساس بالهوان والضياع وافتقاد الخيار أخاديد عميقة في الوجدان المكلوم.
الدم واحد، القاتل واحد، الهدف واحد، لكن الضحايا يشيّعون فرادى فلا يجتمعون في قضيتهم ويلوذ بعضهم بخوفه بدل أن يخرج على عدوه شاهراً غضبه سيفاً من نار.
والعدو مطمئن : يضرب مستدرجاً الفتنة، واثقاً من أن لا قدرة لدى “عدوه” على الرد. ثم أنه يعادي فلا يُعادى كلية ويظل في الأمر “رأيان” وربما أكثر.
وأخطر ما في الوضع أن العدو مستوعب سلفاً رد الفعل المحتمل بل لعله مستفيد من “ردود” الفعل متى تعددت.
لا رد على الأرض بالدم بحيث لا يذهب هدراً، ولا قدرة على الرد المناسب سياسياًن بل نتلبث منتظرين ما سيصدر عن واشنطن والفاتيكان وسائر “عواصم القرار”، فمتى قالوا (ومعروف سلفاً ما سيقولونه) تفرّقت صفوفنا وضاع المجرم الأصلي والتفت بعضنا إلى البعض الآخر شزراً وكأنه سبب نكبته!
يضرب العدو حيث يشاء في صحراء الصمت والعجز واليأس من الذات. والناس مجدر أسماء مرشحة لقاتمة الموت الجديدة.
وللعدو أسماء كثيرة ومبررات أكثر لكي يقتل المزيد منا.
في الحرم الإبراهيمي بالخليل يصير “القاتل – الدولة” رجلاً فرداً مخبولاً، وهو قد ترك الجحيم الأميركي إلى النعيم الإسرائيلي، ولشدة حرصه على هذا النعيم واستقراره فيه قرر – منفرداً!! – إبادة “الهنود الحمر” من أهل البلاد الأصليين.
وفي ذوق مكايل، بوابة كسروان في قلب جبل لبنان، يجيء العدو متنكراً في ثياب مرتزق عميل، لا وطن له ولا دين، لا أصل له ولا ولاء لعقيدة أو لأرض، فيضرب ثم ينسل عائداً إلى حضن من أوفده واثقاً من إخفاء معالم الجريدة وحماية من استخدمه.
“الله ينجينا من الأعظم.. والحمد لله أن بقية العبوات أو القذائف لم تنفجر وإلا لكانت المذبحة أفظع ولارتفع عدد الضحايا ليصير بعدد المصلين”..
نعيش دائماً في ظل توقع الأسوأ، ونعيش أسرى السؤال المحض: أين ستكون الضربة التالية؟!
لا نكاد نرفع رؤوسنا حتى نضطر إلى طأطأتها من جديد. ولا نجد من نتجه إليه بطلب النجدة، أو حتى لكي يسمع شكوانا. لقد أضجرنا الدنيا واستنفدنا كل مشاعر التعاطف والتأييد والإشفاق. لم يعد يسمعنا أحد. والشفقة ساحقة، وليس بعدها إلا الاحتقار وتجاوز المظلوم والظلامة إلى ذلك المنتصر أبداً، في كل ميدان، والذي يفرض رهبته على الجميع فيتهيبونه ويشاركون في التخفيف عنه بإخفاء جثث الضحايا حتى لا يتهمهم بالتعاطف معهم فيقتص منهم وأي اقتصاص!
لم نعد مظلومين. سحقتنا المهانة فلم يعد الجرح يؤلمنا، وبتنا نداري جراحنا حتى لا يراها الآخرون فنصغر في عيونهم إلى حد الاضمحلال. الظلم يولد الثورة، ونحن لا نثور، فبديهي بأننا نستمرئ ما نحن فيه فلماذا يطلب لنا الخارج ما لا نطلبه لأنفسنا؟!
من بحيرة دم إلى بحيرة دم تمتد آثار أقدام الجاني وتحمل الريح اسمه فتنشره في كل ريح: إسرائيل، إسرائيل، إسرائيل!
عطلت إسرائيل سبتها ثم أكملت الأحد ما بدأته الجمعة، وامتد نهر الدم المسفوح غيلة من الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل الفلسطينية إلى كنيسة سيدة النجاة – الوطى في مدينة ذوق مكايل اللبنانية.
إنها المحاولة الإسرائيلية الثانية لاغتيال الله والأنبياء والرسل والصديقين خلال ثلاثة أيام.
وبين الشهداء الذين نشيّعهم سور من لاقرآن الكريم وإصحاحات من الإنجيل المقدس. لقد تضمخت الآيات المباركة بعطر الشهادة فازدادت توهجاً: نور على نور.
من قلب الحزن النبيل والشامل يولد الوطن.
قدرنا أن نكبر في حضن المأساة القومية، وأن يطهرنا دمنا فيوحدنا في وجه العدو الذي يذكرنا كل لحظة، وفي كل مكان، أنه يريد لنا الموت جميعاً، وأنه يقصدنا حيث نحن، في بيوتنا، في قرانا، في المدن، في مراكز التجمع كلها بما في ذلك الكنائس والمساجد، من أقصى الجنوب إلى بيروت ومن “قلب لبنان” الجبل إلى سائر الأطراف… بل من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق العربي.
لا فرق لديه بين فلسطيني وبين لبناني ، بين مسلم وبين مسيحي، ولا حتى بين متساهل إلى حد التفريط وبين متشدد إلى حد التوريط. إنه يريد الاستسلام شاملاً مطلقاً وبغير قيد أو شرط. ويريد المنطقة أرض فضاء يأخذها بكليتها، قرارها السياسي كما إمكاناتها الاقتصادية، مواردها المائية كما ثرواتها النفطية وأهلها الأرقاء!
إنه يضرب فجر الجمعة، النصف من رمضان، المصلين الصائمين في الحرم الإبراهيمي، كما يضرب صباح الأحد، المصلين الصائمين في كنيسة سيدة النجاة في وطى الذوق.
ولقد وصلت الرسالة. وكما أصيب كل فلسطيني برصاص الإرهاب الإسرائيلي الذي خرق حرمة المقام والنبي والدين في بيت الله، أصيب أيضاً كل لبناني بانفجار القتل الجماعي الذي استهدف اللبنانيين جميعاً، وعلى اختلاف معتقداتهم الدينية عبر كنيسة الرهبنة المارونية المريمية في تلك البلدة الوادعة من أعمال كسروان.
نكاد نحترف الحزن. لا نخرج من حداد إلا إلى حداد. والحداد ملجأ الضعيف العاجز وقد نزع منه سيفه وترك عارياً في مواجهة الطاغوت المدجج بأسلحة الموت لاأميركية.
نكاد لا نفرغ من دفن قتلانا حتى ننهمك في تشييع كوكبة جديدة من الشهداء.
والأبشع أن بيننا من يعتبر أننا قد خرجنا من الحرب، أو أن الحرب قد انتهت وأننا على عتبة السلام.
ولأننان تفترض أنه “السلام” فإننا نتساقط فرادى وكأننان بلا قضية، لكأنما حرمنا من شرف الموت بعدما حرمنا من شرف الحياة الكريمة.
محرومون من الحرب، مقصرون عن بلوغ السلام، لكن الموت الإسرائيلي يفرد جناحيه فوقنا ويأخذنا أفراداً وجماعات وبالمجان.
فإذا ما حملنا السلاح احتربنا، وإذا ما قوتلنا توزعنا طوائف ومذاهب ومناطق، فإذا شهيد الجنوب شيعي وشهيد البقاع الغربي سني وشهيد كسروان ماروني ولا صلة قربى بين الشهداء!!
وكلما سقط منا المزيد من الضحايا فاوضنا العدو على جلد من تبقى منا حياً!!
إنه يفاوضنا على دمنا. يهدره هنا ويطالبنا بتعويضه عنه في واشنطن من أرضنا ومستقبلنا فوقها، وإلا هدر المزيد منه.
الحزن نهر دافق، نتجرعه كل ساعة فلا هو ينقص ولا نحن نمتلئ.
نغسل وجوهعنا كل يوم بدمائنا، فإذا ما تقابلنا كاد كل منا ينكر صاحبه، وكدنا ننسى أن السفاح واحد، وأنه يريد من كل منا استسلامه الخاص ممهوراً بدمه.
والخوف أن يدفعنا العجز عن مواجهة العدو لأن ننتقم من أنفسنا، فنكمل ما بدأه بأن نحوّل الجريمة إلى فتنة، ونحول التقصير إلى مبرر إضافي للاستسلام، فنقتل بأيدينا ما عجزت يده عن الوصول إليه في صدورنا ووجداننا، أي إرادة الحياة والرد على التحدي بالتوكيد على الوحدة وتعزيز موجبات الصمود.
الخوف أن يأخذنا التوتر والانفعال وحمى التعصب إلى حيث يريد لنا العدو أن نذهب، فنبرئه باتهام أنفسنا، ونعفي العالم من مسؤولية إدانة قاتلنا ومحاسبته بأن نتبرع بتحميلها لبعضنا البعض، فنقتل ذاتنا مرة ثانية… ولحسابه”!
والخوف أيضاً أن نغرق في التفاصيل وأن نتصرف بالعقل المياوم فلا نتحوّط لاحتمالات استغلال الجو المسموم، ونستمر في التسلي بفولكلور الصراعات اليومية التافهة والحزازات والنكايات الشخصية التي تكبر شعاراتها لتخفي صغارة أصحابها.
الخوف من أن تروج مجدداً تجارة الاتجار بالجثث، ولقد شهدنا فصولها مراراً وإلى حد الغثيان.
الخوف من تغليب الغرض الشخصي على سلامة الوطن وشعبه، فنساعد على خلخلة كيان الدولة الهش، أصلاً، بدل أن نلتف حولها ونقويها فنحميها حتى لا يتهدم الهيكل على رؤوسنا جميعاً.
فليس اكتشافاً للبارود أن نعتبر الحكومة أضعف من أن تواجه عمليات دقيقة التنظيم والتنفيذ ومموهة الأدوات وملتبسة في ظروفها ومعطياتها كمذبحة الهيكل في كنيسة سيدة النجاجة.
الوطن هو المستهدف، وبشعبه كله.
والرد يكون باسم الشعب ولمصلحة الدولة وليس على حسابهما.
ملحوظة:
جيد أن يكون الانتخاب الفرعي في الشمال قد استمر طبيعياً حتى اللحظة الأخيرة برغم المأساة.
ذلك ضروري للنجاح في امتحان الداخل للداخل.
وذلك ضروري لتوكيد علاقة الشعب الحميمة مع الديموقراطية وتمسكه بها.
أما في كنيسة النجاة فهو امتحان للداخل في مواجهة العدو، و”الجهاد الأفضل” أن ننجح فيه.

ملحوظة ثانية:
ليس أهم من أن تتأكد وحدة لبنان اليوم عبر الحداد الوطني العام. طالما استحال علينا التوحد في ظل الفرح فلنترك للحزن النبيل أن يوحدنا فوق الأرض التي لا حياة لأي منا إلا فيها وعليها وبها.

Exit mobile version