طلال سلمان

على الطريق مناقشة هادئة لطروحات الجنرال المهووس

تفرض الضرورة أن تنتشل من بين الركام بعض البديهيات التي تكاد تنسى أو تسقط من الحساب مع إن أي حساب لا يمكن أن يستقيم من دونها،
من تلك البهيديات:
1 – إن الحرب ليست أمنية أو مطلباً لأي لبناني عاقل، بل هي كابوس و”كريهة” كما كان يسميها العرب، مرفوضة ومدانة كأسلوب لتحقيق الأغراض والمطامح السياسية حتى لو كانت سامية، فكيف إذا كانت الأغراض بحت شخصية مصدرها الهوس بالسلطة؟!
2 – إن ضحايا الحرب أخوة في الموت بعدما تعذر عليهم أن يمارسوا أخوتهم في الحياة، الكل خسارة للوطن وأهله لا فرق بين مسلم ومسيحي، ولا بين من تشطره القذيفة وبين من تمزقه السيارة المفخخة، أو رصاصات كاتم الصوت.
3 – إن كل مرفق يدمر إنما يخسره الوطن ويخسره المواطن الذي اقتطع تكاليفه من قوت عياله، وهو سيعود فيدفعها مرة أخرى لإعادة بناء ما تهدم. يستوي في ذلك المطار والمرفأ، المدرسة وخزانات النفط، المستشفى ومستودعات الغاز.. الخ.
4 – إن كل بيت، يهدم أو يتصدع، كل شجرة تحترق، كل سيارة تذهب طعماً للنار، كل لوح زجاج يتناثر شظايا تفرش الشارع بالمكعبات اللامعة كما الدمع المتجمد، كل ذلك خسارة إضافية يتحملها الوطن بمجمله لأنها بعض الثروة القومية لأهله المنكوبين.
5 – إن الجيش بطرفيه، في الشرقية والغربية، هو كما الشعب المشطور قسمين، كله من أبناء لبنان، وقد كان بين آمالهم العراض كنواة لتجديد مشروع الدولة، والمصاب فيه أفدح لأنه متى سقط لا يعوض، أقله في المدى المنظور. فالجيش لا يبنى بالمال فقط، ولا بالرجال فقط، وإنما بالعقيدة قبل هذا وذاك، وإذا ما حُرف الجيش أو انحرف عن عقيدته، أي عن هدفه الوطني وجب حله وإعادة بنائه، مهاما تكلف ذلك من أعباء إضافية.
والحرف المغلوطة في أهدافها بل الحرب الأهلية عموماً تدمر الجيش لأنها تضعه في مواجهة شعبه، بغض النظر عن الشعارات والتبريرات المزورة التي تقدم لتفسير ما لا يحتاج إلى تفسير!
ومن يزج الجيش في حرب ضد الشعب سفاح ومتآمر على الجيش والشعب معاًز
6 – إن الأزمة اللبنانية أكثر تعقيداً وتشابكاً وأخطر من أن يبدأ علاجها بمسألة المرافئ الشرعية منها وغير الشرعية.
ولنستذكر بعض الحقائق الصغيرة ومنها:
أ – إن أوضاع المرافئ جميعاً، من الناقورة إلى النهر الكبير، ليست سليمة، وقد افتقدت السلامة منذ بداية الحرب الأهلية في ربيع العام 1975.
لكل مرفأ “عصابة” تجبي الخوات، تحدد الرسوم وتأخذ لنفسها منها ما تشاء، و”تتفضل” على خزينة الدولة ببعض الفتات حرصاً على الشكل.
ولقد بدأت العصابات عملها في المرفأ الشرعي الأساسي في بيروت، فوجود الكتائب ثم “القوات اللبنانية” قدم في مرفأ بيروت عمره عمر الحرب، ولطالما سرقت هذه العصابات بضائع ومستودعات ومستوردات لتجار لبنانيين وعرب، ولطالما جبت الأموال الطائفة عن كل ما يدخل مرفأ بيروت ولو بطريق الترانزيت.
طبعاً هذا لا يبرر أن تتعدد العصابات، أو أن يشرع عمل العصابات والمافيات التي تسرق أموال الخزينة وقوت الشعب، لكنه يقال للإشارة فقط إن نقطة البداية كانت تستهدف إثارة مشكلة إضافية وليس إنهاء مشكلة قائمة أو استعادة مال حكومي منهوب… ثم إن المال المستعاد كان سيذهب إلى “عصابة” جديدة، تقوم هذه المرة، ومع الأسف، باسم الدولة و”لتمويل” جيشها الرسمي!!
ب – إن صاحب القرار قد ورط الجيش في أمر لا يعنيه وعرضه لنكسة لا يحتملها، فتسبب في أن تخسر البلاد احتمال إعادة توحيد الجيش كمدخل إلى إعادة توحيد السطلة المركزية ترميماً لصورة الحكومة فالدولة.
وبسبب الرعونة والارتجال والخفلة التي يستولدها هوس السلطة، تسبب الجنرال في أن تخسر الدولة ما تبقى من جيشها بغير أن تنجح في استعادة مرافئها.
ج – الميليشيا حرام كلها، لا يمكن أن تكون حلالاً هنا وحراماً هناك. إنها إحدى الأدوات الأكثر سوءاً وفساداً في الحرب الأهلية، والعلاج يكون مركزياً وجذرياً وعلى قاعدة الحل السياسي لأزمة الوطن السياسية في جوهرها والتفاصيل.
وطالما إن الجنرال المهووس بالسلطة قد أوقف “حربه” ضد الميليشيا المارونية “القوات اللبنانية” باتفاق جنتلمان على تقاسم النفوذ والدخل (الشرعي منه وغير الشرعي) عبر صندوق مشترك، فبأي حق يطلب من اللبنانيين أن يكونوا معه في حرب ضد ميليشيات الطوائف الأخرى؟!
لقد نجح الجنرال المهووس بالسلطة أن “يحتل” القصر الجمهوري في ظرف معلوم من سماته تغليب ما هو طائفي على ما هو وطني، مستعيناً بقوة غير شرعية (“قوات” جعجع) لوراثة شرعية أمين الجميل، ودائماً باسم الطائفة العظمى وضماناً “لحقوقها” الممتازة.
لكن هوس الجنرالا لا يكفي لشطب الأطراف الأخرى الأقوى منه في “شرعية” تمثيلها لطوائفها، طالما إنه اختار أن ينازلها على ملعبها الطائفي،
إن “أقطاب” الطائفة العظمى لم يسلموا بعد بشرعية الجنرال المهووس بالسلطة، وهم ما زالوا حتى الساعة يأبون عليه أن يصل إلى الرئاسة الأولى، وبالكاد يسكتون عن وجوده حارساً للقصر المهجور، فبأي حق تراه يطالب “أقطاب” الطوائف الأخرى باعتماده مصدراً للشرعية ورأساً للسلطة ورمزاً للدولة المتصدعة الأركان؟!
وهل يظن الجنرال المهووس بالسلطة إن ما لم ينله بالسلم وبالسياسة سيأتيه بالحرب؟!
إن الجنرال عون لم يحارب حتى اليوم إلا ضد شعبه،
حارب مراراً ضد شعبه في الضاحية وفي بيروت (الغربية)،
وحارب مراراً ضد بعض شعبه في الشرقية (انقلاب جعجع على إيلي حبيقة، إحباط علية حبيقة في 27 أيلول 87).
وحارب قبل ستة أسابيع معركة ناقصة ضد منافسيه على السلطة في الشرقية،
فهل يكفي هذا الرصيد من “الحروب” الأهلية لكي يعلن الجنرال عون حرب التحرير ضد الوجود السوري في لبنان؟!
ولماذا يستفيق الجنرال متأخراً دائماً إلى واجبه الوطني؟!
يتعايش مع “القوات اللبنانية” في موقع “المرتزق” وحرس الحدود لدويلتها، لسنوات طويلة، ثم يقوم بانقلاب عسركي فعلي بالاشتراك معها بل ولحساب طروحاتها السياسية، ويظل يخدمها لأربعة شهور أو يزيد، ثم تأخذه مشاعر الحمية والعنفوان والكرامة فجأة فيرتد عليها ، حتى إذا سلمت به شريكاً أعاد التحالف أوثق مما كان، ناسياً وعوده للناس وتعهده بإقامة “دولة” على أنقاض “الدويلة”!
ويتعايش مع الوجود العسكري السوري في لبنان سنوات طويلة، كضابط، ثم كقائد للجيش ما كان يمكن أن يعين لولا الموافقة الشورية (ضمنية أو علنية لا فرق) خلال مؤتمر لوزان في مثل هذه الأيام من العام 1984، ثم فجأة وبغير سابق إنذار يرى في هذا الوجود احتلالاً لا بد من قتاله لإجلاائه وتحرير البلاد والعباد منه؟!
الشريك في السلطة “الدويلة” يرفض أي شريط له في الدولة، ثم يعتبر نفسه “الدولة” التي لما تقم، ويقرر باسمها أن يقاتل سوريا، مدعياً إنه “لبنان” المقدر له أن يكون الآن وحده لأول مرة منذ خمسة عشر قرناً، على حد قول حكيم المارونية السياسية الرئيس شارل حلو.
(للمناسبة: من أين يفبركون هذا التاريخ للبنان، وأي لبنان ذلك الذي كان قبل خمسة عشر قرناً، وأين تراهم اكتشفوه، أي هي مجرد كذبة أو أسطورة أو خرافة أخرى تصطنع للتوكيد على إن لبنان كان دائماً “غير شكل” وشيئاً آخر غير أمته وغير محيطه وغير تاريخه وغير جغرافيته)؟!!
هل قدر علينا، في ظل الحرب الأهلية، أن يحكمنا أو يتحكم فينا، باسم الشرعية أو من خارجها مجموعة من المهووسين وقادة المافيات وزعماء العصابات؟!
وهل الحرب الأهلية قدر علينا لا بد أن “تراه العين” قبل أن يدهمنا الفناء؟!
وهل هو قدر أيضاً أن نرد على الحرب الطائفية بحرب طائفية؟
وهل تستحيل الحرب الوطنية على الحرب الطائفية، كما يستحيل السلام الوطني؟!
وهل الحرب المستحيلة ضد سوريا، التي لن تزول ولن تمحي عن الخريطة حتى لو انتصر عليها الجنرال المهووس بجحافله الجرارة، هي الطريق إلى بناء الوطن وإصلاح خلل النظام؟!
إن الذاهب إلى الحرب المستحيلة ضد سوريا هو الهارب من تلبية مطالب شعبه المحقة في لبنان، هو الهارب من الاصلاح السياسي المعقول والمقبول، من العدالة والمساواة، من تحديد الهوية القومية لهذا الشعب الذي يصرون على اعتباره هجيناً بلا أصل وبلا تاريخ وبلا هوية.
وقد يكون الجنرال مهووساً بالانتحار كما هو مهووس بالسلطة،
لكن اللبنانيين عرفوا بأنهم من عشاق الحياة، ولهذا لم يتحمسوا لتلبية نداء الجنرال الذي يستدعيهم إلى مهمة بسيطة تجديد الحرب لجيل أو جيلين، فقط لا غير،
وهي حرب ضد الذات، ضد أن يكون المواطن مواطناً ، وضد أن تكون الدولة دولته له فيها ما لكل إنسان آخر من حقوق وعليه وما عليه من واجبات، وليست بأي حال حرباً ضد سوريا.
وفي أي حال، فإن الجنرال المهووس هو آخر المعنيين بمناقشة سوريا،
فذلك من حقوق الذين تخلت عنهم سوريا، أكثر من مرة، لكي تطمئن تلك البيئة التي أنبتت قائمة من المهووسين نتمنى أن يكون آخرهم العماد ميشال عون.

Exit mobile version