طلال سلمان

على الطريق مناقشة “الغائب” لزميل “المستقبل”!

صباح الحير، رابعة، من “بيروت – المساء”،
ولقد أكرمت هذه الزميلة وفادتي، كضيف عليها مع بعض زملائي في “السفير” ومعنا افتتاحيتي “على الطريق”، بأن جعلتني “المدير المسؤول”، أي “مدير للحبس” كما كان يطلق عليه في العهود الاستبدادية، لا أعادها الله!
.. ولو كانت “السفير” بين الصحف الصادرة اليوم، وغير معطلة بقرار سياسي يستند إلى سوء استخدام للسلطة وتطبيق تعسفي لقانون جائز وضع في ظرف استثنائي، لخصصت صدر صفحتها الأولى لمنادمات الرئيس الحريري مع بعض الزملاء الصحافيين حول قضايا الحرية والديموقراطية وروح القانون وحقوق الصحافة وواجباتها،
أما وقد حرمنا من المشاركة في المنادمات التي رافقها غداء عائلي إلى مائدته، كما حرمت “السفير” من نشر هذه “الوثيقة” المعممة رسمياً وعبر “الوكالة الوطنية للأعلام”، وبالتالي فهي ليست “مسربة” تسريباً يعاقب عليه القانون،
وأما وإن الموضوع بجوهره كما بتفاصيله يخصنا مباشرة، وفيه أيضاً ما يمسنا، فقد وجدنا لزاماً علينا أن نعلق عليه.. توكيداً لمشاركتنا الرئيس الحريري وضيوفه حرصهم على الحريات عامة وحرية الصحافة خصوصاً.
بداية لا بد من التنويه بعشق الرئيس الحريري للحرية والديموقراطية والقانون واحترامه الصحافة وأهلها.. فقد استخدم دولته هذه الكلمات مئات المرات في حديثه.
ثم إنه لا بد من الترحيب بـ “الزميل” الجديد (تحت التدريب) رفيق الحريري، الذي أعلن انضمامه إلى أسرة المهنة الشهيرة بالبحث عن المتاعب، ومخاطبته الزملاء من موقع “أنا أيضاً إعلامي مثلكم”.
إنه لمكسب أن يضاف اسم الحريري إلى قائمة الإعلاميين، إذ يثبت أن هذه القائمة التي تضم في الغالب المهووسين بالحرية، المسكونين بهاجس التغيير، وأصحباللوثة الأدبية، الحالمين بالثورة وانتصار المقهور على القاهر، والمظلوم على الظالم والفقير على الغني… وهؤلاء بمجملهم من الكادحين، مدمني السهر سعياً إلى خبر أو معلومة أو “وثيقة” أو فكرة مقال، في حين أن “أبا بهاء” يستطيع الحصول على ذلك كله ومن مصادره، وقبل أن يصير رئيساً للوزراء، بغير جهد،
أهلاً وسهلاً بالزميل الحريري.
أما بعد ، فلقد كان يمكن أن نقرأ كلمات رئيس الحكومة بمزيد من الجدية والرغبة في تصديقها لو لم تكن “السفير” معطلة، وبقرار حكومي استوفى شكله القانوني عبر النيابة العامة الاستئنافية.
ومع إننا لا نشك في رغبة الرئيس الحريري أن “نعقد خناصرنا على الخير”، وفي أن ليس لديه “نية للمس بالحريات أو لأن تدق بابها” وفي تسليمه بأن “القانون يعطي الصحافي الحق في أن ينتقد الحاكم وعليه أن يستعمل حقه”،
ومع إننا نحب أن نصدق الرئيس الحريري في أن ليس لديه “نية على الاطلاق لمخالفة القوانين ولا لوضع قوانين وتشريعات تقضي على حرية الصحافة”.
.. وإن “ليس لدى أحد النية لمعاقبة جريدة “السفير” ولا بتعقب أحد الصحافيين”،
فإن واقعة أن “السفير” قد عطلت من قبل أن تحاكم، وإن “صوت الذين لا صوت لهم” قد أخرس بموجب قانون أجمع الناس على اعتباره متعسفاً وضد الحرية والديموقراطية ، تضعف صدقية مطالعة الحريري في الديموقراطية،
للمناسبة فإن الرئيس الحريري، قد طمأن الناس إلى أنه ارتضى أن يكون رئيساً للوزارة ضمن نظام ديموقراطي، وذهب أبعد فأكد أنه لا يستطيع أن يكون رئيس حكومة إلا في ظل نظام ديموقراطي، ونظرته أن البلد قائمة على الديموقراطية، وحكم القانون… وحكم القانون هو الذي يحكم بين الناس.
ومع التنويه بهذا التطمين فإن الأمثلة التي استخدمها الحريري للتدليل على صحة إيمانه لم تكن موفقة تماماً: فماذا يعني تمنين الناس بأنه وقف في مجلس النواب إحدى عشرة ساعة ليسمع مع السادة النواب ما يرضي وما لا يرضي.
أليست تلك أبسط واجبات رئيس حكومة تمثل أمام البرلمان في جلسة مناقشة؟
والحقيقة أن الناس سجلوا على الرئيس الحريري كثرة غيابه عن جلسات البرلمان أكثر مما اعترفوا بمنته في حضور جلسة المناقشة تلك… مع الإشارة إلى أنه أمضى معظم ساعاتها الطوال والتي تابعها اللبنانيون جميعاً عبر الإذاعة والتلفزيون، في الردهات والمكاتب المغلقة،
ولو كانت “السفير” تصدر لما توقفنا طويلاً أمام اتهامها هي التي سربت اتهاماً للحكومة بأنها تنوي المس بالحريات… إذ أنها وإن عبرت عن موقف معارض، إلا أنها لم تذهب إلى هذا الحد. لقد حذرت من “الإرهاب بالتزكية”، على المستويات النيابية والحكومية والسياسية كافة، وطالبت بحق الناس في مناقشة شؤونها والحكومة بعض هذه الشؤون. وهذه ليست “حملة” بل محاولة تنبيه إلى حساسية اللبنانيين تجاه قضية الحرية، ودعوة إلى توسيع الصدر والعين والأفق وتقبل الاعتراض والنقد توكيداً لروح الديموقراطية لدى الحكومة ورئيسها.
ومع أن “السفير” المعطلة بقرار حكومي تحفظ للرئيس الحريري أنه قد تحمل حملتها، وإنه قد تغاضى عن “افتعالها أشياء كثيرة ينطبق عليها قانون المطبوعات”، إلا أننا لم نفهم ماذا تراه يقصد بتغاضيه عن تلك “الأشياء الأخرى التي ينطبق عليها غير قانون المطبوعات”،
على أن الأخطر في كلام الرئيس الحريري والذي يحتاج إلى مناقشة جدية وعميقة هو ما يتصل بموضوع المفاوضات وطريقة تناولها حكومياً وإعلامياً.
ومع موافقتنا على توصيف اللحظات بأنها حرجة وبأنها تحتم “تأهباً مسؤولاً الصحافة أهل له”، وبأن المفاوضات دقيقة وخطيرة، وموضوع أكثر من حساس بالنسبة إلينا، فإننا نتمنى على الرئيس الحريري أن يأخذ بالاعتبار أن لدينا حساسيته المفرطة ذاتها تجاه الاحتلال الإسرائيلي،
وبالتأكيد فإن الرئيس الحريري يحفظ لـ “السفير” دورها التاريخي في مقاومة العدو الإسرائيلي، منذ لحظة صدورها، وهو نهجها الذي لم ولن يتغير، بل هو بين مبررات صدورها،
ويحفظ لـ “السفير” كما يحفظ لها اللبنانيون وسائر العرب إنها كانت بين رايات الصمود وخندقاً متقدماً لمقاومة الاجتياح الإسرائيلي وحصار بيروت، وإنها وحدها التي استمرت تصدر تعبيراً عن أن “بيروت تحترق ولا ترفع الأعلام البيضاء”،
ويحفظ لـ “السفير” كما يحفظ لها جيل كامل من اللبنانيين إنها ساهمت في زرع قضية المقاومة في وجدانهم، وإنها حملت البشارة بولادة الانتفاضة الشعبية الرائعة ضد المحتل في جبل عامل والبقاع الغربي: “جنوباً در، جنوباً سر وانتصر..”.
ويحفظ لـ “السفير” دورها في التصدي لاتفاق 17 أيار (1983) ومساهمتها في تعبئة الجمهور اللبناني والعربي ضد اتفاق الإذعان هذا، بقدر ما تحفظ له شخصياً دوره في التمهيد لإسقاطه (وللمناسبة: فتحية لكل من قاتل حتى أسقط حتى الاتفاق الذي تصادف اليوم الذكرى العاشرة لتوقيعه!)
من هنا استغراب “السفير”، بل ورفضها لكل ما قاله الرئيس الحريري حول ذريعة تعطيلها ممثلة بنشرها “وثيقة” سرية للغاية!! هي ورقة العمل البائسة تلك التي قدمها العدو للوفد اللبناني المفاوض في واشنطن.
وبغض النظر عن الأهداف الخبيثة لتلك الورقة المفخخة ، وبالتالي عن الواجب الوطني والقومي في نشرها وفضح أهدافها، فإن الاتهام الضمني بأن العدو الإسرائيلي هو الذي سرب تلك “الوثيقة” فنشرتها “السفير” مضحك بقدر ما هو جارح في إيلامه،
قال الرئيس الحريري: لماذا نفترض دوماً حدوث التسريب من الصديق؟! من الممكن أن يكون من العدو… ومن الممكن أن تقدم إسرائيل في مرحلة معينة على تسريب أخبار معينة من خلال مستندات معينة فيكون الناشر ضحية ما يمرر…”
عيب هذا الكلام يا دولة الرئيس، لاسيما حين يكون الأمر متصلاً بـ “السفير”!
عيب بشهادة الجراح في الوجه، وبشهادة الجهد البطولي لأسرة “السفير” قبل الاجتياح وخلال الاجتياح وحتى اليوم!! وبشهادة المطابع المنسوفة، والسيارات المفخخة التي استهدفت أشخاصنا وأطفالنا وجيراننا ومدينتنا – الأميرة.
إننا نحفظ للرئيس الحريري قوله أن المقاومة حق مقدس طالما أرضنا محتلة، ونقدر دعوته للتكامل بين المقاومة والمفاوضات، وهو ما ما نؤمن به ونضيف إليه جهد الصحافة المقاوم والمحصن للوفد المفاوض،
ونطمئن الرئيس الحريري أن قلوبنا على البلد كما قلبه بالذات، خصوصاً وإنه ابن الجنوب، وإن بعض المؤسسات المفخرة التي بناها لتكون عنوان تقدم الجنوب وأهله قد نسفها الاحتلال الإسرائيلي ونهبتها “أدواته” التي صار بعضها اليوم أقرب مما يجب ومما يجوز إلى قريطم،
… ومرة أخرى فلو كانت “السفير” غير معطلة لقالت أنها لا تريد الحرب ولم تطلبها مع الرئيس الحريري، بل هي قد عطلت كل المحاولات لاستدراجها إليها، وعطلت تحوير طبيعة معركتها لحماية ذاتها من داخل إيمانها بحرية الصحافة بوصفها راية كرامة المواطن ومبرر العدو اللبناني المتميز.
لكن “السفير” معطلة بتهمة نشر ما لا يجوز نشره، وهي ورقة عمل موجودة في حقائب أكثر من مائتين من أعضاء الوفود العربية المشاركة في المفاوضات، ومعاونيهم، هذا من دون الوفود الأخرى الإسرائيلية والأميركية والروسية، ومن دون ذكر من أرسلت إليهم أو وصلت إليهم أو أوصلت إليهم في بيروت وهم بالعشرات.
في حين أن الرئيس الحريري نفسه اعترف بدور شخصي له في منع معاقبة المسؤول عن تسريب وثيقة رسمية للدولة اللبنانية ممهورة بخاتم سري جداً، وإنه سرب شخصياً ومباشرة وثيقة رسمية ثانية من وثائق الدولة لكي تنشر في بيروت.
الوثيقة الأولى: محادثات وزير الخارجية الأميركية وارن كريستوفر، وقد نشرت في الزميلة “الأنوار”، قبل أن “تمرر” إلى “السفير” ورقة العمل الإسرائيلية.
والوثيقة الثانية: الرد اللبناني على ورقة العمل الإسرائيلية، وقد سربت “رسمياً” فنشرت في الزميلة “لوريان – لوجور” جنباً إلى جنب معنص تلك الورقة مترجماً إلى الفرنسية.
وأخيراً فإننا نحب أن نلفت نظر الرئيس الحريري إلى أن المفاوضات الجارية في واشنطن هي الأكثر علانية في التاريخ، وإن التصريحات “الرسمية” الصادرة عن وفودها أو عن الوزراء ونصوص الأوراق والوثائق “السرية” المنشورة “تسريباً” أو “تمريراً” تكفي لإصدار مجلدات تملأ مبنى كاملاً،
ونضيف فنقول: إن إحدى الضمانات الأساسية لهذه المفاوضات، في وعي المواطن العربي، علانيتها، وأن تظل دائماً تحت دائرة الضوء، وفي متناول كل المثقلين بالهم الوطني وبالهم القومي العام لمناقشتها وكشف خباياها.
ومع التقدير للجهد الذي بذله الرئيس الحريري لإيضاع مواقفه والدفاع عن القرار الخاطئ والعصبي المتخذ بتعطيل “السفير” فلن يتأثر موقف “السفير” من سائر القضايا الجدية والمصيرية التي أشار إليها دولته، والتي مهد لها باعتبار نفسه زميلاً لنا.
ومرة أخرى، أهلاً بدولة الزميل الرئيس!

Exit mobile version