طلال سلمان

على الطريق ملاحظات أولية على “التغيير” في عراق صدام وكويت جابر!

بشيء من تواضح المهزوم، تم سحب بعض العبارات الكاريكاتورية من سوق التداول اليومي، وبينها على سبيل المثال عبارة “الحوار العربي – الأميركي”!
فكيف يستوي حوار بين طرف واضح ومحدد وخرافي القوة وبين طرف آخر هيولي وغير واثق من هويته وانتمائه، أو هو يضيق ذرعاً بها ويحاول التملص من أعبائها، فيكاد ينكر ذاته خصوصاً وهو يستشعر ضعفاً وهواناً لا حدود لهما؟!
وفي ما عدا المحاولات المتوترة لنظم سياق مقبول لحوار بالاضطرار بين دمشق وبين الإدارة الأميركية، لا يمكن اعتبار العلاقات بين واشنطن وسائر العواصم العربية وكأنها تقوم على أساس “الحوار” أو “التكافؤ” أو “التوازن في المصالح” الذي أحلته موسكو البيريسترويكا محل “التوازن في القوة” الذي حكم علاقات الجبارين في زمن مضى.
ولا يبدو إن بين مطامح معظم الأنظمة العربية أن ترتكز علاقاتها مع واشنطن على الحوار، بل إن أقصى ما تتمناه أن يسودها الرضا، ولعل بعضها يكتفي من الإدارة الأميركية بنعمة النسيان التي تمنحه الأمان والشعور بالثبات، والقاعدة: “لا أخبار؟! إذن فالأخبار جيدة”!!
من الأمثلة النافرة على طبيعة “الحوار” بين واشنطن والأنظمة العربية سنتوقف أمام نموذجين محددين هما: عراق صدام حسين وكويت جابر الأحمد الصباح.
فالإدارة الأميركية تفرض إرادتها، اليوم، على النظامين العدوين بالأمر: تقرر لكل منهما ما يناسب مستقبل مصالحها في المنطقة وفي العالم، وتفرض نفسها مرجعاً صالحاً وولي أمر إجبارياً للشعب في كل من البلدين المحروقين بحرب الخليج.
وهي تستغل في الحالين، وهنا جوهر الموضوع، انعدام الحوار بين الحاكم وبين المحكوم في كلا القطرين، على اختلاف النظامين في الشكل والتسميةز
وإذا كانت أزمة العلاقة بين صدام حسين وبين شعب العراق قد تفجرت دموية وعلى شكل حرب إبادة وتدمير شامل وتهجير لمئات الألوف في الجنوب ثم في الشمال إضافة إلى الجهات الأخرى في القلب، فإن أزمة العلاقة بين أمير الكويت وشعبها مرشحة لأن تتفاقم في اتجاه العصيان المدني وعدم الاستقرار والبحث عن الأمن والأمان والكرامة الشخصية في أي “منفى” مريح.
وفي ظل حرب أهلية معلنة أو مضمرة، متفجرة أو تحت الرماد، غالباً ما يلجأ النظام المتورط إلى القوى الخارجية النافذة لتنصره على شعبه بذريعة “حماية الوحدة الوطنية” و”الكيان” من التفتت والاندثار.
وهكذا يبدو جلياً وكأن الإدارة الأميركية أقامت “مناطق آمنة” في كل من العراق والكويت، ليس لفئات من الشعب مضطهدة ومهددة في حياتها ووجودها، بل لكل من النظامين الحاكمين، هنا وهناك، وذلك في سياق “تنظيم” الحرب الأهلية وليس وقفها.
وطالما استمر غياب الحوار الداخلي، أي غياب اعتراف النظام بشعبه والخضوع لإرادته وتلبية مطامحه المشروعة، وأولها إثبات وجوده وانتزاع حقه في تقرير مصيره، فسيكون من العبث أن تتوقع من النظام القدرة أو الأهلية أو حتى الرغبة في حماية بلاده بأرضها وشعبها، والتصدي للقوى المهيمنة لفرض علاقة ندية معها وعلى أساس التوازن في المصالح، بغض النظر عن الأحجام.
الخيار هنا واضح: النظام أم الشعب؟! ولم تحدث تلك المعجزة في أن يفتدي النظام شعبه مضحياً بنفسه، في أي مكان أو زمان.
تريدون بعض التبديل، في الواجهة؟!
لا بأس… فليخرج طارق عزيز من موقعه الممتاز، وليخرج بالمقابل صباح الأحمد الصباح، وليتبادل “التكارتة” المواقع، وكذلك آل الصبح، فيصير وزير الداخلية وزيراً للخارجية، ووزير المال وزيراً للنفط الخ.
تريدون الديموقراطية والتنوع والتعددية والعفو العام عن أعداء النظام؟!
لا بأس، فلتطلق الوعود عن انتخابات ستجري وعن أحزاب ستنشأ أو سيتم الترخيص لها، وليرجع من المنفى الهاربون من بطش النظام وسيكونون على الرحب والسعة طالما إن عودتهم ستكون شهادة حسن السلوك التي قد تؤمن النظام من البطش الأميركي.
لكن هذه التراجعات الشكلية لا تنشئ حواراً في الداخل، ولا تغير من طبيعة النظام ومن مسلكه إزاء شعبه أو إزاء القوى الخارجية المهيمنة: فهو سيزداد تعنتاً بقدر ما تتعاظم تنازلاته، خصوصاً متى اطمأن إلى أن الإدارة الأميركية لا تريد الاستغناء عن خدماته، ولأسباب تخصها هي.
ومن تجربة المسلك الأميركي مع نظام صدام حسين يمكن استخلاص الاستنتاجات الآتية:
*لا ضرورة لغسقاط صدام طالما إنه تحول إلى عامل إضعاف بل إنهاك وتدمير للعراق.
*وجود صدام ضعيف ومهزوم ومدان مناسب تماماً: فهو يصلح كوسيلة ابتزاز لجيرانه (أو كعنصر توازن هش). ثم إنه مناسب تماماً لإبقاء أسباب الفرقة بين العرب.
يجب أن تظل العلاقة مختلة وغير صحية بين العواصم “الكبرى” الثلاث: بغداد وطهران وأنقره، ويجب أن تظل السياسة العراقية هجومية مع إيران دفاعية مع تركيا، لأسباب تتصل بالمحيط وإبقاء عامل الفتنة الطائفية والانقسامات العرقية قابلاً للاشتعال في كل لحظة.
*استمرار صدام يلغي الحساب عن الحرب والهزيمة ومسؤوليتها، أو هو يرجئها ويموه معطياتها ويزيف أو يغير فيهان وهذا عامل إضافي من عوامل الفرقة بين العرب بحيث يحرص كل طرف عربي على إقامة علاقة مستقلة مع واشنطن، من وراء ظهر الآخرين وعلى حسابهم.
ومن الصعب أن يكون الزعيم الكردي جلال الطالباني قد دخل بغداد ليفاوض صدام حسين على الحكم الذاتي لكردستان العراقية، الذي يفترض إنه اعتمد دستورياً منذ 21 سنة، من دون موافقة أميركية مباشرة تنطلق من التعامل مع الطرفين على إنهما يتمتعان “بالشرعية” ذاتها في ظل الحماية الأميركية المباركة.
فواشنطن هي مصدر “الشرعية”، الآن، للنظام كما للمعارضة في العراق.
والأمر ذاته قائم في الكويت، فالمعارضة تشكو الأسرة الحاكمة وتعنتها إلى السفير الأميركي الذي لا يرى حرجاً في تحديد شكل الحكومة “الجديدة” ومهماتها.
لكأنما تربط واشنطن بين بقاء صدام وبقاء الأنظمة التي خاصمها وحاربها فحاربته، فهي بهذا تبتزها مرتين: بوجوده كما بمساعدتها على “خلعه” إذا ما هي رغبت بخلعه.
صدام ضعيف في بغداد وجابر ضعيف في الكويت،
شعب عراقي مضهد ومستضعف يتعرض لحملات إبادة واقتلاع في العراق، فلا يجد ملجأ أمنياً وسياسياً (وغذائياً) إلا الولايات المتحدة الأميركية.
وشعب في الكويت مستضعف ومستبعد عن السطلة والقرار، لا يسلم بحقوقه السياسية ولا يضمن أمنه وحريته الاقتصادية، إلا بقوة نفوذ السفير الأميركي.
والقاعدة واضحة: بقدر ما يستشعر الحاكم ضعفه في الداخل تزداد حاجته إلى الدعم الخارجي، وخضوعه لإرادة الخارج، ويصبح التنازل للمواطن أخطر وأعظم كلفة من التنازل للأجنبي، فذاك قد يؤدي إلى خلعه في حين يضمن له هذا البقاء على عرشه سعيداً.
وإذا ما افترض أمير الكويت إنه يحظى برضا جورج بوش فما حاجته إلى رضا أحمد الخطيب وأحمد السعدون وأصناف المعارضة الديموقراطية والليبرالية والإسلامية الخ؟!
ومن خلال “إصراره” على الحكومة القديمة مع بعض الترقيع يبدو الحكم الكويتي وكأنه ينتقم من شعبه، ويغطى تقصيره الفضائحي الذي كان بين الذرائع التي ورطت صدام حسين في مغامرته المجنونة، بالتشدد في وجه الكويتيين الذين دفعوا الثمن مرتين.
وهو يقدم نموذجاً فذاً أو طبعة جديدة للحاكم العربي الذي لا يتعظ ولا يتعلم ولا يستفيد من التجارب مهما كانت مرة وقاسية.
إنه يذكر بأمين الجميل و”إنجازه” التاريخي في لبنان: حين استعان بالأجنبي على العربي، وبالخارج على الداخل، فأنفق موازنة البلاد (قوت العباد) على قذائف نيوجرسي الموجهة إلى مواطنيه – ضحاياه. وهو ظل يرفض الاعتراف بالقوى السياسية والفئات الاجتماعية حتى فوجئ بواشنطن تحاورها وتوجه إلى رموزها الدعوات فسارع ينافقها ويعطيها ما لم تكن تطلبه أو تطمح إليه.
لقد ظل يباهي بأن رونالد ريغان يعامله “كابنه تماماً”، فلما اكتشف متأخراً إن لريغان الكثير من “الأبناء” في لبنان طرح عليهم “أخوته” بمكبرات الصوت!
لا حوار في الداخل،
لا حوار مع الخارج، خصوصاً متى أصبح الخارج هو الأقوى في الداخل.
والداخل هو البداية والنهاية، الهزيمة تبدأ فيه والنصر ينطلق منه،
والهزيمة مستمرة ما استمر تجاهل الداخل والإصرار على عدم الاعتراف به، ولا يهم اسم الحاكم أو شكل نظامه أو مدى جاذبية شعاراته البراقة.

Exit mobile version