طلال سلمان

على الطريق مفارقات زمن الافتراق!

يلطمون هناك. يتفجعون هنا. يتبارون في نظم المراثي وتعداد مآثر الفقيد الذي لا يعوض. يدبجون المطالعات الفخمة العبارة في تسفيه التقسيم وتبيان مخاطره والأهوال. يخيفون بعضهم البعض، يخيفون أنفسهم، يخيفون العالم من حولهم، يرفعون الصوت لعل العالم البعيد يسمعهم فيخاف عليهم وقد كان حتى الأمس يخاف منهم.
ينهكهم الكلام المكرر في الموضوع الذي لا يغيره الكلام. يتعبون، يتمطون، وقد يتثاءبون، ثم يمضون قدماً في طريق التقسيم. لعلهم يريدون أن يثبتوا بالملوس، لغيرهم ولأنفسهم، كم هو خطر وخطير!!
تفتح السماعة وقبل أن تصل إلى أذنك تجده قد سرق منك كلامك. لا بأس، هذه أبأس السرقات! تتدفق عليك الحجج والبراهين والأدلة بطلاقة العارف المتحسب، أو صاحب الرؤيا المترقب. ويحاول كل منهم أن يقنعك بأنه بمثابة نبي، كان يرى ما لا يرى، ويتوقع أن يكون ما كان.
لا تختلف اللهجة أو النبرة في صوته بينه وهو يصور إحساسه بالكارثة الداهمة، وبينه وهو يؤكد لك إنه كان يتصور ويعيش سلفاً في ما قدّر إنه كائن لا محالة! لم يتغير فيه حرب، ولم يفاجئه منه تفصيل!
تمضي الساعات أثر الساعات فتتبدل الوقائع وتستجد معطيات، وتندثر ثوابت كنت تفترضها كالجبال الراسيات، لكن الكلام يظل هو الكلام.
العجز هو السيد. الشلل هو السيد. والتقسيم يمتد كالسرطان في الجسد المتهالك، لا توقفه الثرثرة ولا يعالجه التحسر ولا يحد من خطره لوم الآخرين أو الشماتة بالذات!
وما بين طرفة عين وانتباهتها تبتعد الضفة عن الضفة، وتعلو السدود الفاصلة بين الأنف والأذن، بين الحاجب والعين، بين القلب والرئتين!.. فإذا اللغة غير اللغة. يعلو اللغط وتحتدم الأصوات وتتندى الكلمات أحياناً بالعبرات، لكن العقل يظل في إجازة مفتوحة!
لكل “مونولوجه” لا أحد يسمع أحداً. لا أحد لديه جديد يمنحه للآخر. و”المونولوجات” قد تتداخل، وقد تتقاطع، ولكنها لا تتوحد ولا يندمج بعضها ببعض. كان يعزف منفرداً، فلا تكون موسيقى، وتفتقد الحزن بعدما افتقدت الفرح، فلا تجد له أثراً.
“وطن” الآحاد هو. كل بمفرده. كل أمة بذاته. كل منطق لا يقبل العوج ولا يقبل التصحيح.
و”وطن” المفارقات هو. ذات يوم كنا نعتز بأنه “بلد عجيب غريب، ما يكون فيه لا يكون في غيره، وما لا يكون أبداً في غيره يكون فيه بلا تعب”. فلا صعب ولا مستحيل ولا مستبعد إلا المنطقي وإلا الطبيعي والعادي من الأمور. نحن قوم “سوبر” كل ما لنا “سوبر” فوق الفوق!
*خذ مثلاً:
غلاة الانفصاليين لا يتعبون اليوم من ترداد الشعارات الوحدوية،
والذين التزموا فما خانوا طيلة حياتهم قضية وحدة لبنان ينزلقون اليوم، وتحت ضغط الأحداث والاستفزازات،في اتجاه المنطق التقسيمي. يكادون يرون في التقسيم أهون الشرور. وبعضهم يفلسف الأمر أكثر: – ليذهبوا في التقسيم إلى النهاية، إنهم سيرتطمون بالجدار، إن عاجلاً وإن آجلاً فيعودون بالخيبة ولعلهم يتوبون فيصبح ممكناً أن نبني معاً الوطن الواحد، وطن أبنائه جميعاً!
*خذ مثلاً ثانياً:
كل “حلفاء” الولايات المتحدة الأميركية وأنصارها ومؤيديها وعبدة الدولار يهاجمونها الآن ويوجهون إليها أشنع الاتهامات وينعتونها بما لم ينعتها به المرحوم أندروبوف.
أما خصوم السياسة الأميركية “التاريخيون” في لبنان فيكادون ينبرون للدفاع عنها وتبرير تصرفاتها، حتى تلك التي يعرفون إنها كانت خاطئة، إذ ينسبون الخطأ إلى حسن النية، فإذا ما تطرفوا لم يجدوا فيه أكثر من سوء تقدير!
أولئك يتهمونها بأنها أرادت إذلالهم بالمرشح المفروض فردوا بالموقف المرفوض.
وهؤلاء يظهرون وكأنهم قابلون بالفرض وعاجزون عن الرفض حتى لا يتهمهم أحد بتخريب الوفاق الدولي الجديد المنطلق كالصاروخ في سماء العالم الذي صار، أخيراً، واحداً!
*خذ مثلاً ثالثاً:
كان ريمون اده، تاريخياً، ضد العسكر،
وهو كثيراً ما برر إحدى خطاياه المميتة (الحلف الثلاثي) بتصويره كرد – لا أكثر – على طغيان “المكتب الثاني” في أيام الرئيس شارل حلو الذي بدا امتداداً للرئيس الراحل فؤاد شهاب ولم يغادر الحكم إلا وقد اطمأن إلى أن الشهابية صارت أثراً بعد،
من أجل “كفين” على خد “المناضل” الشهير فيليب خير، اندفع ريمون اده إلى ذروة التعصب الطائفي فأسس مع قطبي المارونية الآخرين كميل شمعون وبيار الجميل “الحلف الثلاثي” الذي رمى في أرض لبنان ما بعد 1967 بذرة الحرب الأهلية.
أما من أجل “إنقاذ” الديموقراطية المهددة بسليمان فرنجية، أو بمخايل الضاهر، فلم يجد ريمون اده إلا العسكر، وهكذا فإنه يتصرف كمن يؤسس حلفاً ثلاثياً جديداً مع ميشال عون وسمير جعجع!
ومن قبل كان ريمون اده قد أنقذ النظام الديموقراطي البرلماني من أن يعبث به دكتاتور عات وطاغية جبار مثل سليم الحص! والفرق بسيط وشكلي ، كما تلاحظون بين الدكتور والدكتاتور!!
*خذ مثلاً رابعاً:
في حدود علمنا فإن الدول العربية حريصة كل الحرص على وحدة لبنان،
لكن النظام المصري لا يفتأ يطالب الدولة العربية الوحيدة الموجودة فعلاً في لبنان، وذات الدور الذي لا غنى عنه ولا بديل، والمسلم به دولياً، أي سوريا بأن ترفع أيديها عن لبنان!
أما اليد الإسرائيلية التي تعبث بأمن لبنان وسائر الأقطار العربية، وبوحدته الوطنية كما بالوحدة الوطنية في كل قطر عربي، بما في ذلك مصر ذاتها، فيكاد حسني مبارك لا يراها، فإذا ما رآها “طنش”، فإذا ما أحرج قبلها ودعا عليها بالكسر!
… أما النظام العراقي الخارج بعد من حرب ظالمة وغير مبررة أضاع فيها العراق ونصف ثروة العرب القومية فإنه لا يتورع عن المساواة بين سوريا العربية لحماً ودماً وبين العدو الإسرائيلي، فيتحدث ممثله “الرسمي” القابع في أحضان “القوات اللبنانية” عن “الاحتلالات”!!
الأطرف إن النظامين المصري والعراقي لا يتعبان من تحذير اللبنانيين من مخاطر التقسيم،
وثمة أنظمة عربية أخرى لا تتمتع بمثل هذه الشجاعة في الاعلان، ولكنها تتصرف بما يطمئن التقسيميين إلى أن أقصى عقوبة قد تفرض عليهم هو أن يتأخر الاعتراف بهم لبعض الوقت، إنقاذاً لماء الوجه، وخوفاً من الأصوليين الذين لا يرحمون، وفي انتظار أن يفعل الزمن فعله فينسى الناس. والإنسان نساء، واسمه أصلاً مشتق من النسيان!
هل ثمة حاجة لأمثلة أخرى،
هذا، في أي حال، غيض من فيض، فكيفما ضربت يدك ستخرج ملآنة بالأمثلة!
أنظر إلى الجنرال وهو يتحدث عن ضمان حرية الناخب وحرية الترشيح. أو اسمعه وهو يهدد الموظف البسيط في رزقه وكأنه هو المسؤول عن الكارثة التي وصلت إليها البلاد،
أو تأمله وهو يخاطب الدبلوماسيين الأجانب بكل اللغات (فرنسي، إنكليزي، طلياني، عربي… وبلغات أخرى إذا أردتم)، عن لبنان الديموقراطية والسيادة والاستقلال والوحدة الوطنية.
إذا لم يعجبك الحال فتابع حركة أمين الجميل،
لقد ظل وفياً للمقاطعة، أميناً لها حتى يومه الأخير في القصر، وقبل أن تغرب شمس ذلك اليوم نط إلى دمشق محاولاً إعادة وصل ما انقطع،
والآن ها هو يمضي وقته على الهاتف يبث لواعج شوقه وحنينه إلى كل رفاق عمره في الغربية من المفتي إلى رموز “المشاركة” في عهده الميمون!
ولا يهمك. بسيطة. بتدبر. ما صار شي إلا وصار مثله أليس ما نحن فيه آخر الكون!
… ويمتد سرطان التقسيم والمعي يتأوه لذة، ويرفع صوته بفرح الشماتة لأنه يفترض إن لاشطر الآخر أكثر منه وجعاً وسيسقط قبله.
-ولكنه سيسقط منك؟!
-أبداً! فشر! أنا أعرف كيف أتدبر أمري!
-ولكنك ستسقط معه؟!
-هـ… بيظهر الأخ مش عارف حاله مع مين عم يحكي، روح يا عمي روح! نحن قدها وقدود! للمناسبة، شو رأيك نروح نسمع شوية قدود حلبية، عندي شريط ما في خيو! مشي، مشي، وتركها على الله. الله بيفرجها. وإذا ما فرجها منشوق.
… وسنشوف!

Exit mobile version