طلال سلمان

على الطريق مع المدينة ضد القتلة والخاطفين!

تضيق المدينة، تضيق، تصبح بضعة شوارع وأزقة وزواريب. تصبح جحراً محاصراً من خارجه بالخارج ومحاصراً من داخله بالداخل. تتقزم العمارات والأبنية العالية. تختزلها واحدة بحجم عش النحل تزدحم فيها ومن حولها الوجوه المألوفة بنوعيها: الخائف والمخيف.
تضيق المدينة تضيق، تملأ أفقها الأشباح، وتنفتح أرضها دهاليز وسراديب يتوه فيها الخلق، يختلط القاتل والقتيل وتتماهى الحدود بين الجاني والضحية فيصيران واحداً يدير مع ذاته حواراً لا معنى له ولا نهاية.
تضيق المدينة تضيق. يهصرك ترقب المجهول المخيف. تطاردك الأشباح حتى تحصرك بينها في الدهاليز حيث لا شمس ولا نور شمعة ولا ذبالة ضوء. تعرف الصوت فيؤنسك حتى ترى الوجه فتنكره ويستولي عليك الذعر. وتركض إلى أول مرآة لتستوثق من أن وجهك هو وجهك. وتنتشي بالنداء عليك – ولو أمراً – لأنه يؤكد إن اسمك باق لك، لم يصادر ولم يخطف ولم يلغه مرور الزمن!
… وفي مدينة بحجم الجحر لا يكون للورد مكان، فإذا توفرت الفسحة استغني عن الورد لأنه يستهلك من الهواء أكثر مما يجب!
تتسع المدينة تتسع، يصير الشارع بلداً له حدوده وجيشه وقيادته وحاكمه والعلم والنشيد. يصير الزاروب دولة له جماركه وإدارة الضرائب والواردات ونظام الاستيراد والتصدير والسرية المصرفية.
تتسع المدينة وتتسع تصير قارة مترامية الأطراف. تفصل الشارع عن الشارع مساحة من الذعر أين منها المسافة إلى أوسترالياً. تصير تسمع أخبار جيرانك عبر الإذاعة والتلفزيون. يصير البشر تفاصيل للوقائع الإخبارية. لا بد من الأسماء من أجل المصداقية، والصورة كلما أمكن. وتبتهل إلى الله العلي القدير أن يجنبك هذا المكروه فلا تسمع أسرتك اسمك في النشرة المفصلة، أو خاصة في ذلك الفاصل الإخباري (الفلاش) الذي يقدم مسبوقاً بموسيقى تذكرك بخطوات الموت.
… وفي مدينة باتساع قارة لا مجال لأن تكون أنت، أنت المواطن العادي، شيئاً مذكوراً إلا إذا خطفت أو… لا سمح الله، فأين المجال لجامعة أو مؤسسة نافعة أو وردة تبث عطرها بغير طلب وبغير إذن؟!
السؤال هو: كيف ننتصر على الشعور بالعجز، ونؤكد إنسانيتنا قبل أن يلغينا العجز نهائياً أو يقتلنا كمداً؟
السؤال هو: كيف نواصل صمودنا فلا نهرب إلى الاستسلام المذل بعد أي خبر بشع نسمعه، وليس ثمة إلا الأخبار البشعة… وكيف نخرج من حلقة اليأس المفرغة، وافتقاد المرجع الذي نتجه إليه بالشكوى أو التظلم أو بطلب التوبة وغفران ما تقدم من ذنوبنا وما تأخر؟!
السؤال هو: الدور على من غداً، أو بعد ساعة؟!
السؤال هو: كيف نبقى، ونبقى رعايا، مجرد رعايا طائعين وطيعين لحكام الأزقة والزواريب والشوارع والجهات والعمارات بمستودعاتها ومواقف السيارات؟!
السؤال هو: كيف نرضيهم فيعفون عن جرائمنا العديدة، وبينها الصمود بوجه مشاريع التقسيم والكانتونات الطائفية، والتصدي للاجتياح الإسرائيلي، والإيمان بكروية الأرض وبأن الشمس تعود فتشرق مع كل فجر جديد، والإصرار على أن يكون لنا غد أفضل قوامه العلم والكفاءة والكرامة والتمسك بالأرض وحلم الوطن وحق الإنسان في أن يمارس إنسانيته؟!
الجواب هو: إننا ها هنا باقون،
ومع الاعتذار سلفاً عن هذه “البجاحة” فإن العذر بين: لم نعد نملك ما يكفي ثمناً لتذكرة السفر، فكيف بالحياة في البلاد بلاد الطمع والجشع والغلاء الفاحش… ناهيك بأنها بلاد أهلها من الكفار والملاحدة، وفيها أسباب الانحراف جميعاً من الجامعات إلى المعاهد إلى المدارس إلى الحدائق العامة المشعة ورودها ضياء وعطراً يفتن المتنزهين ويغويهم ويغريهم بالسوء… والنفس أصلاً إمارة بالسوء!!
الجواب هو: إننا أدركنا بالتجربة الحسية إن الخروج من بيروت، بكل ما حملت من بشاعات، هو أفظع من الموت وأقسى، وإن البقاء فيها هو موت بطيء، مؤكد وبارك وثقيل ويومي بل يتحرك مع عقارب الساعة، لكنه يتم – جغرافياً ، على الأقل – حيث يجب.
الجواب هو: إننا لن نترك الأميركيين وغيرهم ممن هم في خانة الأعداء، سياسياً، يكرمون رفيق الحريري لأنه يعلم أولاد الفقراء والمحرومين على نفقته الخاصة، في حين نحمّل نحن ظلماً جريمة اختطاف الفضل على شلق لمحاولة منع مؤسسة الحريري من إكمال مهمتها الخيرة بشهادة الناس جميعاً، من أفاد منها مباشرة ومن لم يستفد!
الجواب هو: إننا بتنا عاجزين عن أن نخاف أكثر،
… ولقد بتنا أعجز من أن نرحل،
وعلى هذا فسنبقى كالهم على قلوبهم.
نعرف إن الدور آت علينا، فاللائحة تضم الجميع: بدأت بالدبلوماسيين وامتدت لتشمل الأجانب، ثم المسيحيين، والآن الدور على الأرمن، وغداً السنة وبعدهم الدروز يليهم الشيعة إلى آخر الطوائف السبع عشرة التي يتكون منها “الشعب”،
أليست بلادنا الصغيرة قارة مترامية الأطراف؟
أليس فيها الأديان والطوائف والمذاهب والقوميات والعناصر جميعاً؟!
أليست تتسع لكل أجهزة المخابرات ومكاتب الأمن والتجسس والتنصت؟!
ألا يحتاج هؤلاء إلى “مواد أولية” يشتغلون عليها؟!
حسناً، سنكون المواد الأولية.
(فإذا غبنا أو سافرنا أو قتلنا فبماذا إذن سيشتغلون)
الجواب هو إننا سنقبل وضع المحاصر (بالفتح) والمخطوف والمهدد بالاغتيال والمسلوبة أمواله وممتلكاته والمسفوحة كرامته، حتى نصير وكأننا المحاصرون (بالكسر).
وهم هم، على أي حال، الضحايا القادمون للحصار،
ذلك إن سقوطهم سيكون عظيماً،
وهم يستعجلون ساعة السقوط،
وبعدها سيكون بإمكان من يتبقى منا، وسنبقى بالملايين، أن يعيد بناء حلمه في وطن يتسع للبشر والجامعات والمتعلمين والباذلين من مالهم لتعليم الآخرين،
… ويتسع أيضاً للأغنية والقصيدة والجريدة والوردة المستحمة بعطرها وقطر الندى.
ولقد عبر الناس، بتظاهرتهم العفوية، أمام منزل فضل شلق أمس، عن رأيهم بصدق، حتى لقد قيل إن المخطوفين كانوا بالفعل الخاطفين،
فالناس فقدوا الكثير من فضائلهم لكنهم لا يمكن أن يغلطوا فيقرروا إن لا مكان لرفيق الحريري ومؤسساته في لبنان، بينما هو قد اتسع ويتسع لكل الذين يفعلون عكس فعله تماماً.
… ولتطمئن “أم خضر” إن ابنها سيكمل تحصيله العالي ليبني هنا لأبنائه غداً أفضل.
ولن تبقى مدينتنا وبلادنا وحياتنا مخطوفة إلى الأبد.
فالغد آت والشمس ستشرق بعد فجر يشق قلب الليل بالضياء الباهر!
وبيروت باقية، برغم كل شيء، باقية بنا وباقية لنا.

Exit mobile version