طلال سلمان

على الطريق مع الحوار ولكن…

بغض النظر عن النتائج،فقد استقبل اللبنانيون بشيء من الارتياح استئناف الحوار بين أطراف الصراع السياسي في البلاد،
وبرغم ملاحظاتهم الكثيرة، في الشكل وفي الأساس، فلقد قبل اللبنانيون مبدأ البحث في “الورقة الاصلاحية” التي قدمها الرئيس أمين الجميل، وقبلوا بالتالي أن يكون الرد عليها من قبل “خصومه” على شكل “ملاحظات”.
ذلك إن اللبنانيين مع الحوار في المسألة السياسية، حتى ولو بدا وكأنه حوار بين طرشان، فهو أفضل بما لا يقاس من الحوار بالقصف والقنص والخطف والمتاريس وخطوط التماس التي تقطع أوصال الناص وأوصال البلاد وتلغي ما تبقى من سمات الدولة.
وهم مع “الحوار” برغم إنه ما من مرة تلاقى فيها “زعماؤهم” أو تحاوروا، ولو بالواسطة، إلا ودفعوا هم – المواطنون – ثمن هذا التلاقي، لأن نتائجه تأتي، في الغالب الأعم ، وبشهادة التجارب العديدة، قاصرة عن معالجة همومهم، ناهيك بتحقيق طموحاتهم والأحلام.
أما الملاحظات (التي لا تمنع أو تعطل البحث) فكثيرة جداً، ويمكن أن نكتفي في هذه العجالة بغيض من فيض منها، وعلى الشكل الآتي:
1 – كان اللبنانيون يتوقعون، بعد كل ما جرى، أن يختم الرئيس أمين الجميل عهده بما عجز أن يستهل به عهده، وبما عجز أن ينجزه خلال عهده.
كانوا يتوقعون “وثيقة” تنضح بحرارة التجربة وبمراراتها، فتشخص الأسباب ومكامن العلة وتخلص إلى اقتراح الحلول.
ولقد فوجئوا بأن ورقة الرئيس الجميل “باردة” جداً، باهتة جداً، وتفصيلية جداً، وكأنها موضوعة لمعالجة أزمة وزارية عارضة ولس لإنقاذ بلد مهدد في مصيره، وإنقاذ شعب هاجر حتى اليوم ثلثه، ولو تيسرت التأشيرات لزاد عدد المهاجرين على المقيمين، بمن فيهم “المهجرون”.
2 – بالمقابل فقد فوجئ اللبنانيون بركاكة الملاحظات التي أبدتها “المعارضات” الحاكمة على ورقة “الحاكم المعارض”.
لقد سلمت هذه المعارضة بأن الخلل ينحصر في أمرين أساسيين، الطائفية السياسية والمشاركة، ولكنها وضعت ملاحظات هامشية. لقد سلمت بسلامة النظام، واعترضت على أسلوب في التطبيق! لا بأس بقدر من الطائفية ولكن إلى حين (والقدر قد يصير قدراً، وقد يستمر إلى الأبد)، ولا بد من شيء من المشاركة ولكن الضمانات المطلوبة لها تلغي جدارة المطالب بها.
إن الكل “يحاور” بمنطق طائفي، مطالباً بإلغاء الطائفية، فتصور أي إلغاء سيكون! إنه إلغاء لكل من يرفض الطائفية من حيث المبدأ، ويتعامل بمنطقها.
3 – إن منطق “الحكم” يتكامل مع منطق “المعارضات” حتى ليبدو وإن الكل شركاء، بمن في ذلك الحاكمون أو المتحكمون من خارج دست الحكم، والمعارضون أو المعترضون من داخل هذا الدست.
الكل مع خفض سقف المطالب وسقف “التمثيل” الشعبي، إنهم مع توزيع صلاحيات الرئيس على اثنين أو ثلاثة، ولكن حصة الشعب في اختيار الرئيس أو الرؤساء ثابتة وممنوع زيادتها، وهم مع تعزيز صلاحيات رئيس الحكومة، ولكن بغير أن تعزز أجهزة الرقابة الشعبية على الحكم والحكومة معاً. وهم مع إعطاء المجلس النيابي ورئيسه دوراً أكثر فعالية، ولكن من دون تعديلات أساسية، في قانون الانتخاب تجعل للشعب صوتاً مسموعاً في الحياة السياسية (والاجتماعية والاقتصادية).
4 – الكل يتغاضى، بإرادته، عن مجمل المسائل المطروحة، قبل الحرب، وتلك التي طرحتها الحرب، أو فرضت طرحها نتائج الحرب، فلا الحكم ولا أي من المعارضات يملك أو يريد أن يتعب في توفير الجواب.
وصعب على اللبنانيين الذين لم يشتهروا بالسذاجة أن يصدقوا أن لاخلاف المستعر (والمدمر) في البلاد إنما هو حول نقاط كالتي تضمنتها ورقة أمين الجميل وتحله ملاحظات كالتي تضمنتها أوراق المعارضات المنفصلة تمام الانفصال عن بعضها البعض.
… ومثل هذا الخلاف، لو وجد، لا يشكل خطراً يستدعي وساطة قوة عالمية كبرى، كالولايات المتحدة الأميركية، وقوة عربية (وإقليمية، بلغة هذه الأيام) أساسية وفعالة كالجمهورية العربية السورية.
وصعب على اللبنانيين أن يتصوروا أن يطلب من الرئيس الأميركي رونالد ريغان أن يتوسط في موضوع مجلس الوزراء مرتين: مرة لكي يوافق رئيس الجمهورية على قيامه بالغياب عنه، ومرة لكي يوافق الوزراء على تغييبه أو إلغائه باستحضار رئيس الجمهورية!
وصعب عليهم أيضاً أن يتصوروا إن دولتين علمانيتين أو غير طائفيتين، من حيث المبدأ، تبذلان ماء وجههما من أجل تأمين استمرار التقاسم الطائفي في لبنان حتى إشعار آخر،
إن الدستور الحالي يخلو من أي نص عن الطائفية إلا الذي يقول بخجل إنه وحتى إشعار آخر تراعى مسألة التمثيل الطائفي، ولكن المقترحات المطروحة الآن تريد تثبيت تمثيل الطوائف بحصص ونسب داخل الحصص حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً،
وهكذا يراد لنا أن نتقدم بالتراجع إلى الخلف،
ويراد لنا أن نحقق المشاركة بإلغاء المواطن،
ويراد لنا أن نحقق الديموقراطية بإلغاء المؤسسات لأن الأشخاص هم الأهم والأبقى، بوصفهم ممثلين للطوائف بينما الديموقراطية مشاع لا يملكه ولا يدافع عنه أحد.
على إن هذه ملاحظات “في الشكل”، أما الملاحظات على الأساس فمرجاة حتى يصير البحث جدياً، وهو حتى الآن طريف ومسل ولكنه بعيد عن مكمن العلة وبالتالي فهو أبأس من أن يحقق هدنة فكيف بأن يصنع حلاً.
مع ذلك فأهلا بالمتحاورين على موضوعات ليست هي لب المسألة ولا هي جوهر الخلاف ولا بحسمها يتوفر المدخل إلى الحل المفقود.

Exit mobile version