طلال سلمان

على الطريق مع الحكومة – الوحدة – الحل العربي أم مع التقسيم – الحرب – ميشال عون؟

لأول مرة في تاريخ لبنان الحديث تكتسب “الحكومة” أهمية استثنائية تجعلها تتقدم على شخص رئيس الجمهورية كما على شخص رئيسها وأعضائها مجتمعين،
“الحكومة” اليوم، تختزل بذاتها الحكم وأهدافه المباشرة وموقعه في السياسة، محلياً وعربياً ودولياً.
وهي أول حكومة في تاريخ لبنان كل ما فيها ويتصل بها محدد حتى اسمها: فهي حكومة الوفاق الوطني، ومهماتها معلنة من قبل أن تولد في “وثيقة الطائف”، وبيانها الوزاري مكتوب وبالكاد يمكن أن تضاف إليه مقدمة وخاتمة، حرصاً على الشكل.
هي، إن أردت، الحكومة – التغيير، أو الحكومة – الاصلاح، أو الحكومة – المؤسسة التي يفترض أن تشكل انتقالاً نوعياً للسلطة من يد “حاكم غير مسؤول” إلى “مرجعية” سياسية مسؤولة تتحقق فيها وعبرها القيادة الجماعية.
وهي “إن أردت” أداة التبدل في طبيعة السلطة من “حكم الطائفة الواحدة” إلى “حكم الطائف مجتمعة”.
بهذا المعنى فهي مختلفة بطبيعتها عن الحكومة الأولى لدولة الاستقلال، تلك كانت تعبيراً عن ثنائية (بشارة الخوري – رياض الصلح) لم تستقر طويلاً على قمة السلطة، وسرعان ما صارت “متمماً” لشخص الرئيس الأول الذي تبين بعد قليل من الوقت إن لا ثاني له، وإنه إن كان لا بد من ثان فهو شقيقه “السلطان سليم” وليس مبدع الميثاق الوطني وصيغته الفريدة.
إنها الحكومة المعبرة عن “انتفاء” الحاجة، حاجة العرب وحاجة الدول، إلى استمرار الحرب الأهلية في لبنان، وبالتالي فهي “إعلان نوايا” عربي – دولي باقتراب موعد لبنان مع السلام الوطني.
إنها النقطة الفاصلة بين تاريخين، وليس فقط بين عهدين، وبين منطقين متصادمين بالضرورة : منطق إنهاء الحرب الأهلية، بنتائجها السياسية الخطرة وبينها – على سبيل المثال لا الحصر – الأمر الواقع التقسيمي والطروحات الانفصالية (فدرالية – كونفدرالية) بذرائع طائفية تحولت بالحرب وعبرها إلى مؤسسات (ميليشيات وشركات وإدارات) يبشرها “السلام” الموعود ومنطقه بالبوار والإفلاس ومن ثم الاندثار ولو بالذوبان عبر مؤسسة الحكم الجامعة للطوائف كلها.
إنها حكومة المتوافقين على ضرورة إنهاء الحرب الأهلية، في الداخل والخارج، أي الأكثرية الساحقة من اللبنانيين والعرب ودول العالم…
من دخلها فهو “آمن” ومن اختار أن يبقى خارجها فهو خارج على الإرادة اللبنانية – العربية – الدولية كما جسدها “اتفاق الطائف”.
أكثر من هذا: إن المعترض على قيامها كالممتنع عن المشاركة فيها لأي سبب، إنما يعلن الحرب على كل تلك الإرادة ويشارك – بالرغبة أو بالرهبة أو بالصمت الجبان – في مهمة إسقاط “الفرصة الأخيرة لإنقاذ لبنان واللبنانيين”.
أي إن “المعترض” هنا ليس “معارضاً” للحكم أو للحكومة، بل هو في الجبهة المقابلة والمقاتلة لكليهما ومن خلفهما اتفاق الطائف والوثيقة العربية للوفاق الوطني في لبنان بإصلاحات الحد الأدنى التي تضمنتها كحقنة أوكسجين ضرورية لإنعاش النظام المعطوب.
والفرز الفعلي يتم على قاعدة: من مع الحل العربي، مع الطائف، مع الجمهورية الجديدة، مع حكم المؤسسات، مع الوفاق، ومن ضد هذا كله ومع ميشال عون.
لا مكان للحياد والمحايدين أو المستنكفين بسبب “حجم” الحصة أو أهمية الحقيبة.
ولا مكان للمرجئين قرارهم حتى ينهي “الآخرون” الجنرال عون وحربه على الحل والطائف والشرعية،
الحكومة هي إطار معركة الحل العربي وهي ساحتها، والمتخلف هنا كالفأر من الجبهة في زمن الحرب، يصنف في خانة “العدو” ويحاسب وفق هذا التصنيف…
ولا مجال لقسمة ضيزي من نوع: لحرب الحكم أهلها يخوضونها بأرواحهم ودمائهم ثم يخلون الساحة بعد الانتصار، إذا ما انتصروا، لأهل الحكم ووجاهة عصر السلام!
ولأول مرة في تاريخ الحرب الأهلية الطويلة تبدو هذه “الحرب” حرب حكومة الوفاق الوطني، مبررة… فهي حرب على الحرب، وحرب لإنهاء دهر الحرب، وهي آخر الحروب على طريق السلام المرتجى.
ومن الطريف إن التقسيميين هم الذين بادروا إلى إعلان الحرب، وقال ميشال عون بلسانهم إنه إنما يقاتل لإسقاط الطائف، وبالتالي لإسقاط أهله جميعاً: من شارك، ومن حضر، ومن سمع أو عرف فقبل، ولم يخرج على الناس شاهراً سيفه!
الأطرف إن التوحيديين، أو من يفترض أن يكونوا كذلك، التزموا حتى الآن موقع الدفاع فبدوا أضعف مما هم فعلاً على أرض الواقع، وأضعف من الأسلحة التي بيدهم، وهي هجومية بطبيعتها فإن لم تستخدم في الهجوم فقدت فعاليتها وآذت حاملها… العاجز.
ومع التقدير لمقتضيات المناورة والتكتيك فقد آن أن تحسم المواقف الحائرة والمحيرة التي تبلبل الناس وتقدم للعهد الجديد صورة غير مريحة وغير مشجعة.
وبصراحة مطلقة فإن مراجع الطائفة المارونية هم المطالبون بأن يحسموا هذا الجدل الذي طال واستطال وبدأ يتحول إلى سفسطة ممضة،
مطلوب موقف من رينيه معوض، الرئيس الماروني للجمهورية الجديدة،
ومطلوب موقف من البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير الذي هجرته السياسة التقسيمية من مقره “الشرعي”، وتحاول الآن أن تستعيده لتتخذ منه رهينة ولتحارب به “سياسته” وموقفه المعلن منذ “بيان بكركي” وحتى اتفاق الطائف.
ولا تكفي المواعظ والكلمات الملتبسة والتي تدمي ولا تقول، بل لا بد من القول: مع الوحدة ومن والاها وساندها وايدها ودعمها وحماها ويحميها، أم مع التقسيم والعامل لتثبيته وتثبيت سلطته فوقه ولو انتهى الأمر بزوال لبنانز
ومطلوب موقف واضح وصريح من الرئيس سليمان فرنجية، فالموقف المبدئي المضمر مفيد ولكنه لا يكفي.
ومطلوب موقف خارج الإيهام والغمغمة من الرهبانيات المارونية، وبالتحديد من الاباتي هاشم،
أما الرئيس الأسبق شارل حول، ومعه الاباتي نعمان، فموقفهما إلى جانب العماد عون وضمن مشروعه مهما حاولا أن يبرراه بضرورات المصالحة المارونية وحقن دماء أبناء الطائفة بمنع الاقتتال داخلها.
فلا أحد يريد أن تقتتل الطائفة المارونية أو أية طائفة أخرى، بل إن الكل يحلم بانتهاء عصر الاقتتال، سواء الداخلي، أو في ما بين الطوائف،
لكن منع الحرب يكون بالموقف، وليس بالتهرب من أي موقف، ولا خاصة بتقديم مصلحة الطائفة، كما يرونها، على مصلحة البلاد وعبادها المؤمنين.
ومنع الحرب يكون بتسمية الأشياء بأسمائها، فلا تكون “الشرعية” في بعبدا بينما الرئيس الشرعي في بيروت، ولا يكون الاندفاع في اتجاه التقسيم “عناداً وثباتاً على رأي يخدم مصلحة لبنان”، ولا تكون السياسة الانتحارية مغالاة في الحرص على سيادة لبنان واستقلاله وسلامة بنيه.
منع الحرب يكون بإعلان المخطئ مخطئاً وليس باستيعابه عن طريق فرض التراجع على المصيب حتى لا تتصدع وحدة الطائفة.
إن ميشال عون مشكلة مارونية، بالتوصيف الأولي، لكن حلها لا يمكن أن يكون إلا وطنياً،
فهو معطل الشرعية، والشرعية مسألة وطنية تتجاوز الطائفة وإن كان الرئيس مارونياً،
وهو مخرب لوحدة البلاد، وداعية للتقسيم ومقاتل من أجله، والوحدة قضية وطنية – وقومية – تعني اللبنانيين بالقدر نفسه، بمن في ذلك غير الموارنة منهم.
وهو الآن قنبلة موقوتة أو لغم في طريق الوفاق الوطني. وهذا الوفاق قرار بل إرادة عربية – دولية تنطلق من الحرص على لبنان واللبنانيين، ومن واجب الجميع التعاون لنزع هذا اللغم وتفكيك هذه القنبلة قبل فوات الأوان.
من هنا يمكن القول إن الناس في لبنان فريقين: فريق مع الوحدة، مع الوفاق، مع الجمهورية الجديدة، مع الطائف وبالتالي مع حكومة الوفاق الوطني، وفريق مع التقسيم ومع استمرار الحرب الأهلية بقيادة ميشال عون.
وإذا كان الجميع قد راعوا حتى الآن الاعتبارات الخاصة للدكتور جورج سعادة، وكونه أسير موقف سمير جعجع، وهو الأسير لدى ميشال عون، كما تقول أوساطه، فهم الآن قد ضجروا من تردده، وكادوا ينسون ما حفظوه له من مواقف أيام الطائف، وبدأوا يتحولون إلى محاسبته وبقسوة.
فجورج سعادة بموقفه المائع والمميع إنما يخدم، أراد أم لم يرد، سياسة كسب الوقت لتثبيت الأمر الواقع التي يتبعها العماد عون مفترضاً إنها ستوصله إلى غرضه بالبقاء حيث هو حصناً انفصالياً لا قبل للوحدويين على إزالته بالتصدي المباشر له واقتحام مواقعه.
وجورج سعادة بتردده يدمغ العهد كله بسمة التردد ويشل حركة مواجهته لهذا الواقع التقسيمي القائم في “الشرقية”، في حين تتلاحق التطورات، ويصيب التبدل بعض المواقف، فتبهت الحماسة لوحدة لبنان، بل ولمصيره، ويقول قائد المهتمين: حاولنا لكن اللبنانيين لم يساعدونا ولم يساعدوا أنفسهم فليتحملوا النتائج إذن، وعلى نفسها جنت براقش.
لقد ذهب زمن الصبر وطول الإناة ومعالجة الأمر بالروية، وبدأ الوقت يفعل فعله السلبي، ولم يعد مناص من القرار،
ولم يعد بوسع أحد، بعد اليوم، أن يقول: لقد تسرع رينيه معوض فتهور، وفرض على الناس مواقف لم يتسن لهم أن يفكروا فيها جيداً وأن يتخذوها بعد اقتناع بأنها من الحل وفيه.
لقد حان أوان القرار،
واسهل أن نتحمل نتائج القرار، ومعنا العرب والعالم، من أن نتحمل مغبة عدم اتخاذه فنخسر لبنان ومعه العرب والعالم.
وماذا ينفع الإنسان إذا خسر نفسه ولم يربح العالم؟!

Exit mobile version