طلال سلمان

على الطريق معمر القذافي يعكر الماء على حاملة رونالد ريغان!

قرأ الناس في كتب الجغرافيا إن إسبانياً يدعى كريستوف كولومبس هو الذي “اكتشف” القارة الأميركية، وإن هذا الاكتشاف قد احتاج منه أن يمخر بسفينته البحر الأبيض المتوسط من الساحل الايبري حتى مضيق جبل طارق، ومنه نفذ إلى المحيط الأطلسي الذي كان يدعى “بحر الظلمات”، ثم شق عباب الأمواج العاتية حتى بلغ الضفة الأخرى المسكونة، آنذاك، بمن أسموا “الهنود الحمر”!.
لا يهم أن نتوقف عن المغالطات التي تتضمنها هذه الرواية، بدءاً بحماية “الاكتشاف” وانتهاء بتسمية الأميركيين الأصليي (أصحاب الأرض وأبنائها) هنوداً (لأن كولومبس كان يقصد الهند، أصلاً) أما اللون الأحمر فقد أنعم عليهم به كنوع من التمييز العنصري للسيد الأبيض القادم من أوروبا الحضارة وعصر النهضة.
المهم إن الجغرافيين قد ارتكبوا ، في ما يبدو، خطأ تاريخياً فادحاً لم يتنبه له إلا “الأميركيون” الذي وفدوا إلى القارة الجديدة بعد المكتشف الإسباني، وهكذا فقد دأبوا على محاولة تصحيحه تارة من البحر، وتارة من الجو، وفي أحيان أخرى من الجو والبحر معاً،
فهؤلاء السادة الأميركيون البيض، ورمزهم الرئيس المنتهي رونالد ريغان، يصرون على الادعاء إن حدود بلادهم الواسعة جداً، الولايات المتحدة الأميركية، تبدأ عند شواطئ الشمال الأفريقي، وتحديداً على الساحل الليبي.
فقبل مائة وثمانين سنة، حاول الأميركيون أن ينزلوا على الساحل، وفي منطقة درنة تحديداً، فهب “أهل البلاد الأصوليون” يقاومونهم ويقاتلون جندهم حتى هزموهم، فولوا الادبار تاركين إحدى أهم قطعهم البحرية آنذاك، فيلادلفيا، جثة هامدة على ساحل تلك المدينة الصغيرة التي تقوم تخماً بحرياً لصحراء ليبيا الشرقية،
ثم إن الأميركيين يحاولون، ومنذ سنوات تمتد إلى بداية عهد ريغان الثاني تقريباً، أن يثبتوا “حدودهم” على الشاطئ العربي الليبي… يبعثون بحاملات طائراتهم الجبارة في مطلع كل صيف “للنزهة” ، بينما قلاعهم الطائرات تستكشف هذه البلاد الواسعة مساحتها القليل عدد سكانها والعظيم طموح قيادة الثورة فيها إلى نهضة قومية شاملة.
ولقد استخدم الأميركيون تحت قيادة ريغان كل سلاح “لاستعادة” أرضهم السليب التي استولى عليها، غصباً، العقيد معمر أبو منيار القذافي،
استحدموا الأقمار الصناعية للتجسس، ورجال المخابرات المدربين للتخريب، وشبكات الجواسيس لبث الشائعات والتحريض وإشعال الفتن،
كذلك فهم استمالوا المتضررين من ثورة الفاتح، وايتام العهد الملكي، ومعهم أولئك الذين يتوهمون إن خلاص شعبهم ورفاههم وتقدمهم لا يكون إلا باعتماد “نمط الحياة الأميركية”، وحاولوا أن يصطنعوا منهم جبهة معارضة فما أمكن جمعهم لاختلاف المقاصد والأغراض والنوايا،
وهم قد حرضوا العديد من الأنظمة العربية على معمر القذافي استعدوها عليه، وطاردوه في أفريقيا وسائر أرجاء العالم الثالث، واستدرجوه إلى العديد من المعارك في أربع رياح الأرض، لاستنزافه وإحراجه، وتثقيله بأعباء لا يستطيع النهوض بها، فإن حاول تم ذلك على حساب هدفه الأصلي ببناء “نواة الوحدة” والدولة العربية القومية ذات الرسالة التحريرية العالمية على أرض ليبيا التي جعلها “الجماهيرية” الأولى في التاريخ…
ثم إنهم ألفوا عنه الروايات، وكتبوا فيه الكتب، وأخرجوا من حول “أسطورته” الأشرطة السينمائية، واتخذوه في بلادهم رمزاً “للإرهاب” ، ثم عمموا عبر وسائل أعلامهم الهائلة الانتشار والنفوذ صورته هذه في الكون كله،
وأخيراً، وبعدما استنفدوا هذه الوسائل جميعاً، دفعوا بقلاعهم البحرية والجوية وأخذوا ينازعون ليبيا سيادتها على خليج سرت (مسقط رأس معمر القذافي)!
… وبعد المناورات والاستفزاز والتحرش المتواصل والمنهك، عمدوا إلى ما لم يكن ممكناً تخيله في هذا العصر: بعثوا بطائراتهم الحربية الجبارة من قواعدها المنتشرة في معظم بقاع أوروبا، لتحاول اغتياله في بيته بطرابلس الغرب،
وقال “شرطي السلام الأميركي” رونالد ريغان إنه إنما يكافح “الإرهاب” بشخص معمر القذافي،
لم يخجل، لم ينكر، لم يتلجلج لسانه، لم يتلعثم، لم يحاول تلطيف وقع الأمر، لم يموه الفعل الشنيع والمستنكر، ولا هو حاول أن يداري دهشة العالم وغضبته، بل أعلن بزهو إنه يريد تأديب معمر القذافي (ومعه شعب ليبيا) بالقتل العمد!
وها هو رنالد ريغان، الذي قتلت غارته الأولى على طرابلس وبنغازي، رجالاً ونساء وأطفالاً كانوا يهنأون بنوم عميق في أسرتهم ببيوتهم البعيدة عن البيت الأبيض بمدى قارتين، يعلن إنه سيكرر المحاولة ولن يخرج إلى التقاعد والنسيان إلا إذا “استعاد” الأرض الأميركية السليب على شاطئ أفريقيا الشمالي!!
فالاشتباك الجوي الذي وقع أمس، أمام ساحل مدينة طبرق، على الساحل العربي الليبي، الواقعة بين درنة إياها، وبين الامتداد الطبيعي في العلمين ومرس مطروح وصولاً إلى الإسكندرية على ساحل مصر المحروسة (جيداً)، هو في أغلب التقديرات “الرصاصة الأولى” في حرب جديدة تنوي الإدارة الأميركية أن تشنها على الأرض العربية الليبية والشعب العربي في ليبيا، بل على الأمة العربية كلها، وعلى كل من ما زال يقول “لا” ولو في تشهده،
وطريفة هي مبررات الاشتباك: تجيء حاملة الطائرات كينيدي إلى قبالة الساحل العربي الليبي بمواجهة طرابلس، وسط تهديدات يطلقها أهم المسؤولين في واشنطن بغزو ليبيا و”تصفية” قيادتها وتقلع من على ظهرها أسراب المقاتلات والقاذفات بحجة أعمال الدورية والاستكشاف، فإذا ما طارت طائرة عربية ليبية فوق ساحل بلادها تهاجم وتضرب لأنها… تهدد الحاملة كينيدي!!
أي إن “الخروف” الليبي قد عكر على “الذئب” الأميركي مياه الساحل الليبي على شاطئ البحر الأبيض المتوسط الذي لا تدانيه حدود الولايات المتحدة الأميركية ولا تتصل به ولا يمكن أن تبلغها انطلاقاً منه حملات برية أو بحرية أو جوية تهدد سلامة المواطن الأميركي أو حتى مصالحه في العالم،
ثم يكون على العالم أن يتفرج صامتاً، أو أن يلوي عنقه حتى لا يرى بأم عينه هذه الجريمة البشعة والتي لا سابقة لها إلا السابقة الأميركية إياها ضد ليبيا ومعمر القذافي قبل عام ونصف العام… فالوفاق الدولي أهم من رجل ومن بلد منسي على تخوم الصحراء الأفريقية.
… ويكون على العرب أن “يعتبروا” وأن “يتعظوا” بالدرس الأميركي المدوي،
… ويكون على كل معارض أو معترض، على كل حالم بالتغيير أو بالتطوير، بالتحرر أو بالتحرير بالتقدم وبالعدالة بالاكتفاء وبالكرامة، أن يئد أحلامه في ليل بهيم حتى لا تكتشفها الأقمار الصناعية وأجهزة التصنت الأميركية الحديثة، فيطير رأسه بالأحلام “القاتلة” فيه!
لقد كان أعظم ما يطمح إليه معمر القذافي أن يكون “رجل قضية” ، لكن السياسة الأميركية الخرقاء حولته وهي تحوله فعلاً إلى قضية بذاته،
لقد كان يناضل، يخطب ويكتب ويخاطب ويحاضر ويتحدث عبر وسائل الأعلام جميعاً، ليكون صوت المظلومين والمضطهدين والمغلوبين على أمرهم في دنيا العرب، وفي العالم الثالث،
وها هي السياسة الأميركية الظالمة والمستهترة بكل القيم والأعراف والقوانين والشرائع تحول معمر القذافي إلى رمز للشعوب الطامحة (أو الحالمة) إلى الحرية والاستقلال والوحدة والتقدم،
والقضية تظل أعمق من أن تبلغها فتدمرها الغواصات،
والرمز يظل أعلى من أن تطاله فتقصفه وتبيده الطائرات،
وشرف عظيم لمعمر القذافي البدوي ، العربي، ابن سرت وخليجها، ابن الأرض الليبية التي فقدت أكثر من نصف شعبها في مقاومة الاحتلال الاستيطاني الإيطالي، أن يكون اليوم الهدف الأول، وربما الوحيد، للاعتداء الأميركي على شعوب الأرض برمتها وعلى نزعة الإنسان إلى الحرية، إلى الخبز مع الكرامة،
لكن هذا الشرف يتكامل برفع الصوت ضد المعتدي وليس بالصمت على جريمته.
ولن تسطت شعوب العالم لهذا الامتهان لشرفها،
كائنة ما كانت ملاحظتها على أفكار معمر القذافي وسياسته.

Exit mobile version