طلال سلمان

على الطريق معاهدة من أجل الكيان!

لا تنتهي الحروب الأهلية بالمواعظ والتعويذات والدعوات الصالحات، وإن كانت هذه تنفع حطباً لتسعير تلك وتأمين المدد لشلال الدم المهدور.
تنتهي الحروب بالقرارات الشجاعة للرجال المسكونين بحس المسؤولية واختيار الصعب في اللحظة الحاسمة حتى لا يكون الانتحار أو الاندثار.
ولقد كان اتفاق الطائف، وبمعزل عن التحفظات عليه، قراراً شجاعاً للرجال الذين ارتضوه كخيار وحولوه إلى دستور وتحولوا به إلى مؤسسين للجمهورية التي كان يفترض أن تبدأ بإلغائهم.
وليس من حق من وافق على الأصل أن يعترض على التفصيل، ومن أقر المضمون أن يثير حرباً وهمية حول الشكل… فليست مصائر الكيانات والشعوب، أو لا يجوز أن تكون، موضوعاً للمزايدة أو للمناقصة، أو لما هو أدهى: تسجيل المواقف “للتاريخ”، ومن باب “ربط النزاع” أو تهيئة الجواب المعتذر لسؤال لم يطرح بعد عن “جريمة” لم ترتكب أصلاً،
فلا الياس الهراوي ذاهب اليوم إلى دمشق لكي يبيعها أو يسلمها لبنان بكيانه الخالد وأرزه المقدس وسيادته السرمدية واستقلاله الأزلي وعنفوانه الذي قد من صوان،
وليس المعترضون على المعاهدة بأكثر “لبنانية”، وبالمعنى المبتذل لهذه الكلمة، من حسين الحسيني وعمر كرامي وميشال المر وبطرس حرب ونبيه بري ووليد جنبلاط وميشال ساسين ونديم سالم وخاتشيك بابكيان وفارس بويز وشوقي فاخوري وعلي الخليل وسامي الخطيب ومحمد يوسف بيضون ومحسن دلول ومروان حمادة وطلال أرسلان وسائر الثلاثين، هذا حتى لا نقول إن الإسرائيلي قد سرق الموقف والكلمات من أفواه المعترضين والمتحفظين وجعلهم خلفه مقدماً نفسه عليهم في مجال الحرص على دولة لبنان وسلطتها الشرعية وقرارها المستقل!
ولولا إن المعاهدة تشكل تحولاً نوعياً في سياق العلاقة الرسمية بين النظامين والحكومتين في كل من لبنان وسوريا، ينقلها من التوتر الدائم والأزمات الموسمية والتفجرات المستعصية على الضبط، لما كانت لها مثل القيمة التي يحتفي بها اليوم البلدان التوأمان،
كذلك فلولا إن المعاهدة، مثل اتفاق الطائف، تشكل خطوة واسعة في اتجاه الخروج من الحرب، لما كانت نصوصها الهشة قد مرت بلا اعتراض من جانب أصحاب الحق التاريخي بالاعتراض وهم الذين يشعرون اليوم بشيء من المرارة إذ يضحون بأحلامهم الوحدوية مقابل ورقة معرضة للتلف أو للتخزين أو للتمزيق أو للتعطيل بفيتو من الخارج يستنفر الغرائز الطائفية في الداخل ولتسكينها بفتى بضرورة نسيان المعاهدة!
لقد وفرت الأيام القليلة الماضية نماذج حسية لمصائر الدول وأنظمتها وحكامها إذا ما تجاهلوا أو تصادموا مع حقائق العصر وتحولاته المذهلة،
ذهب العراق وبقي صدام،
وذهبت الكويت وبقي آل الصباح،
وبالمقابل ذهبت وحدة الصومال مع خلع سياد بري الذي أصر أن يفتدي نفسه ببلاده “حتى آخر طفل فيها”،
كذلك فإن “فرار” منغيستو بعدما تصدعت وحدة الحبشة وتفاقمت مخاطر الحرب الأهلية، ربما يكون قد جاء متاحراً بحيث لا ينفع في إنقاذ الكيان السياسي المتهالك للإمبراطورية المرمية الآن كجثة على رصيف التاريخ،
كما التهم عجز الدولة عن صهر فئات شعبها المختلفة في بوتقة وطنية واحدة وريث الزعامة في الهند راجيف غاندي، الذي اكتملت به ماساة أسرته ذات الدور التاريخي في تقديم نموذج فذ لقدرة العالم الثالث على اللحاق بالعصر واستيعاب التكنولوجيا الحديثة بما فيها الذرة ودخول دنيا الصناعة الثقيلة.
يكاد يكون “الخيار” محصوراً بين “رئيس” ولا وطن وعلى حساب الوطن، أو بلد – ساحة بغير هوية مفتوح لكل إعصار لا رأس له ولا رئيس،
… والمعاهدة إحدى ضمانات بقاء “الدولة” برأسها ورئيسها والكيان فوق العشرة آلاف كيلومتر التي تحدها سباقية “النهر الكبير” شمالاً والبيت المقسوم نصفين في تل نحاس جنوباً.
إنها معاهدة من أجل “الكيان” وليست تهديداً له أو بيعاً في المزاد، على كثرة البياعين والمسوقين والسماسرة بين أحفاد الفينيقيين الميامين!

Exit mobile version