طلال سلمان

على الطريق مطار المحاصرين والقمة الأولى

… وفجأة، طار المطار!
وكان لا بد أن يجيء الدور على المطار لكي تكتمل دائرة الحصار حول بيروت ومن فيها ومن حولها جنوباً وشمالاً وشرقاً، ساحلاً وجبلاً، أي على اللبنانيين جميعاً… اللهم في ما عدا ركاب “الصني بوت” الذي “يهرّب” البعض من جونيه إلى لارنكا وبالعكس، بتأشيرة مرور إسرائيلية.
لكأنما يراد لنا جميعاً أن نسافر خلسة، وأن نعود خلسة، ودائماً بإذن من الإسرائيليين، ناهيك بأننا نعيش خلسة وبإذن – مؤقت – ممن بيده القضاء والقدر!
لكأنما يراد إفهامنا أن لبنان لا يستطيع التحرك في اتجاه الحل، إلا بإراة إسرائيل وبموافقتها، والعصا لمن عصا!!
فإسرائيل 1987 هي “خاقان البر والبحر” والجو أيضاً،
لجيشها البر، والبحر لأسطولها، أما الجو فميدان السباق بين طياريها الذين يتمرنون يومياً على إجادة التسديد بأجسادنا وبيوتنا وأحلامنا وذكرياتنا وطموحاتنا كأهداف حية!!
وليس من قبيل المصادفات إن الطائرات الحربية الإسرائيلية كانت تغير أمس على بعض ضواحي صيدا وتلال مغدوشة (!!) بينما “المدافع المجهولة” تمنع طائرات الركاب المدنية اللبنانية من الهبوط والاقلاع في مطار بيروت الدولي جداً جداً.
وكالعادة لم يعرف الناس، عامة الناس، سبباً للقصف المفاجئ، أو بالأحرى للقرار المفاجئ بإقفال المطار،
وكان علينا جميعاً أن نخمن، وأن نقدر، وأن نضرب أخماساً بأسداس لعل أحدنا، “يحزر” ماذا عدا مما بدا حتى يضرب على الناس طوق من العزلة يجعلهم مهددين بالموت اختناقاً في المستنقع الآسن المفروض عليهم أن يعيشوا رهائن فيه؟!
هل هي حكاية “المطار البديل” في حالات، تكريساً للانقسام وتثبيتاً لحدود “الكنتنة” الواقعة؟!
أم هي حكاية استكمال السيطرة على مرفق الطيران، إضافة إلى أنترا، والمشرق، بكل الحكايات التمرزية عنهما والنوايا التمرزية حيالهما وصولاً إلى الاستيلاء على المصرف المركزي والتحكم بالنقد الوطني، كأداة توحيد، وتوظيف ذلك كله في خدمة مشروع سياسي مشبوه بالضرورة، إذ هو مدموغ بالبصمة الإسرائيلية المسدسة الأضلاع؟!
أهي نسف للقمة العتيدة التي تشكل، برغم كل شيء، نقطة تحول في المسار قد تفتح في جدار الليل الساجي كوة تنفذ منها حزمة ضوء فتبشر الناس بأن ثمة مخرجاً ما، ولو بعد حين؟!
أهي ذلك كله مجتمعاً، فإذا صح مثل هذا التقدير فما هو الرد ومن يتولاه وكيف يكون؟!
وكيف السبيل لأن يجيء الرد قوياً وحاسماً ودقيق التسديد بحيث يصيب هدفه الصحيح، أي العدو، لا غيره،
ذلك إننا تعودنا على نمط من “القصف” و”القصف المضاد” لا يصيب غير الناس في أرواحهم وممتلكاتهم، وهكذا يكون الناس الضحية في الحالتين،
كذلك تعودنا أن يكون الإيذاء موجهاً في الحالين إلى المال العام والمصلحة العامة وحقوق المواطنين عموماً: كلما أراد أحد “الأقوياء” أمرأً لا يقر او لا يسلم به “خصومه” انتقم بتدمير أو بشل مؤسسة عامة أو استولى على مرفق عام، أو قصف واحداً من الأحياء السكنية مضفياً على “الموضوع” طابعاً شعبياً!!
فكثيراً ما كان الضرر العام هو السبيل إلى الغرض الخاص،
ومن أسف إن الحكم نفسه تورط، ومنذ البداية، في مثل هذه اللعبة الجهنمية، فبرر صدورها أو ممارستها من قبل الآخرين، ممن لا يتولون مسؤولية شاملة عن البلاد والعباد في كل زمان ومكان.
وليس الوقت مناسباً للشماتة بالحكم الذي وقع في الكمين الذي طالما نصبه لخصومه، خصوصاً وإن المتضرر هو مجموع الشعب اللبناني والمستفيد واحد أحد هو العدو الإسرائيلي (ومن معه من “الجعاجعة شرقاً وغرباً ممن يقاتلون احتمالات الحل حيثما وانى ظهرت)!!
بيروت ولبنان، إذن، بلا مطار، أيضاً!
كان حصارنا الأول بالدبابات الإسرائيلية،
وحصارنا الثاني باتفاق 17 أيار، وما أنجب من حروب في الجبل والضاحية وبيروت،
وحصارنا الثالث بقصر النظر السياسي الذي عطل الوصول إلى حل، ثم إلى مخرج، ثم حتى إلى هدنة،
وحصارنا الرابع بالانشقاقات والتشطرات التي كادت تجعل الواحد منا اثنين بل وأربعة أجزاء وأحياناً عشرة وأكثر،
وحصارنا الخامس بالدولار، الذي استولد الجوع والفاقة والعوز ومعها اليأس والقنوط من إمكان النجاة في الحال أو في المقبل من الايام،
وها هو الحصار السادس يجيء ليؤكد إننا لم نبتعد بما يكفي بعد عن صيف العام 1982، وإن الخروج من دائرة الزلزال الذي أحدثه الغزو الإسرائيلي لما يكتمل،
لهذا كله ساد الناس يقين “سحري” وهم يسمعون أمس دوي القنابل الإسرائيلية على المطار (ولا يهم أن يكون مصدرها مرابض مدفعية “القوات” أو ما يعادلها)، بأن موضوع المطار قد احتل مكانه (المحضر سلفاً)، في ملف المسألة اللبنانية بأبعادها وتشعباتها وتداعياتها المنطقية المفترضة.
فليس بين أمورنا اليوم، ما هو موضوع فرعي،
إن الأمور تمسك ببعضها البعض وتتداخل فتصير كالبنيان المرصوص،
السياسة والأمن، الاقتصاد والنقد، الطيران والمطار، التقسيم والتوطين، التعليم والاستشفاء الخ،
(نرجو فقط ألا يصير موضوع النفايات على مثل هذه الدرجة من الأهمية فنختنق “بالنشوة” ويحرمنا سوء طالعنا من أن نشهد الطلعة البهية للحل المرتجى)…
بهذا المعنى تغدو القمة “قضية” قائمة بحد ذاتها،
وبهذا المعنى يصبح من الضروري النظر إليها بوصفها “القمة الأولى” وليست الثانية عشرة.. فلو أفادت تلك القمم المتلاحقة لما كان ثمة حاجة إلى دزينة منها!!
ثم إننا لسنا طماعين، وقد “زمت” آمالنا و”كشت” أمانينا فلم نعد لنطلب غير الإيحاء بإمكان وضع نقطة نهاية للتدهور المتفاقم والمتسارع والذي لا يكاد يبقى لنا من الهواء ما يكفي للتنفس،
خصوصاً وإن المطار كان يمثل آخر ما تبقى من رئتنا المعطوبة،
وكلمة أخيرة: لن يكون مطار حالات حلاً لأية مشكلة، فمن الممكن تعطيله بالطريقة “الحضارية” ذاتها التي استخدمت لإقفال آخر شباك في بيروت،
وخير لنا أن يكون لنا مطار واحد “يفتح الدنيا في وجهنا، بدل أن يكون لنا مطاران مقفلان لا يربطاننا إلا بالعالم الآخر!
فلتكن القمة، إذن،
وليكن موضوعها الوحيد الوجود الإسرائيلي في لبنان،
أما الباقي فتفاصيل.. بما في ذلك المطار الفاتح الآن ذراعيه بالشكوى ولا من يسمع شكواه وشكوانا!

Exit mobile version