طلال سلمان

على الطريق مصرنا ومصرهم

باستمرار كان في مصر تياران مؤثران في حياتها السياسية:
تيار وطني صوفي النظرة إلى مصر والعالم العربي (والإسلامي).
وتيار إقليمي شوفيني يستصغر شأن العرب ويشده انبهاره بالغرب إلى العواصم الكبيرة، فيستغني بالعالمية عن الوطنية وعن القومية معاً.
وكانت مشكلة التيار الأول في نقص وعيه القومي، وفي تلك الصوفية التي تغريه بتبسيط قضية التعامل مع بقية العرب، فيتناولها بعمومياتها ودونما دراسة أو معرفة كافية بأوضاعهم وظروفهم وعقدهم التي لا بد أن تعكس نفسها على علاقاتهم السياسية.
أما مشكلة التيار الثاني فكانت في غربته عن واقع مصر ذاتها والواقع العربي عموماً، وفي افتقاره إلى الأصالة، ومن ثم إلى جدارته بتمثيل شعبه وبلاده. وكأي “هجين” فإن مردود حركة هذا التيار كان – عملياً – الاضرار بوطنه وبأمته، بغض النظر عن النوايا.
هذا لا يعني بطبيعة لاحال، إن العرب خارج مصر كانوا أصحاء دائماً، وقوميين صادقي العقيدة دائماً، وعلى الدرجة المطلوبة من الوعي واليقظة دائماً… فهم، كأخوانهم المصريين، يعانون من الأمراض ذاتها التي خلفتها فينا عصور القهر الاستعماري. لكن المطالبة تكون بقدر المسؤولية، وتكون أيضاً بحجم الحق التاريخي في القيادة، وهو حق لمصر لم يجادلها فيه العرب إلا في لحظات معينة، ومن منطلق سياسي بحت يتصل بمسلك لحاكمها يستشعرون فيه انحرافاً عن مطامح مصر ومصالحها أولاً، وعن المطامح والمصالح العربية بالتالي.
مع التجربة الناصرية وعبرها تبلور التيار الوطني داخل مصر وتحدد وتنامى وعيه القومي حتى لم تعد عروبة مصر، بالنسبة إليه، موضع مناقشة أو مجرد عواطف تتذبذب بين الحدود القصوى للحب والكراهية والإعجاب والنفور العدائي.
واندثر التيار الثاني أو كاد، فتقوقع على ذاته حاملاً على وجهه دمغة الإدانة بالانحرافز
وهكذا تخلص المواطن المصري من ازدواجية وهمية كان يعيش تحت وطأتها بين انتمائه الوطني المكين لام الدنيا وهويته القومية التي اكتسبت سمات نضالية وأبعاداً فكرية تقدمية بعد معمودية الدم في المعارك المريرة التي خاضها – جنباً إلى جنب مع أخيه العربي في الأقطار الأخرى – ضد الاستعمار والصهيونية والرجعية العربية.
لكن هذا الوعي الوليد بحاجة إلى رعاية دائمة حتى تضرب جذوره عميقاً في تقاليد الحياة السياسية المصرية، وليس فقط في الضمير العام.
والتعامل مع هذا التيار يجب أن يتسمرن وأن يتكثف، حتى لو فقد، لفترة ، السيطرة على مقاليد الأمور في الدولة متراجعاً أمام انتعاش التيار الثاني.
فهذا التيار هو مصر.
أما التيار الثاني فشيء آخر، وسيظل هجيناً مهما تعززت عمليات دعمه من الخارج، بل إن هذا الدعم سيفضحه أكثر فأكثر: سيفضح غربته، وسيفضح أيضاً عجزه عن الإنجاز وعن تقديم حلول حقيقية لمشاكل مصر الحقيقية.
ولا مجال، بعد اليوم، لزعامة “مصرية” في مصر.
زعامة مصر السياسية للأكثر عروبة فيها… تماماً كما أن أديب مصر الكبير هو المعروف أكثر عربياً، بل وكما أن الممثل المصري الكبير هو صاحب الجمهور العربي الأعرض.
.. وليس بالنفط وعليه تقوم الزعامات…
وإنما بالجماهير وعليها.
ولا خطر مطلقاً في أن يصبح اسماعيل فهمي ، مثلاً، نجماً جماهيرياً… هذا حتى لا نسمي أولئك الذين لم يكونوا في أي يوم معبرين عن مصر، ولن يكونوا مستقبلاً، لأنهم لن يفهموا مصر الجديدة كما لم يفهموا مصر القديمة، ناهيك بالعرب… وحتى العالم!

Exit mobile version