طلال سلمان

على الطريق ما بين جنيف وحي فرحات: انتحار الدولة!

على امتداد الأيام الثلاثة الماضية تصرفت الدولة وكأنها حسمت أمرها واتخذت قرارها الخطير: الانتحار!
فليس لما شهدناه ونشهده في بعض مناطق بيروت الغربية، (صبرا وشاتيلا والطريق الجديدة)، وفي الضاحية الجنوبية بكل أحيائها الداخلية، من معنى إلا أن تكون الدولة قد رأت إنها لا تستطيع تأكيد وجودها إلا بإلغاء شعبها. يستوي في ذلك أن يكون الإلغاء بالإبادة الجسدية المباشرة أو بالتعامل مع الأهالي وكأنهم مجموعة من العصاة والمشاغبين والإرهابيين “والمخربين”، وفي هذا ما فيه من استعداء للدول الكبرى على هذا الشعب بدءاً بالولايات المتحدة الأميركية وصولاً إلى إيطاليا مروراً ببريطانيا وفرنسا ذات الدور والاهتمام التاريخي المشهور!
لقد وجهت الدولة في الأيام الثلاثة الماضية مدافعها إلى مهاجع الناس، بسطاء الناس، ممن لا أمل لهم خارج الدولة ولا مرجع ولا معين، وخاطبتهم عبر حمم قذائفها لتقول: لا مكان لنا جميعاً، فإما أنا وإما أنتم، ولهذا عليكم أن تختفوا، أن تضمحلوا وتندثروا لأكون… ولسوف أكون!!
هذا في حين لا وجود للدولة ولا مدافع ولا هيبة ولا شرعية إلا في هذه المناطق بالذات، وفي وجدان هؤلاء الناس بالذات!
وفي حين إن المناطق الأخرى، وغير بعيد عن خطوط التماس مع بيروت الغربية وضاحيتها الجنوبية، تخضع لدويلات أخرى ولسلطات أخرى تشكل نفياً حسياً للدولة – الدولة ولمشروع الوطن، وصولاً إلى المناطق التي مام تزال تحت الاحتلال الإسرائيلي حيث لا شيء يبقى اسم لبنان ذاته غير نضالات بسطاء الناس إياهم (أهالي المقصوفين في بيروت والضاحية)…
وهكذا وجدت أكثرية الناس أمس نفسها محاصرة بنيران سلطتين معاديتين، مما يفرض عليهم خياراً وحيداً: أن يقاتلوا هنا كما يقاتلون هناك لتأكيد وجودهم وحقهم بالحياة وبالكرامة في وطنهم.
ومؤكد إن الناس قاتلوا ويقاتلون في بيروت والضاحية مرغمين… فهم الذين ضحوا وتحملوا ما لا يحتمل وتغاضوا عن إساءات وتعديات لا حصر لها لكي يتحقق ذلك الحلم اليتيم: أن يستعيد البلد عافيته عبر قيام الدولة من جديد وعلى أسس جديدة تعطيهم بعض حقهم فيها باعتبارهم جمهورها وسندها وحملة رايتها والحماة.
ومن هنا إن هؤلاء بالذات كانوا الأعظم إحساساً بالفجيعة أمس،
ففيعتهم تتجاوز ضحاياهم من ضحايا القصف والقنص والاعتقال، لتنصب على إحساسهم بانهيار الحلم العزيز،
ذلك إن المدافع التي أطلقت قذائفها في كل اتجاه على أكثر الأحياء السكنية ازدحاماً في لبنان، لم تكن تقصف فقط النساء والأطفال والشيوخ في بعض أحياء بيروت والضاحية الجنوبية، بل هي قصفت، أول ما قصفت، صورة الدولة ورموزها الباقيات بعد تسع سنوات من الحروب المستمرة والمتعددة الشعارات والأهدغاف.
ولم يكن بالإمكان، أمس، تمويه صورة الحرب الجديدة أو إخفاء الغرض الخبيث فيها،
فليس في المناطق التي قصفت بأعنف مما قصفها العدو الإسرائيلي خلال الاجتياح، أي “غريب”.
ليس فيها “فلسطينيون” يمكن اتهامهم ، ولو إن بين المعتقلين عشرات من الفلسطينيين الذين لم يفيقوا بعد من صدمة المذابح في صبرا وشاتيلا، وهي مذابح لم تدخر الدولة جهداص لتبرئة المنفذين الحقيقيين لها، مع الإيمان الثابت بأنهم “إسرائيليو” الغرض والهوى ولو كانوا يحملون هويات صفراء تتوسطها الأرزة الخالدة.
وليس فيها “سوريون” يسهل تسليط الضوء على مطامعهم ورغبتهم في اقتطاع حصتهم من لبنان، بل إن جهات رسمية أكدت صدق التوجه السوري نحو إقرار الخطة الأمنية الجديدة التي أشيع وأذيع إنها قاب قوسين أو أدنى من التنفيذ ثم كان الهجوم فحصد أعداداً مضاعفة من المواطنين السذج الذين صدقوا دولتهم فافترضوا إن أيام السوء إلى انتهاء وعادوا إلى منازلهم المهجورة ليؤكدوا – مرة أخرى – إيمانهم بالدولة واطمئنانهم إليها،
وليس فيها “إيرانيون” و”ليبيون” و”صوماليون” إلى آخر المعزوفة الكتائبية التي غالباص ما يتبناها الأعلام الرسمي ويروج لها حتى ليكاد المواطن شتبه في سلامة بصره إضافة إلى سلامة بصيرته، فإن يصدق عينيه معناه أن يكذب الدولة وهذا صعب وأن يصدق الدولة فمعناه أن يكذب عينيه وعقله وحواسه جميعاً وهذا مستحيل.
إذن هي حرب واضحة تماماً: الدولة فيها في جانب والناس في الجانب الآخر، وما بينهما خط نار، خصوصاً وإن الأعلام الرسمي – الكتائبي – الإسرائيلي – مونت كارلو ليمتد حاول أن يخفف من أثر “أمل” وبالتالي من مسؤوليتها عما جرى ليستنتج بالذكاء المعهود إن الأمر خرج من يد نبيه بري “وأمل” وصار في عهدة … العمارات والبيوت والطرقات والأزقة التي قصفت بقسوة عز نظيرها حتى كادت تطفح بدماء ضحاياها.
وهكذا قدمنا مثلاً جديداً للعالم في كيف تعامل الدولة عاصمتها وشعبها باعتبارهما أعدى أعدائها، وإن لا طريق أمامها لاكتساب احترام ريغان وميتران وسائر أقطاب العالم إلا بمقدار ما تثبت هيبتها في قصقص وجبانة الشهداء وروضة الشهيدين وشارع علي بن أبي طالب وصولاً على العمروسية وحي السلم والليلكي وسائر الهاربين إلى كنفها من جور الفقر والظلم أو من اضطهاد العدو الإسرائيلي.
لقد أعادت “حرب حي فرحات” البلد إلى تلك الأجواء البائسة التي رافقت حرب الجبل وسبقت مؤتمر الحوار الوطني في جنيف،
وفهم بعض الناس الحرب الجديدة وكأنها هجوم مضاد على نتائج حرب الجبل السياسية (بمعناها الوطني الأصيل)، وكذلك على النتائج الأولية لجنيف الأولى، وهي التي أوحت إلى الناس بشيء من الثقة بالدولة وأعادت إلى صدورهم بعض الأمل بمشروع الوطن.
والناس معذورون في ما وصلوا إليه من استنتاجات فهم يرون – مرة أخرى – الدولة تعود إلى ارتكاب الخطيئة ذاتها: فتبعدو فئوية وذات لون واحد فاقع ومعادية لبعض شعبها، وليس بالمصادفة إن هذا البعض يشكل الأكثرية الساحقة من هذا الشعب، والأكثرية الساحقة المعادية لمشاريع التقسيم والتفتيت (وفي الماضي التوطين)، والأكثرية الساحقة المستعدة لقتال مشاريع الكانتونات والتحول إلى محميات وقواعد أجنبية.
والناس يتابعون بأسى سقوط الدولة في براثن ذلك المنطق الخبيث الذي يقول: إن الدولة لا يجوز أن تعود إلى المناطق سلماً بل عليها أن تقتحمها بعسكرها وتأخذها عنوة… هذا في حين تمنع الميليشيات الكتائبية أي وجود ولو رمزي للدولة في مناطق هيمنتها ما بين حاجز البربارة والمجلس الحربي.
والناس يربطون الآن بين ما كانوا يسمعونه من أن الوساطات قد نجحت أخيراً في إقناع الكتائب بإطلاق سراح المخطوفين والمفقودين (أو من بقي منهم على قيد الحياة)، وبين هذا الانفجار غير المبرر لمعركة قلعة ديان بيان فو الواقعة بين حي فرحات وقهوة الغبيري!
… خصوصاً وإن الناس قد عرفوا وبالملموس إن أطراف جبهة الخلاص الوطني وحركة “أمل” ومن خلفهم سوريا، وافقوا على مشروع الخطة الأمنية التي دار بها الوسيط السعودي على الأطراف المعنية جميعاً، بما فيها الدولة، لاعتمادها ثم بشر بقرب إقرارها قبل 24 ساعة فقط من هذا التفجير المشبوه.
إذن، من أين نبتت المشكلة، ثم لماذا تفاقمت بهذه الضراوة التي لا يقرها عقل ولا يقبلها منطق سليم؟!
إن الخاسر الأكبر في ما حصل هو الدولة، حتى لو كان صحيثحاً ما يروجه أعلامها المتداخل مع الأعلام الكتائبي والمعادي عموماً بحيث تضيع الحدود تماماً، من أن الجيش قد أكمل انتشاره وسيطر على صبرا وشاتيلا وطريق المطار، وكأنما لم يكن مسيطراً قبل يومين أو ثلاثة، أو كأنما كان ثمة ما يمنعه من الانتشار حيث شاء ومتى شاء…
وكأنما الناس لم يستقبلوا هذا الجيش في البداية بالعطر والرز ورش الورود على آلياته وجنوده (أفليسوا أبناءهم وأخوتهم الذين سيعودون، بعد انتهاء الدوام، إلى بيوتهم التي لا يمكن أن تكون إلا في مثل هذه الأحياء الشعبية؟!)
والمطالب الأول والأخير بإصلاح الخطأ الفادح هو الدولة ولا أحد غيرها،
وإصلاح الخطأ لا يكون إلا بضرب هذا العقل البوليسي البليد الذي يعتبر إن المواطن العادي عدو للدولة إلى أن يثبت العكس،
وإصلاح الخطأ لا يكون إلا بإسقاط تلك السياسة الخرقاء التي تقوم على مبدأ التمييز بين المواطنين ليس فقط بحسب انتماءاتهم الطائفية بل أساساص بحسب قوة نيرانه فمن كان قوياً بالنيران (ولا يهم مصدرها) فلا سلطة للدولة عليه بل هي تنافقه وتسترضيه بأي ثمن، أما المستضعف والمستكين والحالم بالدولة فاضربه حتى تؤكد له إن حلمه السني قد تحقق وسط دوي المدافع والصواريخ!
لا بد من إصلاح الخطأ وفوراً،
وإلا فلا مجال لجنيف ولا لغيرها،
فمتى انتحرت الدولة بين شاتيلا والغبيري لا يعود ثمة مجال للذهاب إلى جنيف من أجل الحوار على شكل الدولة وعلاقاتها مع الآخرين،
وكيف يمكن أن يكون للدولة علاقات مع الآخرين إذا كانت ترفض شعبها وتضع نفسها في موقع النقيض له، وتحاوره في الداخل بالمدافع التي يدفع ثمنها من لقمة عيشه؟!
وأن يضطر رجال لم يعرف عنهم التطرف أو الخروج على الدولة بل هم من دعائمها مثل سماحة مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد وسليم الحص ورشيد الصلح ومالك سلام والمفتي الجعفري الممتاز عبد الأمير قبلان وحركة “أمل” التي خصها الرئيس أمين الجميل باستقبال خارج على المألوف يوم انتخاب مجلس قيادتها الحالي وبعض أعضاء المجلس الشيعي (في غياب الشيخ محمد مهدي شمس الدين) إلى قول ما قالوه ليس أمرأً بسيطاً أو عادياً بل هو أمر جلل يجب أن يستوقف الدولة لتتنبه إلى مواقع الخلل والخطأ فتتجبنها،
وإلا بطلت أن تكون دولتهم،
أو كفوا هم عن اعتبارها دولتهم،
وفي هذا النهاية للدولة أولاً، وربما لبنان، أي لبنان كان.
فهؤلاء الذين قصفوا أمس هم وأكثر من غيرهم، من يبقي لبنان لتكون له – من بعد – دولة، أي دولة.

Exit mobile version