طلال سلمان

على الطريق ما بعد الدخول…

مقدمة المقدمة:
مرت، أمس، الذكرى التاسعة والعشرون لقيام أول دولة للوحدة العربية في التاريخ الحديث.
ولقد أضفت رمزية الذكرى، ودلالاتها التي ما تزال حية في وجدان الإنسان العربي، أهمية خاصة على واقعة دخول وحدة من الجيش العربي السوري إلى بيروت، لإطفاء الحريق فيها وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أهلها ودورها ومن تاريخها النضالي المجيد… خصوصاً وإن هذا التاريخ كان قومياً بطبيعته وبنتائجه الباقية على مر الأيام والزعامات وميليشياتها الانكشارية.
كان…
ما أبعد اليوم عن البارحة،
وما أبعد “صار” عن “كان”، و”الجيش” عن “الميليشيا” و”الفوضى” عن النظام و”الدولة” عن الكانتونات المذهبية وعن “القيادات الميدانية” التي تمسك بالأرض فتأكل الأخضر واليابس ثم ترهن الارض لدى العدو، أي عدو، مع أفضلية لمن يدفع نقداً وبالدولار.
البارحة كانت بيروت، نظرياً، دولة ثنائية القيادة، مرجعها بعض أصحاب الذقون والأسماء المضحكة من كادرات حركة “أمل” والحزب التقدمي الاشتراكي،
أما عملياً فكانت بيروت كونفدرالية لعشرات من الدول، بعدد الأحياء والشوارع والزواريب التي تحولت بمجملها إلى “محاور” وقلاع وحصون أين منها “ديان بيان فو”، لكل “دولة” منها مرجعها السياسي وجنرالها العسكري كما لها سجنها والسراديب الخاصة بالمخطوفين، والمستودهات الخاصة بالمسروقات.
طبعاً كان جميع هؤلاء “الحكام” يتلطون خلف علم الحزب التقدمي الاشتراكي أو وراء صورة السيد موسى الصدر وحركة “أمل”، لكن الناس كانوا يعرفون إن هؤلاء ما كان يمكن أن يصيروا قادة “وحكاماً” لو إن الحزب كان حزباً، والحركة كانت “حركة” بالمعنى السياسي الذي توحيه كلمة “الحزب” أو “الحركة”،
اليوم ، بدأت بيروت تستعيد صورتها الأصلية: كمدينة، كعاصمة للبنان وللعرب في مختلف أقطارهم، بعدما أسقطت الأقنعة عن وجوه أولئك الذين زوروا هوياتهم ومهماتهم ومواقعهم، وحاولوا أن يزوروا هوية المدينة ومهمتها وموقعها.
فلم تكن بيروت، في أي يوم، مدينة لدين أو لطائفة أو لمذهب، أو لعشرة أو قبيلة مسلحة،
كان دائماً موقعاً نضالياً متقدماً، بالمعنى الوطني كما بالمعنى القومي، وكانت أكبر من الحاكم الشرعي للبنان، وأكبر من الحكام القطريين العرب، وأكبر من الحكام باسم الأجنبي في مختلف أقطار العالم الثالث، فكيف بالمتحكمين باسم الطوائف أو المذاهب، أو الاشتقاقات، أو الأسماء المموهة؟!
لقد سقط هؤلاء جميعاً في بيروت، لأنهم ظلوا – برغم السلاح والميليشيات والشبيحة والزعران وفارضي الخوة، وربما بسبب هؤلاء جميعاً – أصغر من هذه المدينة العظيمة.
فبيروت لا تؤخذ غلاباً، ولا تؤخذ بالقهر، سواء أكان دينياً أو طائفياً أو مذهبياً، ولو مموهاً باسم الحزب أو التنظيم السياسي،
ومن قبل سقط بشير الجميل في بيروت،
قبله سقط الحصار الإسرائيلي عند أسوار بيروت، القلعة القومية حتى وهي مجردة من السلاح.
وقبل الحصار كانت قد سقطت كل تلك القيادات العربية التي تنكرت لطبيعة بيروت القومية، أو حاولت الاحتيال عليها وتوظيفها لخدمة أهداف كيانية وتكتيكية هي بالضرورة مجافية للقومية وخارجة على منطقها.
ويجب أن يكون…
ماذا نستخلص من هذه التجارب جميعها؟!
*أول ما نستخلصه : إن بيروت قوية بروحها، بتاريخها، بحركة الجدل فيها، بكونها المنبر والمطبعة والكتاب وصحيفة الصباح، بكونها الحزب والنقابة والنادي، أما السلاح فعبء عليها ثقيل،
وأما المسلحون الفالتون فهم قتلتها، إذ لا تربطهم قضية ولا يحكم مسلكهم منهج، ولا يوجه سلاحهم شعار أو راية أو برنامج سياسي محدد تقوم على رعايته قيادة جماعية واعية بتاريخ المدينة وتراثها النضالي ومؤهلة لقيادتها في اللحظات الحرجة.
*ثاني ما نستخلصه: إن استمرار الحرب الأهلية يخدم أعداءنا ويضر بأهدافنا الوطنية وبتوجهاتنا القومية… ومن الضرورة بمكان أن نعمل لوقفها فوراً وبلا إبطاء. لقد كان السلاح ضرورة لصد هجمة العدو الإسرائيلي ومشروع الهيمنة الفئوية، لكن ذلك بات الآن من الماضي، أما المستقبل فلا يبنيه إلا المشروع الوطني القائم على الحوار السياسي، والصراع السياسي، وبالوسائل الديموقراطية التي يتيحها قانون هذا الصراع في كل مكان أو زمان.
*ثالث ما نستخلصه : إن وجود هذه القوة من الجيش العربي السوري يوفر لنا جو الأمن والهدوء والطمأنينة الذي طالما حلمنا به وتشهيناه، ويتيح لقوانا وتنظيماتنا ومنتدياتنا الفكرية أن تنشط لاستعادة زمام المبادرة، على النطاق الوطني، فتطرح تصورها للحل.
إن “الشرقية” في أزمة جدية لا تقل في خطورتها عن الأزمة التي تفجرت اقتتالاً واستباحة للقيم والمدينة والناس خلال الأسبوع الماضي.
وعلينا، بوصفنا أصحاب القضية، بوصفنا بيروت المركز والعاصمة، أن نقدم عبر تجربة “الغربية” الحل الوطني للمسألة اللبنانية برمتها، ابتداء من بيروت الواحدة الموحدة ولو كره الكارهون.
إن نجاح الجيش العربي السوري في بيروت والضاحية وعلى امتداد الطريقين – الشريانين اللذين يربطان العاصمة بدمشق عبر الجبل وبالجنوب عبر صيدا، مهمة نضالية قومية،
وهذا النجاح يتحدد في ضوء تقديم النموذج والقدوة، ليس فقط على المستوى الأمني، بل أساساً على المستوى السياسي، وبتوفير المخرج الصحي من المأزق الخانق الذي يعيشه اللبنانيون نتيجة لضياعهم في سراديب الأحقاد والغرائز الطائفية والمذهبية، التي شكلت الغطاء للأغراض الأجنبية والمصالح المعادية، وبررت انحراف المنحرفين وخيانات الخونة المتعددي الأسماء والانتماءات والأشكال، والذين سيسعى بعضهم بالحيلة أو بالنفاق أو ببيع المعلومات (الصحيحة والمزورة) للتقرب من قيادة القوة السورية التي جاءت لتحمي بيروت والمشروع الوطني في لبنان.
وواجبنا أن نحمي أنفسنا، وأن نحمي القوات السورية ودورها من هؤلاء الدجالين والمزورين الذين سبق أن تبرعوا بخدماتهم للفلسطيني حين كان في موقع الحاكم، ثم للمحتل الإسرائيلي حين جاء غازياً، وبشير الجميل حين بدا عنواناً للمشروع الإسرائيلي في لبنان.
وواجبنا أن نحمي أنفسنا وبيروت، والحلم الوطني، من هؤلاء الذين سفحوا كراماتنا ودمنا وأحلامنا ومعنا بيروت، باسم العمل الوطني.
إن قتلة أحلامنا هنا لا يقلون إجراماً عن قتلة أهدافنا الوطنية هناك، وهم بالضرورة شركاء، وكلهم يتآمر على الحل لأنه مستفيد من استمرار الحرب.
ووقف الحرب هو المدخل الصحيح لإنقاذ ما تبقى من الأحزاب وأنماط العمل الشعبي والقيادات الوطنية والشعارات القومية،
ووقف الحرب هو أيضاً آلة كشف كذب الحكم والحاكمين والقوى المرتبطة بالعدو الإسرائيلي وبالمشروع الأميركي الذي صنفنا قتلة يجب أن يتم الحجر علينا وعزلنا حتى لا يصاب العالم كله بالطاعون.
خاتمة:
اليوم، اخضوضر البحر، وبدا مع بشائر الربيع وكأنه مرجع أخضر تتفتح فيه الأحلام أزاهير ووروداً وقرنفلاً أحمر،
لقد استعدنا إحساسنا بإنسانيتنا ، خصوصاً وقد تفاقمت جرائم الخطف والسرقة والسلب في الساعات الأخيرة وكأن القتلة يعرفون إن لا مكان لهم بعد الآن في المدينة – الأميرة،
فلنستعد أيضاً جدارتنا بأن نكون مواطنين في هذه المدينة العظيمة والصابرة، ولنعوضها بعض ما أصابها في أن نعيد إليها العافية بصياغة المشروع الوطني المرتجى،
وليس بوسع فرد أو تنظيم أو حزب أو حركة أن يدعي بعد الآن أنه وحده القادر على أداء هذه المهمة النبيلة، لا في الغربية ولا في الشرقية،
فلقد عادت بيروت واحدة، برغم أنف شاطريها إلى شطرين،
وبدأ لبنان يستعيد ملامحه كبلد واحد برغم أنف المقسمين،
وعلى الوحدويين الآن أن ينجزوا مهمتهم التاريخية، بلا إبطاء، وبلا تردد، وبلا خوف، وايضاً بلا ارتجال، وبلا مداراة للوحش الطائفي الذي كان يلتهم كل شيء فينا كما في العاصمة والبلاد.
إنها ساعة للعمل، فأين صائغو الأحلام برامج للمناضلين بعدما “غاب” الانكشاريون مدحورين مرذولين منبوذين ومطاردين بلعنة المظلومين مرتين؟!
إن الراية مشرعة تنتظر من يرفعها،
فمن يتقدم لرفع راية الحلم؟! من ينقذ الجميع بمن فيهم الخطاة؟!

Exit mobile version