طلال سلمان

على الطريق ما بعد الاعتراف…

قدم سمير جعجع، أمس، مطالعة سياسية ممتازة بشمولها ودقتها تؤدي بمثل ميشال عون إلى المقصلة، في أي دولة يحترم فيها القانون، إذ أن أبسط التهم خطورة هي :الخيانة العظمى.
وفي ضوء هذه المطالعة الهجومية الكاسحة يمكن أن يقرأ البيان السياسي لوقف إطلاق النار الذي حاول أن يوفق بين “القائدين” المصطرعين وبين “جيشيهما” المقتتلين.
وبالتالي فأبسط ما يمكن استنتاجه هو أن عون لم يربح عسكرياً – بالمعنى الفعلي -، وإنه قد مني بهزيمة سياسية ساحقة في “الدويلة” التي ينصب نفسه رئيساً “شرعياً” وقائداً فذاً وزعيماً أوحد بغير شريك (أو نظير!!).
وإذا كان صحيحاً ما تردد من أن ميشال عون لم يقبل بوقف إطلاق النار إلا تحت ضغط التهديد الذي تبلغه عن طريق الفرنسيين (؟!) بأن جيش الشرعية سيتحرك لاسترداد “الشرقية” ولإنقاذها من حمام الدم الذي تعرضت له طوال أسبوع كامل نتيجة اقتتال “جماعة عون” و”زمر المسلحين بقيادة جعجع”.
إذا كان ذلك صحيحاً والأرجح أنه صحيح، يكون الفرنسيون قد أنقذوا طرفي الاقتتال و”جيشي” الطائفة، وليس “القوات” وحدها، كما تقول أوساطهم الآن، ويكون ذلك قد تم على حساب الشرعية ودولتها وحكمها القائم على أساس اتفاق الطائف، من حيث المبدأ.
ولعل الموقف الفرنسي الملتبس يجد التعبير الفج عنه في ما أعلنه السفير البابوي، أمس، عبر النداء الذي وجهه مناشداً فيه الرئيس الهراوي عدم التدخل بـ “جيش ثالث”؟!! بينما هناك “جيشان يتقاتلان” فتكون مذبحة جديدة!!
كلاهما يقدم الطائفة على الدولة والشرعية واتفاق الطائف ومشروع الحل السياسي.
وكلاهما يحاول إنقاذ المتمرد “المهزوم” ليمنع انتصاراً محتملاً للدولة، إذا ما تدخلت، ويستبقي من “القوات” و”جماعة عون” ما ينفع في المساومة مع الشرعية وربما ابتزازها.
والفرنسيون يعرفون في ميشال عون كل “الصفات الطيبة” التي نعته بها، أمس سمير جعجع، ولعلهم يعرفون أكثر.. وهم مع ذلك يساندونه حتى لا يسقط!!
والفاتيكان يعرف بالتأكيد أكثر مما يعرف الفرنسيون، ومع ذلك فهو ضد خلع السفاح الذي أهرق دماء المسيحيين، كما اتهمته إذاعة الفاتيكان ذاتها،
الكل مع الإدانة ولكن مع “بقاء” الجنرال.. بمن في ذلك سمير جعجع!
والكل يعرف حقيقة ميشال عون منذ اللحظة الأولى، قبل “حرب التحرير” وبعدها، ولكنه ظل يتعامل معه بمنتهى الوقار ومراعاة الأصول بوصفه “رئيس الحكومة الشرعية” وقائد مسيرة التحرير!
ولو أن سمير جعجع، الذي لا تحد حركته قيود الدبلوماسية، قال قبل سنة ما قاله أمس عن ميشال عون وفيه لكان اللبنانيون قد حفظوا له جميلاً لا ينسى. ولكانوا تعاملوا معه كصاحب مشروع سياسي جدي، وقابل للنقاش، بغض النظر عن مدى موافقتهم أو اعتراضهم عليه.
لكن سمير جعجع تأخر كثيراً، وكثيراً جداً، ولعله هو نفسه قد دفع بعض ثمن التأخير، وإن كان لبنان بأسره قد دفع ما لا يعوض، وبهذا فقدت اعترافات جعجع الخطيرة بعض فعاليتها وبعض قدرتها على التأثير.
وبين أهم ما قاله جعجع هو التوكيد على التماثل بين ميشال عون وبين أمين الجميل، في المسؤولية عن الفساد والإفساد المستشري في الدولة و”المجتمع”،
وإذا ما صدق الناس، بالمقابل، ما يقوله عون في جعجع لتحققوا من أن مؤسسة التعصب الأعرق في لبنان (الكتائب واستطراداً “القوات”) لم تنجب من القيادات إلا السفاحين والنهابين والمفسدين في الأرض والمعطلين لأي مشروع حل وطني يسهل إخراج لبنان من محنته، لأن الجميع قد عاشوا بالحرب وعليها.
على أن أخطر ما قاله جعجع مما يعني اللبنانيين خارج الشرقية هو حديثه الصريح عن “اتفاق القتل” الذي تم بينه وبين عون، والذي توزعا بموجبه المناطق والمدن والقرى، برحالها ونسائها والأطفال، كأهداف لمدافعهما.
ومن كان المدفع هو وسيلة “الحوار” بينه وبين شريكه في الوطن. فليس ما يمنع أن يكون المدفع ذاته هو وسيلة للحوار مع شقيقه بالذات، في البيئة الواحدة، النقية تماماً والمارونية جداً إلى حد التفجر والتشظي والانتحار الجماعي.
في أي حال فإن مرحلة جديدة، وفاصلة على الأرجح، قد بدأت “بحرب الأخوة” كما يسميها رولان دوما، وهي تحتاج إلى بعض الوقت لتعطي نتائجها الكاملة التي قد تكون اعترافات سمير جعجع من مكوناتها، لاسيما إذا ظلت الدولة تفكر بمخاطر هزيمة مخاصميها أكثر مما تفكر بضرورة انتصارها هي، حيثما تستطيع أن تنتصر!

Exit mobile version