طلال سلمان

على الطريق مؤتمر لسلام مستحيل بديلاً لحرب مستحيلة

المؤتمر هو غير السلام، بل هو قد ينفيه كاحتمال،
وما يراه الكثير من العرب وبعض العالم طريقاً إلى تسوية قد تكون مقبولة، تراه إسرائيل بلسان “بطلها” أرييل شارون “سبباً لحرب جديدة”!
وعبر المناورات والمناورات المضادة يتبلور أكثر فأكثر مطلب “الآخرين” وبالذات الأميركيين واستطراداً السوفيات وسائر الغرب: إنهم إنما يريدون المؤتمر لذاته وليس لأهدافه المعلنة والتي تختزلها تسميته.
المؤكد، حتى هذه اللحظة، إن معظم هذه القوى تريد “مؤتمراً” ما،
والمؤكد إنهم يتحدثون عن المؤتمر، وتتحدث إسرائيل عن مؤتمر ثان في حين يطمح العرب إلى مؤتمر ثالث.
لكأن المطلوب هو “الصورة”: صورة التعساء العرب يجلسون إلى جانب عدوهم القوي الإسرائيلي، تحت الرعاية الأميركية المتعطفة على الاتحاد السوفياتي (العظيم سابقاً) بشراكة رمزية عملاً بالقول المأثور: ارحموا عزيز قوم ذل.
فالسلام يكون بين أقوياء، بين متعادلين في القوة، ولكنه أبداً لم يتحقق بين من قوته غير محدودة وبين من يتفاقم ضعفه بلا نقطاع.
والسلام لا يأتي صدقة أو منحة. ولم يحدث في التاريخ أن تبرع عدو لعدوه القومي – الحضاري – الإنساني، عدو الوجود، بالسلام، حتى لو كان أسقط نفسه أو أسقطته ظروف قاهرة من خانة العداء.
لقد سقط السلاح أو أسقط، فمن أين يأتي السلام؟!
وفي غياب القوة العربية القادرة على التحرير، أو الكافية للتصدي والصمود، لا ترى إسرائيل في أي مؤتمر قد يضمها مع العرب إلا مناسبة لقبول استسلامهم، ولا تعرض عليهم فيه إلا ما تعرضه خارجه: السلام مقابل السلام… أي إنها تمن عليهم بالعفو، في انتظار أن يحتاج بناء المزيد من المستوطنات لطوابير المستقدمين الجدد من يهود العالم (الشيوعي سابقاً) إلى مزيد من الأراضي، فتأخذ المزيد من أراضيهم في ظل السلام الذي لا بد أن يدوم.
ذلك إن السلام سيكون بالضرورة إسرائيلياً.
المؤتمر هو غير السلام،
والمؤتمر كاجتماع من طبيعة دولية لا يحتاج إلى كل هذه الجهود الدولية، بعد كل تلك الحروب العربية – الإسرائيلية، من أجل أن ينعقد.
لكن المؤتمر، بذاته، مطلوب كورقة انتخابية أميركية،
ومطلوب من السوفيات (وأوروبا) لإبراء ذمتهم وغسل أيديهم من دماء الصديق الفلسطيني، وترصيد حسابهم مع الإسرائيلي الذي سيظل يبتزهم إلى قيام الساعة عن جرائم النازية وعدائها للسامية!
والمؤتمر مطلوب من هؤلاء جميعاً كجائزة ترضية، وكتعزية رقيقة لأصدقائهم العرب المخلصين على ما منوا به من أفضال على الاقتصاد الأميركي والسلاح الغربي والمعنويات السوفياتية التي انتعشت نسبياً حين سمح لموسكو بدور الوسيط… المقبول!
لا يمكن أن يقف عربي عاقل ضد مؤتمر دولي للسلام،
فشعار تحرير الأرض المحتلة غار في الوجدان ليستقر في مهجع الأحلام منذ زمن بعيد، وتنامى على أنقاضه الخوف المحض من احتمال خسارة المزيد من الأرض في ظل الاختلال الفاضح القائم والمستمر في ميزان القوى بين العرب وعدوهم الإسرائيلي.
لكن المؤتمر الذي يتحدث عنه ويطلبه ويتمناه العرب أمر غير قابل للتحقق، ومستحيل إثماره إذا ما انعقد.
إنهم يريدون مؤتمراً بعيد لهم ما عجزوا عن استعادته بقوتهم،
وهم يريدون مؤتمراً بديلاً عن حرب لا يقدرون عليها.
والمؤتمر أضعف من أن يجبر إسرائيل على التنازل عما كسبته حرباً، وأقوى على العرب من أن يعطيهم ضيعته سياسة أنظمتهم المتهالكة.
التوقيت يفضح أحياناً ما تخفيه قصداً فلا تكشفه البيانات أو التصريحات المموهة، ويمكنك أن تفسر بالتوقيت ما يتقصد الآخرون أن يصلك غامضاً أو قابلاً للتأويل فلا تستطيع له رفضاً.
وذكرى المغامرة العراقية البائسة في الكويت، بكل نتائجها الكارثية، على مستوى الوطن العربي كله، لا يمكن أن تكون اللحظة المناسبة لانبلاج “نصر” عربي، ولو بالمعنى الدبلوماسي، كانعقاد مؤتمر دولي للسلام بشروط مقبولة عربياًز
لقد ضاع خلال السنة المنصرمة الكثير الكثير مما كان يملكه العرب، كعوامل قوة فعلية أو كاحتمالات، ولم يتبق لديهم إلا القليل القليل مما قد يفيد في استنقاذ بعض الكرامة المهدورة وبعض البعض من الحق ا لمضيع.
إنها السنة العربية الأشد سواداً وقتامة في التاريخ المعاصر: ذهب فيها معظم السلاح الذي كان بأيدي العرب، ومعظم المال، وما هو أغلى بكثير كمثل الأمل والثقة بالنفس والإرادة والقدرة على المواجهة وليس فقط على الصمودز
ذهب معظم ما كان تبقى من فلسطين، كقضية، عبر تلاشي الانتفاضة في دهاليز السياسات الخاطئة والمواقف المرتجلة والرخيصة بل المجانية لقيادة منظمة التحرير، والتي توجت بتورطها مع صدام حسين في المغامرة التي استخدم فيها الحرب كمدخل إلى المفاوضة ثم أدارها برعونة ضيّعت احتمال المفاوضة وكبدت العراق والأمة هزيمة مريعة من غير حرب.
لقد تكسر العراق وتم تمزيق أوصاله وأعيد تقسيمه بالجغرافيا كما بالطوائف وبالقوميات إلى عناصره الأولى… وبقي صدام حسين أداة ابتزاز يومية لإدارة بوش (ومعها إسرائيل) وعامل إضعاف غير محدود للموقف العربي عموماً ولفلسطين على وجه الخصوص،
وتبخرت ثروة النفط في تسديد أجور الأسياد “المرتزقة الذين حررونا بفلوسنا”.
استهلك ما كان مالاً سائلاً وأجبرت الأنظمة النفطية على تسييل بعض ما كانت تملكه من أسهم واستثمارات في بلاد “الحليف المحرر” أو في الغرب عموماً، ثم دفعت إلى الاقتراض برهن بعض الذهب الأسود الذي ما زال في باطن الأرض،
وما كان خارج دائرة النار، أي خارج الكويت والسعودية، استهلك بطريقة مهينة في عملية بنك الاعتماد والتجارة الدولي الذي ذهب بثروة “البدوي الطيب” الشيخ زايد بن سلطان، أما بالاحتيال عليه أو باستغلال بساطته وعفويته وأما كعقاب له لأنه “لم يسمح للبريطانيين بالنزول على أرضه مفضلاً عليهم الفرنسيين… والله أعلم بالنوايا الإنكليزية التي أعدت هذا الكمين لأموال دولة الإمارات العربية المتحدة وسمعتها وكرامتها منذ فترة بعيدة!
ومع استذكار حال مصر وهو بالتعبير الدارج فيها “يصعب على الكافر”،
ومع الالتفات إلى ما يدبر للجماهيرية العربية الليبية وقائدها معمر القذافي وما يُمارس عليه من ضغوط لتطويعه،
ومع التنبه إلى حقيقة إن الاضطرابات الداخلية قد شغلت الجزائر بنفسها عن الاهتمام بما يجري خارجها حارمة العرب من ثقلها ومن دورها الذي لا يُعوض،
ومع الاشارة إلى المحن التي يختنق فيها السودان والحرب الأهلية التي تمزق الصومال دولاً شتى، وتنهك موريتانيا الضعيفة أصلاً،
… من غير أن ننسى الوضع في لبنان، وهو عبء عربي إضافي، والوضع المقلق والقابل للتفجر في الأردن والمنذر بحرب أهلية عربية أخرى،
ومع كل ذلك يصبح صعباً الافتراض إن إسرائيل قد “خضعت” فسلمت بتقديم تنازل جوهري للعرب عبر موافقتها على المؤتمر الدولي للسلامز
هذا من غير أن نغفل التسجيل للأمانة وللتاريخ، الكفاءة العالية التي خاضت بها القيادة السورية المعركة الدبلوماسية الصعبة حول هذا المؤتمر.
لقد استمدت هذه القيادة من الضعف قوة، مستندة إلى أهمية العرب حاضراً ومستقبلاً – برغم سوء حالهم القائم – وأهمية تسوية صراعهم مع عدوهم الصهيوني بالنسبة إلى الإدارة الأميركية والسياسة الغربية عموماً.
بسرعة، استوعب حافظ الأسد، درس الانتكاسة التي مُني بها العرب عموماً بسبب الخطأ التاريخي الذي ارتكبه صدام حسين في الكويت، وحاول فنجح فيإثبات إن المغامرة التي تورط فيها بعض العرب قد تصدى لها وقاومها معظم العرب، حتى من قبل أن تجيء القوات الأميركية والأطلسية، وإن العرب ليسوا جميعاً في خانة المهزومين،
كما حاول الحد من مشاركة إسرائيل في النصر الأميركي – الغربي حين نجح في إعادة تظهير صورتها كمحتل طالما تحدى الشرعية الدولية وضرب بقراراتها عرض الحائط ومضى في سياسته التوسعية مستنداً بالتحديد إلى هذه القوى الأميركية – الغربية التي اجتاحت الجزيرة والخليج باسم تحرير الكويت.
لكن هذه الحكمة السورية التي نجحت في الحد من الأضرار، وحققت كسباً سياسياً، وخففت من أثقال الهزيمة على أكتاف العرب، لا تكفي وحدها لتبديل السياسة الأميركية، ونقلها من خانة الخصم إلى خانة الحليف، وقد تحد من دعم الغرب لإسرائيل لكنها لا تصيره نصيراً للحق العربي في فلسطين.
فالحكمة تكون فصيحة وفعالة بقدر ما تساندها القوة، وهي من غير القوة تصبح أداة إحراج أو تعطيل لبعض المخططات أو وسيلة لتجنب بعض الضربات، ولكنها لا تستطيع وحدها تصحيح ميزان القوى أو خلق توازن جديد.
لنستذكر بعض ما يوضح الصورة،
في أعقاب حرب 1973، وهي الوحيدة التي لم يهزم فيها العرب تماماً وإن كان تواطؤ السادات مع كيسنجر قد حولها إلى نصف انتصار، تم التوافق على مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط، كهذا الذي يجري عليه الكلام الآن،
ولقد اعتبرانعقاد ذلك المؤتمر، مجرد انعقاده، كسباً عربياً، ما كان ممكناً الحصول عليه لولا إنهاء الدماء التي سالت على قناة السويس، عبر عملية العبور المجيدة، وتدمير خط بارليف، أو على صخور الجولان وصولاً إلى بحيرة طبريا وصعوداً إلى مرصد جبل الشيخ الشهير،
… ولولا السلاح الخطير “التضامن العربي” الذي تجلت فعاليته في تلك المعركة القومية إذ زج إضافة إلى قوات مصر وسوريا أسلحة فعالة وجنوداً من معظم الأقطار العربية: ليبيا، الجزائر، وحتى المغرب، العراق، الكويت والسعودية الخ،
… ولولا النفط العربي الذي استخدم لأول مرة كسلاح فعال،
برغم ذلك كله، سرعان ما تبينت القيادة السورية استحالة الاستمرار في مؤتمر يراد منه أن يكون مجرد مدخل إلى صلح منفرد مصري – إسرائيلي، هو في منزلة الاستسلام، فكان إن انسحبت منه حتى لا يلحق بها وبالقضية الفلسطينية المزيد من الأذى.
وهكذا فإن ذلك المؤتمر الذي انعقد والاتحاد السوفياتي دولة عظمى لها معسكرها القوي المناصر للعرب، لم يستمر إلا لجلسة واحدة ثم أقفل أبوابه مفسحاً في المجال أمام كيسنجر كي يستكمل مع “صديقه” السادات الرحلة إلى… كمب ديفيد.
وصحيح إن مياهاً كثيرة قد جرت بامتداد الثماني عشرة سنة الماضية، ولكن التبدل قد زاد في فارق القوى لمصلحة إسرائيلي وليس لمصلحة العرب.
برغم ذلك كله فما زال المؤتمر الدولي للسلام مطلباً عربياً ويلبي حاجة عربية كونه يستر بعض العورات العربية، ويعوض بالسلام (المستحيل) حرباً مستحيلة.
والسؤال الساذج البسيط: لماذا ستعطي إسرائيل أعداءها مثل هذا المكسب؟
الوجه الآخر للموقف الأميركي (الإسرائيلي) من المؤتمر هو الموقف من صدام حسين،
فأمس، وجه الرئيس الأميركي جورج بوش “تهديداً” جديداً إلى حاكم بغداد، وكأنه يشكره على ما أداه للسياسة الأميركية (ولإسرائيل) من خدمات لا تقدر بثمن.
كذلك فهو كان كمن يعلن إنه سيستمر في ابتزاز عرب الجزيرة والخليج بهذه “الفزاعة”، وسيوظفها لإضعاف الموقف العربي عموماً تاركاً لإسرائيل فرصة استثمار هذا الضعف المتفاقم باستمرار.
وصورة المؤتمر هي استثمار أميركي – إسرائيلي مشترك،
أما المؤتمر بمضمونه وبنتائجه المرجوة فهو “حلم ليلة صيف”، ومطلب عزيز دونه خرق القتاد… أجل، تلك هي المسالة، قبل المؤتمر وبعده.

Exit mobile version