طلال سلمان

على الطريق ليست أزمة طائفية بل سياسية وعربية وليس الحكم جالية مسيحية وشهود زور مسلمين!

جريمة أن ينظر العرب عموماً واللبنانيون خصوصاً إلى “حرب تنظيم التقسيم” الدائرة في الشرقية على أنها مسألة داخلية لا تعني غير الطائفة المارونية واستطراداً المسيحيين في لبنان ومن ثم فرنسا والمرجع الكاثوليكي الأول: الفاتيكان.
وجريمة أخطر وأدهى أن ينظر العرب واللبنانيون إلى هذه الحرب على أنها مجرد صراع على السلطة المغتصبة في “غيتو” بين مهووسين بالسلطة لكل منهما جيشه الطائفي وشعاره الطائفي.
وغباء مطلق أن يتم التعامل مع هذه الحرب الانفصالية على أنها مجرد “إشكال أمني” بين عصابتين يجمعهما الخروج على القانون والشرعية والدولة ويفرقهما كل ما عدا ذلك..
ومن الصعب أن يصدق عاقل أن العرب، بملوكهم ورؤسائهم والسلاطين والأمراء وسائر القيادات الفذة، لا يدركون خطورة هذا الزلزال الذي يصدّع الخريطة السياسية للمنطقة التي يحكمون فيها ويتحكمون!
لكأننا في العام 1946 و1947 فلسطينياً،
فباسم الدين (الطائفة) وتحت لوائه، وبتواطؤ قوى أجنبية مكشوف ومفضوح، يتم استيلاد واقع سياسي جديد من شأنه تدمير لبنان، شعباً ودولة، وتمزيق أوصال الأمة بفتنة لا تبقى ولا تذر.
وإذا ما سلمنا جدلاً بأن الطائفة – أي طائفة – يمكن أن تعتبر كياناً سياسياً، أو صاحبة حق مشروع بإقامة كيانها السياسي الخاص، نكون كمن يوقع قراراً بإعدام الأمة والشعب والوطن وإلغاء الجغرافيا والتاريخ والمصالح والمطامح والهوية والانتماء وسائر حقائق الحياة… كل ذلك بحجة “التسامح” أو بذريعة تفهم خصوصية كل “مجموعة” حضارية، يستوي في ذلك أن تكون طائفة أو قبيلة أو وسكرة من بيتين وتنور.
وإذا ما سلمنا جدلاً بأن ثمة أزمة تعيشها الطائفة المارونية فأبسط شروط الحل الصحيح لهذه الأزمة أن نعيد الطائفة (والطوائف الأخرى) على الوطن لا أن نلغي الوطن لحساب المتاجرين بحاضر الناس ومستقبلهم باسم الطائفة.
بل إننا إذا ما سلمنا جدلاً بأن أبناء الأمة من المسيحيين يعيشون أزمة غير تلك التي يعيشها أشقاؤهم من المسلمين، وهذا بالقطع غير صحيح، فمن واجب الأمة – بقياداتها ومؤسساتها السياسية ونخبها الفكرية – أن تجد الحل الصحيح والصحي لهذه الأزمة بما يحمي سلامة الأمة جميعاً، بمسيحييها والمسلمين.
ومشبوه أو غبي أو أعمى بالتعصب ذلك الذي يفترض أن شراً يصيب بعض الأمة يمكن أن ينفع بعضها الآخر.
وبساطة وصدق واختصار فإن ما يجري في المنطقة الشرقية يفضح عجز النظام العربي القائم عن حماية الأمة، بأقطارها جميعاً، ومنها لبنان الجريح.
… تماماَ كما هو يكشف عجز النظام اللبناني عن حماية دولته أو كيانه السياسي، بكل طوائفه، ومنها الطائفة المارونية المقتتلة الآن قياداتها الميليشياوية في صراع وحشي على السلطة.
أي أن الأزمة في “الشرقية” كما في لبنان كله “أزمة سياسية” من الدرجة الأولى، تخص اللبنانيين وتعهد بحمايته بوصفه الحل السياسي العتيد للحرب الأهلية المفتوحة لأغراض ومصالح سياسية وليس لأسباب طائفية كما تدل الشعارات والأدوات ووسائل التمويه والتعمية الرائج استخدامها.
بل إن “العرب” أطراف مباشرون في هذه الأزمة، ولأسباب سياسية أبسطها اتصالها بالصراع – الأبدي – بين أنظمتهم المختلفة على كل ما يفيد وحدة الأمة ويحقق سيادتها وكرامتها ويحصنها في وجه الأجنبي الطامع والعدو الغاصب.
وما بين السلاح الذي تكرم به النظام العراقي، وما بين الارتباك بل التخلي وربما التنصل الذي تتعامل به اللجنة العربية العليا مع التطورات الدراماتيكية في لبنان ما بعد اتفاق الطائف، وصولاً إلى “وساطة” ياسر عرفات بين وحشي الصراع على السلطة في “دويلة التقسيم” في الشرقية، يبدو جلياً كم هي “عربية” هي الأزمة التي تزلزل الكيان اللبناني وكم هي “سياسية” وليست “طائفية” أو “أمنية”، وإن دارت جولاتها تحت شعار الصليب وبالأسلحة الثقيلة!
كذلك فما بين شعار “حرب التحرير” الذي رفعه جنرال التعتيم ضد سوريا، وبين شعار “الفدرالية” الذي رفعه حكيم التقسيم ضد غير المسيحيين، بل غير الموارنة من اللبنانيين، تبدو الأزمة على حقيقتها السياسية العارية: إنها حرب على الهوية الوطنية الواحدة والانتماء القومي للبنان.
وطريف أن يتبرع عرفات بالوساطة بين “عسكرين” و”مؤسستين” كان بين مبررات قيامهما وتسليحهما وتشوهمها وانحرافهما السياسي العداء المطلق للوجود الفلسطيني في لبنان، باعتباره بين مكونات الهوية الوطنية وموجبات الانتماء القومي.
ومع الترحيب الكلي بأي جهد يبذل لوقف الحرب ضد أهلنا في الشرقية التي يقودها المهووسان بالسلطة في دويلة التقسيم العتيدة، فإن الشرط الأول لنجاح هذا الجهد أن يشخص بدقة طبيعة الأزمة ليتمكن من علاجها بوصفها أزمة سياسية وطنية وقومية وليست أزمة طائفة بالذات لا تعني غير الطائفيين فيها أو خارجها..
إنها أزمة سياسية وطنية وهي تعني أولاً الدولة اللبنانية وشرعيتها، ولو عاجزة ومرتبكة ومشلولة القرار،
فليس الياس الهراوي والياس الخازن وادمون رزق واميل لحود (ومعهم بطرس حرب وحتى ألبير منصور) جالية مارونية أو مسيحية وافدة إلى “الغربية” وجودها طارئ وعابر كأي ضيف ثقيل اضطرته ظروف إلى “اللجوء” إلى “دولة مجاورة” وقبلته هذه “الدولة” مكرهة أو مرغمة أو بدافع الإكرام لعزيز قوم ذل!
إن هؤلاء هم رئيس الجمهورية اللبنانية ووزراء ومسؤولون وقادة لبعض مؤسساتها الشرعية، وهم في “عاصمة” دولتهم وليسوا لاجئين إلى بعض أحيائها وفنادقها، في انتظار “العودة” إلى موطنهم الأصلي!
وهؤلاء ليسوا أكثر مسؤولية من الدكتور سليم الحص والدكتور علي الخليل ونبيه بري والدكتور نزيه البزري ووليد جنبلاط ومحسن دلول وعمر كرامي.
إنهم في الشرعية واحد، وفي المسؤولية واحد، وفي الحساب عن بقاء الدولة وسلامتها واحد،
ليس بعضهم جالية مسيحية،
وليس بعضهم الآخر عصبة من شهود الزور المسلمين،
وليسوا بمجموعهم شلة من العجزة وفاعلي الخير والزهاد ووعاظ الآحاد،
إنهم “المسؤولون”، إنهم “الحكم” و”الحكومة”، الشرعية وسلطتها ومؤسساتها، بالرئيس ومجلس الوزراء ومجلس النواب والجيش الخ.
وهم مسؤولون عن بعبدا واليرزة وعين الرمانة والأشرفية وضبيه وصولاً إلى أدما، بقدر مسؤوليتهم عن الصنايع والحمراء والأوزاعي وصيدا وزحلة وصور وطرابلس وصولاً على إقليم التفاح.
فثكنة أدما ليست ملكاً شخصياً لميشال عون، ولا هي أسلاب حرب كسبها “الغازي” سمير جعجع.
وثمة مسؤول ما عن تدميرها وإهدار عشرات الملايين من الدولارات (ثمن الطائرات وحدها حوالي المائة مليون دولار) العائدة للدولة والتي دفعها المواطن من عرقه، وسيقتطع مثلها وأكثر غداً من قوت عياله ليشتري بدلاً من طائرات الهليكوبتر المنسوفة والمنشآت المدمرة.
كذلك فمرفا بيروت ليس إرثاً عائلياً وصل إلى سمير جعجع وجاء ميشال عون ينازعه ملكيته له، بل هو مرفق عام يملكه اللبنانيون جميعاً ويفترض أن تكون سلطة الدولة عليه مطلقة لا ينازعها فيه منازع.
ولا يجوز أن تكتفي “الدولة” ببيانات الرثاء والشجب والاستنكار واستمطار شابيب الرحمة على شهداء الأحداث؟!
بل لعل سكونها إلى عجزها سيتسبب في تصديعها وفي فرط صفوف “القابلين” بها والتاركين لها مصائرهم بوصفها المرجع الشرعي.
الحكم قرار، والحكم مسؤولية، والحكم موقف.
وفي أزمة سياسية خطيرة كالتي تزلزل لبنان عبر الحرب على الشرقية ما زال اللبنانيون ينتظرون من الحكم أن يثبت حضوره وأهليته بالقرار وممارسة المسؤولية واستخدام سلاح الموقف، طالما عز السلاح الآخر،
والحكم يتيم في غياب أهل الطائف،
أليس ذلك تمكيناً للتقسيم ودويلته التي تحظى، حتى إشعار آخر، بحماية فرنسية ما وتشملها بركة رسولية مصدرها الفاتيكان؟!
وهل ثمة مسؤولية سياسية أخطب من هذه التي يحملها شهود الزور أو المتواطئون من المسؤولين والقيادات في لبنان وخارجه؟!
ثم يقولون إنها مسألة داخلية لا تخص غير الموارنة؟!
ألهذا الحد يفترضون فينا الغباء؟!
أيريدوننا فلسطينيين جدداً نموت ألف مرة في اليوم ثم نتهم بأننا باعة وطننا؟!
… وحاذا ينفع ذلك كله وهو لا يحمي الفلسطيني الثالث والفلسطيني الرابع وصولاً إلى المغرب الأقصى واليمن المشطور دولتين؟!

Exit mobile version