ليس طبيعياً ما جرى ويجري في بيروت ولها، ولمن فيها، هذه الأيام،
فجأة، وبلا مقدمات ظاهرة، تجددت حوادث الخطف، وتفاقمت جرائم الاغتيال السياسي داخل رفاق “الصف الواحد”، وحتى “الحزب الواحد”، ثم بلغ الأمر حد الخطر بإطلاق النار على بعض الجنود السوريين في منطقة ساقية الجنزير، مع كل التداعيات المنطقية التي يمكن أن تترتب على هكذا اعتداءات وعمليات “مدروسة”…
وهي “مدروسة” لأن استهدافاتها سياسية والآثار المرجوة منها سياسية، وأبسطها أن تفرض على بيروت مجدداً أجواء شبيهة بتلك التي سادت في منتصف شباط الماضي، والتي ما كانت لتزول لولا دخول القوات العربية السورية إلى بيروت.
قد يهون البعض الأمور مذكراً بأننا “نعيش” السنة الثالثة عشرة للحرب – الحروب الأهلية، وإن حوادث خطف وقتل واغتيال وتعد على قوات حفظ النظام يمكن أن تقع، وهي تقع بالفعل ويومياً تقريباً، في أرقى عواصم العالم المتحضر، فكيف في بلد نخرته نيران الفتن وما تزال تنخره وتطارد معالم الحياة فيه؟!
وقد يهون بعض آخر الأمور مذكراً بأن هذا البلد الممزق إنما يعوم فوق بحر من أجهزة المخابرات وشبكات التجسس المتصارعة في ما بينها والمتضاربة مصالحها ومصالح القوى الموالية لها مع مصالح “الخصوم” ومن والأهم،
وقد يذكر بعض ثالث بأن مثل هذه الأمور طبيعية في بلد يعاني من بطالة سياسية قاتلة، فلا حكم ولا حكومة (بالمعنى السياسي)، لا سلطة مركزية ولا إدارة مركزية ولا مجال لعمل حزبي جدي يطرح نفسه بديلاً عن رموز النظام أو أدوات الحكم والسلطة عبر برامج تكون محاور للصراع بقدر ما تنجح في تجسيد مصالح قطاعات وفئات وطبقات محددة في المجتمع.
وكل هذا صحيح، ولكننا تعودنا أن يرتبط “التوقيت”، توقيت الخروج على “الانضباط” السائد، بتطور نوعي ما في الخارج غالباً وفي الداخل أحياناً،
فما هو التطور النوعي الجديد الذي استوجب استيلاد هذه الموجة من أعمال العنف الموجهة ضد الفلسطينيين خطفاً (سيمون بوري ثم بدر الفاهوم)، وضد قيادات في الجناحين المصطرعين داخل “الحزب السوري القومي الاجتماعي” اغتيالاً، وضد الجنود السوريين اصطياداً بالرصاص؟!
إن جهة ما أو جهات لا بد مستفيدة من هذا التطور النوعي المؤذي للبنانيين، عموماً، ولنوع محدد من الفلسطينيين هم أولئك الذين باتوا من معالم الحياة الاقتصادية والثقافية في بيروت وتعلموا فيها أن يحبوا فلسطينن ثم للسوريين المسؤولين بطبيعة الحال عن أمن الناس كلهم فكيف بأمنهم العسكري المباشر؟!
حتى لو كان الهدف من خطف سيمون بوري، ثم بدر الفاهوم، هو الابتزاز المادي، فإن التوقيت ثم التكرار لا بد أن يجبرانا على التفكير بأغراض سياسية.
وحتى لو كان السبب المباشر، لاغتيال حبيب كيروز ثم توفيق الصفدي هو الصراع الدموي المتفاقم بين “الرفاق – الأعداء”، فإن التوقيت ثم استمرار النزف برغم الوساطات المؤثرة والمساعي الحميدة، كل ذلك يجعلنا نفترض إن وراء الأكمة ما وراءها مما يتجاوز الحزب والقوميين ليصيب نوعاً محدداً من العمل السياسي الذي نجح في أن يظل خارج أتون الاقتتال الطائفي، وكذلك ليهز مصداقية سوريا التي تعتبر الحزب بجناحيه بين أصدقائها وحلفائها في لبنان،
أما الاعتداء المباشر وبالرصاص على الجنود السوريين في بيروت فإنه يستهدف الدور السوري في لبنان بقدر ما يستهدف ما تبقى من سلامة بيروت ولبنان واللبنانيين،
ومؤكد إن القيادة السورية تعي هذه الحقائق وتضعها في اعتبارها وهي تحاول رسم رد فعلها (وفعل جنودها)، بحيث تحمي السمعة الطيبة التي حظي بها الجندي السوري، كمنقذ، في شباط الماضي وما بعدها، وتتجه بالرد إلى المستفيدين من التخريب وليس إلى ضحاياهم من أهل بيروت، وهم أهل الجنود السوريين أيضاًز
إن منظمي هذه الاعتداءات يريدون أول ما يريدون أن يسيئوا إلى كرامة الجيش السوري وإلى دوره في لبنان، والأخطر إلى علاقته بالأهالي، فيستعدونه عليهم ثم يستعدونهم عليه، إذا ما جاء رد الفعل عصبياً وقاسياً وعاماً وعامل الناس بغير تدقيق أو تمييز بين الضحية والجاني.
من هنا فلا بد من تعاون كلي بين أهالي بيروت، وبين من وما تبقى من رموز “السلطة الشرعية”، فيها، (قوى الأمن الداخلي واللواء السادس)، وبين القوات السورية، لكشف المستفيدين من عمليات التخريب هذه وأهداف منظميها.
وإذا كان جهد الوطنيين جميعاً، معززاً بالقرار السوري الأكيد. متجهاً إلى وضع نهاية فورية لمأساة “حرب المخيمات”، فمن باب أولى أن يعتبر اختطاف الفلسطيني – البيروتي، أو الفلسطيني – اللبناني، بما هو “عربي” أولاً وأخيراً، جريمة خطيرة تفوق في بشاعتها “حرب المخيمات” المرفوضة ذاتها،
فمن يختطف سيمون بوري وبدر الفاهوم، ليس مقاتلاً ضد الفلسطينيين، بل هو قاتل لآخر ما تبقى من أسباب سلامة اللبنانيين،
بل إنه – شاء أم أبى، أراد أم لم يرد – يعمل لصالح الجعاجعة ومشاريعهم الصهيونية في لبنان، إذ إن التوقيت يفضح التواطؤ وكذلك طبيعة الجريمة وهوية ضحاياها،
كذلك الأمر بالنسبة لمطلقي النار على الجنود السوريين،
أما “الرفاق الأعداء” في الحزب السوري القومي الاجتماعي فعليهم، وفوراً، أن يسحبوا خلافاتهم الايديولوجية والسياسية والتنظيمية الخ من سوق التداول، حتى لا يتحولوا إلى مصدر أذى مدمر للعمل الوطني في لبنان وللدور السوري فيه.
ليصيروا حزبين، وهما بالفعل، حزبان، وليريحوا الناس ويرتاحوا، وليتوقف هذا المسلسل الدموي المجنون الذي ينذر بإطلاق رصاصة الرحمة على آخر قيمة من قيم العمل الوطني والقومي في لبنان.
إن أمراً خطيراً ما يدبر ضدنا جميعاً.
فلا أقل من أن نتكاتف في مواجهته، حتى لا نتناوب على رثاء بعضنا البعض، ثم تجد قضيتنا نفسها يتيمة لا من يحمل رايتها ولا من يتولى قراءة الفاتحة على روحها.
أما أميرة الحزن، أما بيروت، فأقوى من الجراح وأبقى!