طلال سلمان

على الطريق لماذا لا ترتاح فرنسا وتريح؟ مبادرة باسم الأسطول!

“مهمة مستحيلة” هذه التي يجيء بها الموفد الفرنسي الجديد فرنسوا شير إلى كل من دمشق وبيروت وعواصم اللجنة العربية الثلاثية.
فهو يجيء مسبوقاً بإعلان صريح للتعارض بل وللتناقض بين فرنسا من جهة وبين سوريا وعموم اللبنانيين واللجنة العربية من جهة أخرى.
… ويجيء مسبوقاً بإعلان مشروع فرنسي للحل أو للتسوية الداخلية في لبنان من شأنه إطالة عمر الحرب الأهلية إلى مدى غير معلوم،
ومن حق فرنسا، وغيرها من الدول، أن تكون لها رؤيتها للمسألة اللبنانية وتصوراتها الخاصة لكيفية الشروع في حلها أو حتى للحل العتيد المرتجى،
لكن ما ليس من حقها أن تضع نفسها في مرتبة “المرجع” و”المقرر”، فتدعي لنفسها دوراً يتجاوز القمة العربية ومقرراتها الخاصة بلبنان، وبالتالي اللجنة العربية الثلاثية،
وما ليس من حقها أن تنصب نفسها وصية على لبنان سواء في علاقته الخاصة جداً مع شقيقته وجارته سوريا، أو في العلاقات الطبيعية بين فئاته وأطرافه وقواه السياسية في الداخل وتوافقها على صيغة الحكم/
فلا فرنسا بأحرص من اللبنانيين على سيادتهم على أرضهم،
وليست هي في منزلة سوريا، حتى في حال الخلاف معها، وليست لها حقوقها على لبنان كما ليست عليها واجباتها حياله،
ربما لهذا كله تبدو مهمة “شير” وكأنها مكملة لمهمة الأسطول الفرنسي، تستهدف أن تحقق بالسياسة ما لم يستطع ولن يستطيع الأسطول تحقيقه بالقوة العسكرية.
هي سياسة الأساطيل، مرة أخرى؟1
يلوح بالقوة المسلحة لفرض سياسة غير مقبولة وغير مناسبة للبلد المعني؟!
ولماذا تضع فرنسا نفسها في هذا الموضع وتركب هذا المركب الخشن؟!
هل هو فقط البحث عن دور؟
لكن فرنسا ميتران ذات دور متميز في أوروبا (الموحدة)، وذات علاقة تسعى لأن تكون متميزة مع الاتحاد السوفياتي في عهد البيروسترويكا وميخائيل غورباتشوف،
ثم إن لها علاقاتها التقليدية والمتنامية بمجموع دول المنطقة العربية،
ولها ذكرياتها اللبنانية (والسورية) التي تحفظ للحقبة الإمبراطورية والاستعمارية جلال الذكرى،
فلماذا هذا الإصرار على دور مختلف نوعاً في لبنان الجرح والأزمة والحرب الأهلية؟!
لماذا تصر فرنسا على أن تدخل طرفاً إضافياً في الحرب الأهلية؟!
ولماذا يصر ساستها على الاساءة إلى صورتها الجديدة التي أعطاها ملامحها المقبولة الجنرال شارل ديغول بعدما كان سابقوه قد جعلوها أكره على قلوب العرب من الإسرائيليين؟
لقد بذل العرب، في لبنان وخارجه، مجهوداً كبيراً حتى تناسوا صورة فرنسا ميتران المقاتل ضد حرية شعب الجزائر وضد هويته القومية،
كما بذلوا مجهوداً إضافياً لكي يتناسوا اقدام فرنسا – بالاشتراك مع بريطانيا وإسرائيل – على تلك المغامرة العسكرية الحمقاء ضد مصر عبد الناصر، بل ضد الأمة العربية كلها في العام 1956 (العدوان الثلاثي)،
فلماذا تصر فرنسا على أن تدخل المنطقة التي قبلتها بعد كل ما كان منها تجاهها، من باب الحرب الأهلية داخل لبنان وفي محيطه؟!
تقول فرنسا إنها إنما حركت أسطولها لدعم اللجنة العربية الثلاثية!!
ومؤكد إن تحريك الأسطول يلغي ما تبقى من مهمة اللجنة العربية ولا ينعشها،
وتقول فرنسا إنها إنما تطرح مبادرة سياسية جديدة لدعم اللجنة العربية ولإقناعها باستئناف مهمتها،
لكن المؤكد إن مجرد طرح المشروع السياسي الفرنسي يعني الشغب على مهمة اللجنة العربية والتخريب على تصورها للحل،
ثم إن المشروع الفرنسي يعطي للراغب في الاستمرار بالحرب حتى ينصب نفسه رئيساً فرصة للتذرع بأنه مع السلام الوطني ومع الحل برغم اعتراضه على مشروع اللجنة العربية الذي لم يعد “مشروع الحل” بل صار – في هذه الحالة – اقتراحاً أو مشروعاً في جملة مشاريع أخرى،
إن المبادرة الفرنسية الجديدة تنطلق من واقع أن لبنان في حالة حرب ضد سوريا أعلنها ويقودها الجنرال عون، وتحاول أن تؤكد وقوف فرنسا إلى جانب عون ودعم موقفه وحرصه على السيادة،
والمبادرة الفرنسية التي ترى “إن نظام التعايش لم يعد مناسباً للوضع الديموغرافي والاجتماعي، ولا بد من مراجعة”، إنما تزين للقائلين بالكانتونات والتقسيم مقامرتهم بمصير البلاد،
فكيف إذا ضمت إلى هذه المبادرة جملة التصريحات التي أطلقها مسؤولون كبار في الدولة الفرنسية وتحدثوا فيها عن “وجود مجتمعين وتكويني حضاريين” في لبنان؟!
لقد أساء الساسة الفرنسيون إلى لبنان واللبنانيين كثيراً، وأساؤوا إلى اللجنة العربية مرتين: الأولى حين اندفعوا في اتجاه مجلس الأمن فدغدغوا أوهام التدويل في مخيلة ميشال عون وفضحوا عدم وجود مساندة دولية كافية (منهم ومن الآخرين والأميركيين تحديداً) لهذه اللجنة، والثانية حين طرحوا مشروعهم السياسي الجديد وعززوه بقوة أسطولهم المجمد الآن في نقطة ما وسط “شرقي المتوسط”.
ولعل أطرف ما في المشروع الفرنسي ذلك النص الذي يقول إنه في انتظار أن تتكرم إسرائيل بتنفيذ القرار 425 القاضي بانسحابها من لبنان، والصادرقبل أحد عشر عاماً، “فإن علينا أن نفكر بالطريقة التي يمكن بواسطتها أن نسجل خطوات متقدمة”،
أما عند الحديث عن الانسحاب السوري، الذي توافق عليه دمشق مبدئياً، فإن الأمر لا يحتاج من الوزير دوماً كثيراً من التفكير، إذ هو يقترح فوراً أن يشمل بيروت ومنطقتها.
ولقد كان ملفتاً أن يتزامن طرح هذا المشروع الفرنسي مع تصريحات البطريرك الماروني أمس الأول حول ضرورة الاصلاح في اتجاد التخفيف من ضغط الحيف والتخفيف من الهيمنة الفئوية ممثلة بالصلاحيات غير المحدودة لرئيس الجمهورية على السلطة،
الملفنت إن وزير خارجية فرنسا ظهر مارونياً متطرفاً أكثر من عتاة المتمسكين بالامتيازات من الموارنة،
لقد بدا إنه المحامي الخاص لميشال عون، أي لأداة الحرب ولمعلنها وليس لمشروع السلام ومنطقه وسياقه الطبيعي.
لكأنما نواجه مقاتلين معاً: أحدهما صغير في البر اسمه ميشال عون، والثاني كبير في البحر اسمه فرنسا ميتران،
أحدهما يحاول ضرب ركائز الوحدة الوطنية في الداخل وإخراج البلاد من هويتها القومية، والثاني يحاول “سحب” لبنان إلى غياهب البحر لحل معضلة الجغرافيا وتحريره من منطقها الملزم.
برغم هذا كله فما زال اللبنانيون لا يحملون الجعجعة الفرنسية على محمل الجد،
ما زالوا ينظرون إلى كل ما صدر ويصدر عن فرنسا ساسة واسطولاً على إنه مناورات وتكتكات بعضه موجه على واشنطن وبعضه إلى دمشق بهدف استدرار العطف وإعطائها دوراً ما، لكنه بمجمله موجه للاستهلاك الداخلي والاستقواء على خصوم ميتران ومعارضيه من الفرنسيين، وعبر المانش من الإنكليز بقيادة مارغريت تاتشر التي حرمته “تطويب” نفسه قائداً لأوروبا الموحدة.
لكن المشكلة إن هذه التصرفات الفرنسية غير المسؤولة قد تخرب على اللجنة العربية الثلاثية وهي تستعد للتراجع عن خطأها القاتل في التوقف والاستقالة من مهمتها في لبنانز
وهذا ما يهمنا، ويفترض أن يهم العرب،
والرد العملي أن تتحرك اللجنة العربية وأن تباشر نشاطها وأن تخاطب ميتران الحكيم بما مفاده: أديت قسطك للعلى فنم!
والرد مطلوب ومتوقع من طرابلس، كهدية احتفالاتها الضخمة بالعيد العشرين لثورة معمر القذافي،
فإذا ما نجح الأخ معمر في تحقيق هذا الغنجاز يكون قد استحضر لبنان وجعله ضيف الشرف في احتفالات الفاتح،
ومن حق لبنان على ثورة الفاتح أن يكون في ضميرها ووجدانها، وأن يحظى منها بالرعاية والاهتمام،
أفلم يقاتل، طيلة هذه السنين، نيابة عن الأمة العربية وباسمها ضد عدو وجودها وحقها في الحياة؟!
فالبدار البدار يا معمر، وإلى البحر أيها “اليانكي”… الفرنسيون!

Exit mobile version