طلال سلمان

على الطريق لكي ينجح المؤتمر الوطني!

ينجح المؤتمر الوطني، المقرر عقده اليوم، بقدر ما تاتي نتائجه مطابقة لاسمه وفي مستوى شعاراته التي تلخص الأهداف النضالية في هذه المرحلة الحرجة والحاسمة من تاريخ لبنان.
إنه مؤتمر البشارة بغد أفضل، بالسلام والديموقراطية والعروبة، بالتقدم والعدالة والمساواة التي لا يحد منها “خوف” ولا يلغيها “امتياز” يستفز حرمان المحروم.
إنه مؤتمر التأسيس لوطن ذهبت بوحدته أو تكاد شروط غثبات الولاء لكيان اصطنعه الأجنبي لاستبقائه رهينة لديه، وشرط الطاعة العمياء لنظام هرم يحمل في رحمه بذور الانقسام عبر تقسيم الشعب طوائف ومذاهب تقتتل على كل منصب فلا تنتبه إلا وقد ضاع كل شيء!
إنه مؤتمر لتحرير الارض والإنسان.
بهذا المعنى فهو مؤتمر ضد الحرب الأهلية، وضد الذين يعملون لتجديدها عبر التقسيم بأشكاله المختلفة وآخرها الحكومة العسكرية الشوهاء.
وهو مؤتمر رايته الاصلاح السياسي، بوصفه أداة لتثبيت الوحدة الوطنية بدولة عصرية قادرة وقوية بديموقراطيتها وعدالتها وانتمائها القومي الصريح.
إنه مؤتمر ضد العدو الإسرائيلي، وضد منفذي أغراض إسرائيل ومحققي أطماعها في الداخل.
وهو مؤتمر “العلاقات المميزة” مع سوريا، فهذه العلاقات هي الآن الاسم الحركي لعروبة لبنان ولالتزامه بواجبه الطبيعي حيال مختلف القضايا القومية، وفي الطليعة منها حق شعب فلسطين في إقامة دولته المستقلة فوق أرضه المحررة. في غد، وإن كره… العرفاتيون!
إنه مؤتمر أكبر من أن يقزم في تظاهرة سياسية لتأييد حكومة لا تحتاج شرعيتها للتوكيد، أو لإدانة حكومة الضباط الثلاثة التي لن تكون أكثر من جملة معترضة، في سياق الأحداث، سرعان ما تسقط سهواً فلا تجد من يبكيها، لأن الذين أتوا بها لاى يريدون منها أكثر مما أثبتوا عبرها حتى اليوم!
ينجح المؤمر الوطني بقدر ما يستحضر لبنان كله واللبنانيين عموماً، لاسيما أولئك الذين خافوا فغابوا، أو أخييفوا فمنعوا وغيبوا،
وهو لا يستثني من عضويته، كما من جمهوره، إلا أولئك الذين خرجوا على لبنان واختاروا أن يحاربوه في وحدته وفي مستقبله، من جبهة عدوه الإسرائيلي.
… وإلا أولئك الذين قاطعوا (أو قوطعوا) لأنهم قطعوا لبنان حصصاً وجهات وكانتونات، فاقتطعوا لأنفسهم بعض المناصب أو بعض المكاسب باسم الدين أو باسم الطائفة، بذريعة تأمين “الخائف” بالوضع الممتاز، ولو تم ذلك على حساب الوطن، أي وحدة الدولة بأرضها وشعبها والمؤسسات.
للمناسبة: كيف لا يخاف من أخيه ذلك الذي لا يطمئنه إلا منصب يرميه له عدو أوغريب فيكون سبباً لفتنة دائمة تدمر – أول ما تدمر – المناصب والمكاسب ومواقع السلطة و”الضمانات” التي هي في جوهرها بعض رموز عصر القهر الاستعماري وامتداداته ولو بأشكال جديدة!!
وللمناسبة أيضا: ألم تكن الضمانات إياها، بما هي تقديم لـ “حقوق” الطائفة على حقوق الوطن الثغرة اليت نفذ منها العدو الإسرائيلي (وكل أجنبي طامع بلبنان وبأمته) إلى النسيج الاجتماعي في لبنان؟!
ينجح المؤتمر الوطني بمقدار ما يكون إيذاناً بخروج لبنان من العصر الإسرائيلي، وإسقاطاً للنتائج السياسية للغزو العسكري الإسرائيلي في صيف عام 1982.
فبغير إسقاط هذه النتائج لن يتمكن اللبنانيون من انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
وحكومة الضباط الثلاثة إنما هي تتمة طبيعية لحكم الانقلاب الكتائبي الذي جاء فاقتحم السلطة بدبابة الجنرال شارون، فلما اضطر رمزه إلى الخروج من القصر تركه في عهدة الجنرال عون،
لقد عين العدو الإسرائيلي رئيس جمهورية لبنان يوم كانت قوات احتلاله تحتل عاصمته بيروت، وتقهر فيها وعبرها إرادة الأمة العربية كلها.
واليوم، تمنع إسرائيل شعب لبنان من انتخاب رئيس جديد، لأنها أعجز من أن تفرض مرشحها.
إنها ما زالت تحاصرنا وقتهر إرادتنا وتعطل حركتنا وتقتحم علينا شؤوننا الداخلية كمثل انتخاب رئيس جديد للجمهورية طالما هي لا تضمن أن يكون صنيعتها وخنجرها المسموم في الجسد العربي كله انطلاقاً من سوريا الصامدة التي تقاتل معناً، وبالنيابة عنا في معظم الأحيان، الاختراق الإسرائيلي الذي يدفع ثمنه الجميع… بمن في ذلك الطائفة التي يريد بعض رموز التعفن والتعصب فيها أن يجروها إلى التهلكة، عبر تكرار مأساة “شعب الله المختار”.
ينجح المؤتمر الوطني بقدر ما يكون مؤتمر المواطن لا مؤتمر أعضاء نادي الحكم وأمراء الحرب – أمراء السلام!
وليس مواطناً حراً أو سوياً ذلك “المخلوف” الذي يولد وقد سبقه الحكم المؤبد عليه بأن يطاطئ رأسه باستمرار، حتى لا يهدد النظام إذا ما تجاوز سقف الكوتا الطائفية، بالغة ما بلغت كفاءاته ونضالاته من أجل تقدم الوطن ورفعته وعزته.
كذلك فليس مواطناً حراً أو سوياً ذلك “المخلوق” الذي يولد ممتازاً ويعيش ممتازاً ويموت ممتازاً، كائنة ما كانت موبقاته وارتكاباته وخياناته للوطن (وضمناً للنظام والطائفة العظمى)!
وينجح المؤتمر الوطني بقدر ما يكون مؤتمر كل لبنان، لاسيما تلك الأجزاء المقتطعة بقهر الاحتلال أو المعطلة والمغيبة بنتائجه،
فهو مؤتمر الجنوب، لأنه الامتحان الجدي لإرادة التحرير والخروج من العصر الإسرائيلي،
وهو في الوقت نفسه مؤتمر “المناطق الشرقية” المحتجزة الآن في قبضة الحكم العسكري، العسكر “الشرعي” ظاهراً و”العسكر” المعادي للشرعية باطناً، وكلاهما يشكل غطاء وتمويهاً للاختراق الإسرائيلي ودوره المعطل لدورة الحياة الطبيعية في لبنان.
وهو ليس مؤتمراً يأخذ فيه المسلمون، خلسة، من المسيحيين ما يرفضون إعطاءه للوطن ذاته،
كذلك فهو ليس مؤتمر “يسرق” فيه المسيحيون من المسلمين المزيد من الامتيازات كرشوة للتخلي عن الأجنبي والدخيل،
فلا المسلم قادر أن يعطي ما لا يملك، ولا المسيحي قادر أن يأخذ ما لا يحتاج،
لكن الوطن يحتاج عطاء من الجميع لكي يقوم ويكون وطن الجميع.
… ثم إنه مؤتمر المنسيين دائماً وأبداً: الملحقات المنسية، والمواطنين المنسيين، والمطامح المنسية، والأحلام المنسية،
وهل أيأس من شعب لا يحلم، ومن وطن لا يستوطن حلم مواطنه وأمنيته الغالية؟!
إنه مؤتمر في “الغربية”، ولكنه ليس مؤتمراً للغربية أو من أجلها.
إنه مؤتمر الأشرفية، كما هو مؤتمر بنت جبيل، ومؤتمر ريفون وحصرون وعشقوت وغزير وجونيه كما هو مؤتمر البترون والكورة وبشري وزغرتا ودير الأحمر، وهو مؤتمر طرابلس والمنية والضنية بقدر ما هو مؤتمر عكار من حلبا إلى العريضة، وهو مؤتمر صيدا وصور والنبطية وجزين وإقليم التفاح بقدر ما هو مؤتمر بعقلين وبيت الدين ودير القمر وبعلبك وزحلة والهرمل وصولاً إلى القصر…
إنه مؤتمر رشيد كرامي: شهيد الشرعية المسفوح دمها ووحدة الدولة التي افتداها بدمه.
إنه مؤتمر الشهداء جميعاً الذين استودعونا حلمهم في وطن لا يموت فيه أبناؤهم قتلاً على الهوية، ولا تقتل فيه الطائفية هوية الوطن.
إنه خطوة في اتجاه الغد، أو هكذا يجب أن يكون، وبهذا يتأكد نجاحه.
أبعد من المؤتمر!
هو الآن في ربيع عمره الثاني: ثمانية عشر حجراً ومقلاع!
وهو يتابع ما بدأه، وما أتقنت يده اتيانه عبر التدريب الطويل: هدفه الشمس، عدوه الليل، سلاحه الإرادة والحب العظيم الذي يتدفق كما طوفان النيل فيوصل خيره إلى كل ناح.
لقد أعطى اسمه للأمكنة جميعاً، للأزمنة جميعاً، للناس جميعاً، وأعطاه بحب عظيم: حب الأرض وناسها، حب للنهر والبحر والجبل والصحراء، حب لبهية التي تجمعت في وجهها كل الملامح الأليفة، ملامح أمه وأخته وبنت الجيران الولهى التي يخبئ اسمها بين حنايا الضلوع!
لا يده تخطئ الحجر، ولا الحجريخطئ مقصده،
فالحجر متى أقلته من مقلاعه انطلق سهماً حتى الارتطام بالوجه الغريب. الحجر يعود إلى مستقره في حضن الأرض، والوجه الغريب يدير عينيه الزرقاوين في هذا المجهول من حوله، مستذكراً إنه من مكان آخر، ومن زمان آخر، وإن لا مجال للتوحد بالارض إلا عبر الموت، فمنها تبدأ الحياة وحياته هو في الأرض التي جاء منها، وكذلك بعثه.
هو الآن بين فتية الضفة وقطاع غزة والمخيمات وقدس الصخرة والأقصى والجلجلة ودرب الآلام التي لا تنتهي حتى بالصلب.
إنه الآن يعيد ما بدأه في العام 1936.
يومها أيضاً كان يرشق بالحجارة وجوه الأعداء في شوارع القاهرة فيصيبها في حيفا ويافا وعكا والجليل.
الثورة هنا هي الثورة هناك. الثورة الوحدة والردة الانفصال، التقسيم، الخيانة وبيع الأرض بثلاثين من الضفة أو ببعض المقاعد المذهبة!
الحجر واحد، العدو واحد، فكيف تكون الأمة أمماً وشعوباً ودولاً مسورة بخنادق الدم والموت، وكيف يكون الشعب طوائف ومذاهب وعشائر وقبائل تقتتل وتغفل عن قتال عدو حاضرها والمستقبل المنشود؟!
الاسم: جمال عبد الناصر،
مكان الولادة: بني مر، القاهرة، الإسكندرية، أسيوط، دمياط، رشيد، المنصورة، العريش، رفح، خان يونس، غزة، طولكرم، جنين، الخليل، أم الفحم، الشجرة، قلقيلية، جبشيت، معركة، عيتا الشعب، حولا، صور، صيدا، عين التينة، جبل الطاهر، جبل صافي وأساساً بيروت التي أحبته ولم تره وأحبها وظل يراها حتى يومه الأخير.
إنه بيننا من جديد.
يحمل حجره ويقاتل، وعلى الجبين العربي الأسمر ذلك الجرح الفلسطيني القديم.
وهم يقاتلونه فينا قتالهم أشعة الشمس وضوع الوردة وشميم زهر الليمون.
إنهم يحاولون خنق الرمز، وطمس ملامحه، وفرض النسيان علينا عبر إغراقنا في مسلسل الحروب الأهلية العربية التي لا تنتهي.
كلما هدأت حرب أو كادت أشعلوا (وأشعلنا معهم!!)، حرباً جديدة ضد الذات، ثم ضد الشقيقه والجار،
فالحرب على العدو تستحضره وتستعيد بطولته نهجاً ونبراس نضال وراية للغد العربي الأفضل،
أما الحرب ضد الذات فتمحوه من الذاكرة المجهدة بقدر ما تمحو ملامح الذات وتاريخها.
ليغرق لبنان، ولتغرق سوريا وصمودها معه وفيه،
لتغرق فلسطين، ولتغرق معها الثورة وإرادة التحرير وكل ما تفرع منها: المقاومة، مواجهة الإمبريالية، إسقاط الرجعية والاقطاع وسائر رموز التخلف وترسبات عصور القهر الاستعماري.
ليحقن الجو بمضادات الكبرياء والعزة والشعار المقدس: ارفع رأسك يا أخي!
ليتوقف الزمن ، ليتوقف حتى لا يعود!
هو الآن في ربيع عمره الثاني، ثمانية عشر حجراً ومقلاع.
أترانا نقلده في لبنان ونخرج من المستنقع الطائفي الآسن إلى أفق التحرير الرحب، تحرير الأرض وتحرير الإنسان؟!
أترانا نقاتل، ولو بالمقلاع، كما أطفال الضفة، للخروج من العصر الإسرائيلي؟!
… والمقلاع ينتظر صاحب الحجر الأول.

Exit mobile version