طلال سلمان

على الطريق لقاء الخارجين على ماضيهما

بوريس يلتسين يستقبل ياسر عرفات في الكرملين بموسكو: يا للطرافة المبكية!
لا أحد كما كان، لا أحد حيث كان، لا شيء باق على ما كان عليه.
لا هي هي، ولا مَن كان فيها بل و”كأنها” فيها الآن، ولا هو هو، ولا الزمان هو الزمان. حتى المكان بات – فجأة – أشبه بالآثار ذات التاريخ منه بالمركز الذي يصنع فيه التاريخ!
الكل تبدّل، حتى المكان، والتبدّل دائماً إلى الخلف: فالعلم فوق الكرملين “قيصري” مع أن القيصر ما زال غائباً ولن يقدّر له أن يعود، والشعار أميركي مع أن السوق في موسكو فارغ والاقتصاد متهالك إلى حد الإفلاس، والدولار خرافة كالعنقاء.
أما مع ياسر عرفات فالعلم باق لأنه “مطلق” وغير ملزم، ولقد حمله من قبله الكثير من المرتدين عن الثورة التي أريد به أن يرمز إليها، والشعار الراهن كان مصدراً لاتهام الآخرين بالخيانة من قبل،
صار بوريس يلتسين “الرئيس” ولم يعد “الرفيق الأمين العام”، كذلك صار ياسر عرفات “حاكم غزة – أريحا” – نظرياً – ولم يعد “الختيار” ولا “الأخ أبو عمار”، وهو مع اضطراره للتنازل عن لقب “رئيس دولة فلسطين” بعد الاحتجاج الإسرائيلي الصارم فإنه لم ولن يتمكن من استعادة لقب “قائد الثورة”.
حتى الشوارع فقدت ملامحها الأصلية في عاصمة “الثورة الاشتراكية الكبرى”: لم يتبق لفلاديمير ايليتش لينين مكان في تلك “الإمبراطورية” التي قامت على اسمه “ونظرياته” والتي كانت تدور فيها ولها الشمس ذات يوم.
اختفى العمال، واندثرت دولة البروليتاريا، وبقيت بعض فلولهم في الشارع “تناضل” من أجل حقوقهم المطلبية والنقابية البسيطة التي تجاوزها عمال العديد من الدول الرأسمالية.
اضمحل الحزب الجرار، لم يتبق منه غير مجاميع من العجائز والكهول الذين لا يعرفون مكاناً آخر يذهبون إليه،
وبالمقابل اختفى “العرب” كما اختفت “العروبة” من ركب عرفات ومن تفكيره ومن خطابه الرسمي، وكادت فلسطين تسقط سهواً ومعها كلمات صعبة مثل “التحرير” و”من النهر إلى البحر” و”العاصمة المقدسة القدس” الخ..
بهت لون “الجيش الأحمر” كما بهت دوره وصار عبئاً على دولته – الضد، كالمعاق، تعجز عن إيجاد المأوى والمأكل والمرتب لجحافله التي كانت ترفع علم “الثورة الأممية” على امتداد المساحة الهائلة بين القطبين!
أما جند “الكفاح المسلح” و”الفدائيون” و”منتسبو جيش التحرير الوطني الفلسطيني”، فقد أنجز مسخهم إلى شرطة تكاد تكون أقرب إلى المرتزقة وتكاد مهمتها تنحصر الآن في حماية مؤخرة الاحتلال وجيش الاحتلال.
يلتسين وعرفات: كلاهما خارج من صلب الثورة، ولكنه الآن في موقع المرتد، لا يفتأ ينكر أمومتها أو صلته بها ويحاول أن يكفر عن طيش الشباب في ماضيه، لكن “السيد” لا يصدر حكم البراءة بل يطالب بالمزيد من إثباتات قطع الصلة بالماضي و”خيانة” أحلام جيله وأمته جمعاء.
كلاهما غيره بالأمس إلى حد إلغاء التاريخ أو المنطق أو العقل. ذهب الوهج وتم تزوير القضية وانقلب الخطاب إلى نقيضه.
كلاهما بات مسخاً لما كانه، كأنه كاريكاتور أشوه لماضيه، ولا يعلم إلا الله والراسخون في عل مالنظام الجديد كيف سيكون مستقبله.
روسيا يلتسين ليست روسيا القيصر المقدسة وليست روسيا الاتحاد السوفياتي العظيم، ولا تعرف لنفسها بعد مكاناً في هذا العالم “الأميركي” الجديد، وتجهد لانتزاع دور فتقصر يدها وإذا ما طالت اليد لم تلب الهمة والقدرات ولم تسمح إرادة السيد الكوني المطاع.
وفلسطين عرفات ليست فلسطين الثورة ولا هي فلسطين السلام… بل إنها لا تكاد تشبه أي بلد آخر في شيء، فلا هي محررة ولا هي الثورة ولا هي مستكينة إلى “قدرها” كما قرره الإسرائيلي في أوسلو واعتمده “السيد” في حديقة البيت في واشنطن.
إن فلسطين رهينة، ولعل روسيا كذلك لكن “الروس” فيها، أما الفلسطينيون فهائمون على وجوههم بعد، يبحثون عن ملجأ وهوية بعد أن أسقطت من أيديهم البندقية – الهوية.
“التقى المتعوس مع خائب الرجاء”،
وبحر الكلام بلا ضفاف خصوصاً متى أزيلت منه التعابير الفجة والكلمات المتفجرة والمعاني التي قد تخدش حياء “السلام” أو تشوه مضمون “الشرق الأوسط الجديد”.
لقد هجر كلاهما تلك اللغة البائدة “لفرسان الجمل الثورية” الجدد من “الأصوليون” و”المتطرفين” و”المغامرين” ممن يطلقون لحاهم ويطلبون الجنة تاركين الأرض للواقعيين من الليبراليين والتغييريين الجدد الذين كشفت “البيروسترويكا” عن عيونهم الحجاب فباتوا يرون بشفافية مطلقة.
لقد كانت هذه الزيارة ضرورية لكي يتم نهائياً دفن “الثورتين” والحلمين السنيين: دولة العمال والفلاحين الاشتراكية العظمى، وحركة التحرير الوطني الفلسطيني بما هي طليعة من طلائع الثورة العربية الشاملة.
… ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون!

Exit mobile version