طلال سلمان

على الطريق لبنان… ومعارك صغاره!

صغر لبنان، وصغر كل مَن وما فيه. صغر في السياسة، وصغر في السياحة، صغر في الثقافة، وصغر في الصحافة والأعلام. صار لبنانياً، أي محلياً، أي أكثر مما يحتمل وأكثر مما يتطلب دوره “القديم” وطموحه إلى تجديده.
صغرت الطوائف بحيث باتت تحت مستوى “الأقليات” بالمعنى القابل للتوظيف السياسي. لكأنما استغنت “الدول” عن نمط معين من الأقليات، بعدما استنفدت حيويتها وقدرتها على التكيف وقابليتها للاستقواء “بالخارجي” على “قاهرها” أو قامعها “الداخلي”، لاسيما إذا دخل الدين كعنصر من عناصر “الفرز والضم”.
المفارقة أنه حين اغتيل لبنان “العربي”، الفلسطيني، المصري، المغربي، السعودي، الخليجي، والسوري بطبيعة الحال، عبر الحرب الأهلية المتعددة الأطوار والشعارات، تصاغر كل من وما فيه كنتيجة طبيعية لاغتيال الدور المتعدد الوجوه سياسياً وثقافياً واقتصادياً وإعلامياً الخ…
فالانعزال، سواء أكان مسيحياً أم مسلماً، يقتل لبنان ولا يحيي الطوائف.
وها هي الطوائف تتهاوى بقدر ما تتوغل في طريق الانعزال… فالميليشيات عنوان حربي للانعزال السياسي، وهذا ما أدى إلى أن تختزل كل طائفة “بقائد” أو اثنين أو ثلاثة، قفزوا فوق موجة الهياج الطائفي إلى موقع الزعامة مقزمين الطائفة التي يمثلون، ومساهمين في تقزيم لبنان ذاته لكي يغدو – سياسياً – بأحجامهم لا يتجاوزها وإلا سقطوا.
والموارنة حالة نموذجية، هنا، وليسوا استثناء… فتصاغر “الطائفة العظمى” لا يكبر الطوائف الأخرى، الطامحة إلى وراثتها ولعب دورها، من دون أن تكون لها مثل فرصتها التاريخية، ومثل الظروف التي سمحت لها بتبوء المركز الممتاز الذي ظلت فيه حتى فقدت أهليتها لاحتلاله وفقدت سندها الخارجي الذي حماها ورعى تقدمها إلى قمة السلطة، بل وإلى احتكار السلطة.
لن تكون أية طائفة أخرى “الموارنة” الجدد في لبنان. ذلك زمن انتهى ودولة قد دالت وفقدت مبرر حياتها.
لقد عم الانعزال دنيا العرب جميعاً. وإذا أصابت حمى الانعزال “الأكثرية” فما الحاجة إلى انعزال الأقلية؟! لقد غدا العرب مجموعة من الأكثريات الأقلوية، أو الأقليات ذات الأعداد الهائلة.
كانت الأقلية هي التي تلجأ إلى الحماية الأجنبية، واليوم تتدافع الأكثريات العربية طلباً للحماية الأجنبية، بل إنها تدفع للأجنبي خيرات أرضها وكل قيمها المعنوية (من كرامة وإرادة تحرر وطموح إلى الاستقلال والسيادة الخ) ثمناً لقدومه الميمون كي يحمي “ملوك الطوائف” في الأطراف المترامية لهذه الأرض العربية الفسيحة.
ثم إن “الزعماء” اللبنانيين “التاريخيين” كانوا كباراً لأنهم كانوا أصحاب أدوار عربية، وليسوا لأنهم قبضايات وقادة ميليشيات في بعض الزواريب أو بعض المناطق ذات اللون المذهبي الواحد.
من بشارة الخوري إلى رياض الصلح، ومن حميد فرنجية وكميل شمعون إلى فؤاد شهاب، ومن صائب سلام إلى سليمان فرنجية، إلى الياس سركيس (وهو آخر الرؤساء…) كلهم جاءوا إلى السلطة من أدوارهم العربية ومن رصيدهم العربي، بعضهم بدأ لبنانياً وامتد، كبشارة الخوري وفؤاد شهاب والياس سركيس، وبعضهم الآخر اقتحم السياسة اللبنانية من باب دوره العربي كآل الصلح عموماً ورياض الصلح خاصة، ومثله صائب سلام وإلى حد كبير كميل شمعون.
والبطاركة الكبار لدى الطائفة المارونية هو الذين كبروا مع لقبهم “بطريرك أنطاكية وسائر المشرق”، فلم ينافسوا السياسيين على زعامة جهة أو منطقة أو حتى الطائفة، من البطريرك حويك إلى البطريرك المعوشي… كانوا يكبرون بقدر ما يؤكدون انتماءهم إلى أهلهم وذوي قرباهم، فذلك يرفعهم في عين الأجنبي، وحتى في عين الفاتيكان، وبقدر ما يكبرون (عربياً) تتوطد مكانتهم محلياً، ويتعاظم دورهم في ترشيد سياسة الحاكم اللبناني والعكس بالعكس.
اليوم يكاد لبنان يفتقد “الكبار” على أي صعيد. في السياسة كما في المرجعيات الروحية، في الحكم كما في المعارضات التي تظل أكبر من قياداتها، برغم كل شيء. بل إن بعض هذا التيار المعارض صار معارضاً لخيبة أمله في الحكم وأيضاً في المرجعيات الطائفية، لذا فقد صار التطرف أكثر ما يستهويه ولو اتخذ شكل النزعة الانتحارية. خصوصاً وإنه خرج من الحرب مهزوماً في أوهامه (سياسياً) ومحطماً في رزقه وفي آماله في استعادة الاستقرار والإعمار وإعادة البناء وتصدر العرب مرة أخرى.
… وهذه الضجة حول الانتخابات، مواعيدها، لوائحها وأقطابها، استهدافاتها وشعاراتها، تعكس – أكثر ما تعكس – حقيقة إنها معركة لا كبار فيها ولا زعامات تاريخية، لا على الصعيد السياسي ولا على صعيد المرجعيات الدينية.
إنها معركة بين صغار، يتناتشون الأسلوب والمغانم، بعد حرب دمرت في ما دمرته، بنية الدولة باقتصادها الذي كان مختلاً فصار منهبة،
ولقد فقدت الطوائف، كطوائف، مواقعها الممتازة… وما خسره الموارنة لم يكسبه تماماً الآخرون، وإنما أعيد التوزيع وفق قواعد جديدة لم يألفها بعد أي فريق.
وهموم الناس في مكان آخر، من قبل ومن بعد.

Exit mobile version