طلال سلمان

على الطريق لبنان في مجلس حافظ الأسد..

لا يغيب لبنان عن مجلس حافظ الاسد حتى لو لم يكن “الضيف” من أهل الحكم في بيروت، كما بالأمس، أو لم يكن لبنان هو الموضوع الأصلي للحديث.
فلبنان يكاد يكون مقيماً دائماً في صالة الاستقبال الملحقة بمكتب الرئيس الأسد والتي باتت مميزة في العالم أجمع بصورها “الثابتة” لرياشها البسيطة وسجادتها ذات المربعات واللوحة اليتيمة عن صلاح الدين في حطين في الصدارة إلى يمين الداخل، وفي مواجهة الرئيس تقريباً وهي يلتفت محدثاً أو مستمعاً إلى ضيفه الجالس إلى يساره.
بل إن تلك الصالة تحتفظ بأنفاس الأغلبية العظمى من القيادات السياسية والعسكرية، الرسمية والحزبية والروحية التي رفعتها الظروف إلى خشبة المسرح السياسي في لبنان على امتداد عقدين من السنين أو يزيد قليلاً.
لقد تناوبوا على الجلوس في هذا المقعد متوجهين إليه بطلب العون أو بالتشكي، مناشدين أو معتذرين عن خطأ متعمد أو عن قصور في الفهم أو عن مبالغة في الاجتهاد، أو – لاسيما – عن تجاوز للمدى في توهم الحصول على دعم “الغريب” أو “محالفة العدو”.
من رؤساء الجمهورية أربعة هم الراحلان سليمان فرنجية والياس سركيس ثم “بطل المباغتات” أمين الجميل، وصولاً إلى الرئيس الهراوي الذي ما يكاد يخرج من لدى الرئيس الأسد حتى يتصل لطلب موعد جديد حرصاً على “العلاقة المميزة” على المستوى الشخصي قبل الرسمي،
أما رؤساء الحكومة، وكذلك رؤساء المجلس النيابي، فجميعهم قد طلب المقابلة أو طلب إليها، يستوي في ذلك الآتي من البعيد أو الذاهب إلى البعيد، القوي بذاته أو المستقوي بعلاقاته العربية أو الخارجية، المتودد لنيل الرضا أو الراغب في تأسيس صداقة أو المندفع إلى التحالف “طالما تتعذر الوحدة”.
على الصعيد الحزبي تطول القائمة بحيث يسهل تحديد من استثنته مواقفه منها، لا فرق بين يساري ويميني، بين خريج مدرسة الانعزال أو المنتسب إلى التيار القومي، فباب الحوار مفتوح للجميع، وفي السياسة لا عدوات دائمة ولا صداقات دائمة والمصالح الحيوية لسوريا ولبنان هي أساس الحساب في ضوء الظروف ومقتضياتها.
ولأن الحرب الأهلية قد حولت لبنان إلى أزمة دائمة ومتفجرة، خصوصاً وإن المقاومة الفلسطينية كانت تتخذ من أرضه ولسوات طويلة، القاعدة والمنطلق للعمل الفدائي كما للحركة السياسية، فقد جاءت “الدول” جميعاً إلى حافظ الأسد لتناقش معه فتتفق أحياناً وتختلف أحياناً أخرى ولكنه حتى في الاختلاف تجد نفسها مضطرة للعودة إليه مسلمة بدوره الحاسم وبكلمته الأخيرة في موضوع البلد الصغير الذي حوله الصراع المتعدد الأطوار والوجوه إلى “ملخص” لأزمات المنطقة ومسرح للمواجهات الدولية الكبرى.
لكم “تعرف” هذه الصالة التي تعكس في خلوها من أي أثر للبهرجة والفخامة طبيعة سيدها الذي يذهب باهتمامه إلى المضمون ولا يتوقف كثيراً عند الشكل.
لقد شهدت تبدل بعض الناس وانقلاباتهم: دخلوها متجهمين، مرات، ثم عادوا فدخلوها مبتهجين، نفثوا الغضب في بعض الحالات واحتدم نقاشهم مع الرجل المستفز بهدوئه، وزفروا الشكوى الموجعة في حالات أخرى،
ولكم جاءها البعض مستغفراً وقبع يتلو فعل الندامة، ولكم غادرها بعض “الكبار” ساخطين والشرر يتطاير من عيونهم مستغربين أن يتحداهم هذا الرجل الذي لا يؤخذ بالتهديد أو الوعيد، كما لا يؤخذ بإغراءات المساعدة المجزية لبلاده المصنفة فقيرة.
لبنان، إذن، بند ثابت في السياسة السورية، داخلياً وعربياً وخارجياً، وصل في تأثيره إلى رغيف المواطن السوري، كما شكل النجاح في معالجة معضلته مصدراً للاعتزاز بحكمة القيادة ومنطلقاً لاستعادة الثقة بالنفس بغير تبجح.
لقد انتهى لبنان “كعقدة” للمسؤول السوري كما للمواطن السوري،
ونجحت قيادة حافظ الأسد في حسم المسألة التاريخية المعقدة، إذ كان لبنان بنظامه “القديم” المنفصل إلى حد العداء، المختلف إلى حد التناقض، “المتوهج” بأساطير غناه (على فقر أرضه)، “قضية وطنية سورية”.
ذلك إن “الوطنية السورية” لم تسلم باستقلال لبنان إلا كارهة، خصوصاً وإن أهل الاستقلال اللبناني اندفعوا بعيداً في اتجاه الغرب حتى توهموا وأوهموا مواطنيهم أنهم قد صاروا منه… وفي هذا السياق يمكن استذكار العقوبات التأديبية التي اتخذها بعض من تعاقب على دست الحكم في دمشق ابتداء بالقطيعة الاقتصادية في أوائل الخمسينات، إلى التحرشات ذات الطابع العسكري في مطلع الستينات، إلى التخوف من لبنان وتحوله من مطلب إلى مشكلة ثم إلى أزمة داخلية مفتوحة في أواخر الستينات وعشية “الحركة التصحيحية” التي قادها الرئيس الأسد في أواخر العام 1970.
اليوم وفي مجلس حافظ الأسد اختفى القلق من لبنان كمصدر أو حتى كمعبر للخطر على سوريا ونظامها، كما أن القلق على لبنان “بنظامه الجديد” يكاد يختفي، وإن بقيت ملاحظات كثيرة على القيمين على “الجمهورية الثانية”، كما تسمى في بيروت، أو “لبنان ما بعد الطائف” كما تصير التسمية في دمشق.
فلا سوريا القديمة المعقدة من لبنان وعلاقاته الدولية المفتوحة هي سوريا حافظ الاسد، ولا لبنان الحامل بصمات حافظ الاسد على نظامه الجديد هو لبنان النظام القديم.
فوزير الخارجية الأميركية وارن كريستوفر يضيف لبنان إلى برنامج جولته في المنطقة بطلب من دمشق ويأتي منها إليه براً، ثم يعود إليها وفيها ومع قيادتها يقول ما يصتل بلبنان وما يعنيه.
ومثل كريستوفر يتصرف سائر الوزراء الكبار وموفدي الدول، الأجنبية والعربية، فلقد أدرك الجميع أن من يأتي بيروت من غير بوابة دمشق لا يصل!
حادة هي ذاكرة حافظ الأسد، وهائلة الاتساع والغنى: كل من جاء فانطوى في هذا المقعد إلى يساره “حاضر” متى فرض الحديث استرجاعه، ولو من باب الاستشهاد بموقف له أو بقول يشكف دخيلة نفسه.
ولأنه دارس جيد للتاريخ ومؤمن بمنطقه فمن الصعب “إقناعه” بما لا يتسق مع منطق التاريخ خصوصاً متى تعزز بالقوة غير المحدودة للجغرافيا.
“- إنهم يكررون التجارب ذاتها، لأنهم يتساوون في جهلهم بالتاريخ..
“ولقد أبلغت أحد أوائل الموفدين الأميركيين، رامسفيلد، وقد جاءني مباشرة بعد أزمتي الصحية، وبعد قطيعة أعقبت جو الحرب الذي طبع علاقاتنا بالأميركيين نتيجة إصرارهم على فرض اتفاق 17 ايار على لبنان وعبره علينا، إنهم يتصرفون تماماً كالفرنسيين من قبلهم، وكالأتراك من قبل الفرنسيين، وإنهم يرتكبون الأخطاء القاتلة ذاتها… فكل المستعمرين سواء، وهم غالباً ما يفترضون أن قوتهم العسكرية وحدها تكفي لتبديل ثوابت التاريخ والجغرافيا.
“وبرغم أنني لم أتفق مع ذلك الموفد في حرف واحد فقد احترمت فيه نزاهته في طرح وجهة نظر إدارته. لم يجاملني، ولم يظهر لي أنه اقتنع، بل ناقشني وجادلني طيلة الوقت ولكنه احترم بالمقابل رأيي ورؤيتي.
“قلت له إننا قد قاتلنا الإمبراطورية العثمانية، وقد كانت دولة عظمى تظلل أعلامها أنحاء شاسعة من العالم. وإننا قاتلناها وهي ترفع راية الإسلام، استخلاصاً لحقوقنا في أرضنا ولكرامتنا القومية،
“وقلت له إننا على تديننا لم نتردد في مواجهة عسكرها لأن الدين نفسه لا ينفع في تمويه حقيقة الاستعمارز
“وقلت له أيضاً إننا حين قاتلنا فرنسا كمستعمر، كنا ندرك أنه لا أمل لنا في أن نلحق بها، وهي الدولة العظمى، هزيمة عسكرية… لكن ثمة مسائل جوهرية لا تحسمها القوة العسكرية بالغة ما بلغت من الكفاءة والقدرات.
“وقلت له أخيراً إننا لم نكن نتوهم مطلقاً، حين واجهنا الوجود العسكري الأميركي، ومن ثم الأطلسي في لبنان، إننا أقوى منهم عسكرياً، ولكننا كنا ندرك أيضاً إننا أقوى منهم بأرضنا وبتاريخنا، فلبنان متصل بنا اتصالاً عضوياً لا فكاك منه يتجاوز بعمق تأثيره “الحدود الدولية” وواقع الانفصال السياسي إلى دولتين…
“وأكذر أنني قلت لبعض الموفدين الأميركيين، ممن جاءني خلال السعي لفرض اتفاق 17 أيار، ولوح بإمكان استخدام البارجة نيوجرسي، والطائرات الحربية الحديثة:
-لقد سمعت الكثير عن هذه البارجة ومدافعها الأسطورية، قيل لي أن عرض فوهة المدفع يصل إلى ألف ملم وإن زنة القذيفة الواحدة من قذائفها تصل إلى ألف كلغ.. وإننا متشوقون لأن نعرف فعل هذه القذائف المدهشة!! ففي علمنا أن القذيفة ومهما كانت زنتها لا بد ستسقط على الأض، وإنها تحدث في الأرض حفرة تختلف بعمقها بحسب قوة القذيفة.. لكنها لا تنسف وجود الأرض ولا تزلزلها، ولا يمكن أن تفصل لبنان عن سوريا، فالأرض هي الباقية، ونحن باقون فوقها، أما الآتي من البعيد فمآله أن يعود من حيث أتى، ولا يبقى في الأرض إلا أهلها..
غامت صورة لبنان القديم في ذاكرة حافظ الأسد وإن بقيت تختزنها للمقارنة وللاستشهاد بعورات نظامه ومباذل أهله حين تدعو الضرورة،
وقد لا يكون “لبنان ما بعد الطائف” تماماً على الصورة التي أرادها أو عمل على استيلادها حافظ الأسد، خصوصاً متى نظر إليها عبر رموز “نظامه الجديد” بمباذلهم هم أيضاً التي لا تقل عن مباذل أسلافهم، ولكنه واثق من القدرة على تطويع هذا النظام وتقويم ما أعوج من سلوك أهله.
لقد استطون النظام اللبناني، أخيراً، هذه الصالة البسيطة الأثاث الملحقة بمكتب حافظ الأسد في دمشقن وبات بإمكانه أن يكيف استخداماته، وأن يعطي من نعمه، أو يحرم، من يكابر فيرفض ويدفعه جهله بالتحولات إلى “التمرد” والتصرف بمنطق النظام القديم الذي مات وشبع موتاً.
وفي ذهن حافظ الأسد تصور واضح للبنان ما بعد الطائف ووظيفته ودوره داخلياً وعربياً ودولياً،
ولقد عارك بضراوة واصطدم مع العديد من القوى حتى كيف هذا النظام وقربه إلى أقصى حد ممكن من تصوره الذي تمتزج فيه طموحات الوطنية السورية القديمة مع الفهم الموضوعي لطبيعة المرحلة الراهنة، مع الوعي بالشروط القاسية للطور الجديد من أطوار الصراع العربي – الإسرائيلي في ظل الأوضاع العربية البائسة والسائد فيها منطق التردي والتنازل والانحراف بما يشكل خطراً على جوهر القضية.
ضمن هذا التصور ثمة مواقف محددة تماماً من الطوائف والطائفية، من الإقطاع السياسي القديم ومنطق التبعية المطلقة للغرب، من قيادات جيل الحرب وموقعها على خريطة الحياة السياسية، من التقدم الاجتماعي والتخلف كمؤسسة يسهل توظيفها لاستيلاد أنماط من “الأصولية” المدمرة تحت ستار الدين والدين منها براء.
وضمن هذا التصور فإن الطائفية تغدو معطلاً للديموقراطية بقدر ما هي تضرب العدالة الاجتماعية وتعطلها حتى في أوساط المنتمين إلى الطائفة المعنية والمدفوعين إلى القتال ضد مطامحهم ومصالحهم المباشرة.
وضمن هذا التصور ثمة رصد دقيق للمحاولات الإسرائيلية المكررة لاختراق النسيج الاجتماعي في لبنان، مع استعادة لتجربة المصريين مع معاهدة الصلح المنفرد الذي قهر بها السادات بلاده، وهو رصد ينتهي بحديث مستفيض عن ضرورة تحصين البلاد والناس لمواجهة احتمالات السلام الذي قد تجيء به المفاوضات..
ولأنه تصور شامل تتداخل فيه المواقف المبدئية بضروراتفهم الواقع والتعامل معه، فلا بد له من حديث خاص، فإلى الغد.

Exit mobile version