طلال سلمان

على الطريق لبنان خارج الملجأ!

لعل مما يرضي غرور الجنرال عون أن يبدو في صورة من يواجه العالم كله، بغربه وشرقه وسائر الجهات، من الملجأ الحصين في الطابق الثالث تحت أرض القصر الجمهوري ببعبدا،
فمن يقاتل العالم، أو يقاتله العالم، ليس أقل قوة ممن يواليه العالم كله أو يسلمه قياده وقيادته وحق الإمرة فيه،
والجنرال عون لا يخجل من الاعلان، في كل مناسبة، إنه وحيد بلا صديق أو شريك أو حليف، لا يقف خلفه داعماً إلا النظام العراقي “الشقيق” و”الشريف”!
بل لعل أكثر ما يسعد الجنرال ويملأه بالزهو إنه فريد عصره لا مثيل له ولا نظير، لا نصير له ولا مريد، ككل العظماء الذين صنعوا التاريخ!
ولقد قدّم الجنرال عون موعد “رسالته السنوية” إلى الشعب يوماً حتى يستبق وصول موفد مشروع الحل العربي الأخضر الإبراهيمي إلى بيروت، بإعلان مواقف نافرة ونابية من القرار الذي جاء لتنفيذه باسم اللجنة العربية الثلاثية، المنبثقة عن القمة العربية في الدار البيضاء والتي تحظى بدعم العالم كله، والتي ثبت – بالدليل الحسي – إن لا بديل عنها ولا شيء بعدها غير الخريف الذي يسبق ثلج الموت!
في أي حال يمكن القول، بغير خوف من الزلل والخطل، إن الجنرال عون ضرب الرقم القياسي في استقطاب عداوة جميع الناس، في الداخل والخارج، ومن كل الأجناس والأعراق ، خلال أقل من عام واحد،
من أين نبدأ؟
من مصدر “شرعيته”، في ليلة الكونياك الشهيرة، أمين الجميل؟
أم من مصدر “قوته” التمثيلية لجمهور معين ضمن فئة معينة، أي “القوات اللبنانية”؟!
ليس ضرورياً التذكير بأن الدم قد حكم هذه العلاقة مع مصدر “الشرعية”، وبعد أيام فقط من وراثتها، ثم مع مصدر “القوة التمثيلية” وبعد خمسة شهور فقط من الشراكة المزعومة تحت لافتة “حكومة استقلال وأكثر”!
أما المراجع الروحية للطوائف المسيحية، وعلى رأسها البطريرك الماروني نصر الله صفير، فقد قاطعها وحاول محاصرتها وتعطيل دورها التوفيقي وسلط عليها الرعاع ينتهكون حرمة المقام والرمز بالكلمة البذيئة والحركة الأشد بذاءة،
وأما النواب فقد صنفهم خونة وعملاء، وحين أخذته بهم الرأفة اعتبرهم من أبناء الماضي، وأسقط عنهم شرعيتهم، إذ لا وسيط ولا توسط – في نظره – بين “القائد” والشعب، ولا شرعية لغيره من اللبنانيين أشخاصاً ومؤسسات!
الطريف هنا إن الجنرال ينسى إن شرعيته المدعاة مستمدة من شرعية منحها هؤلاء النواب أنفسهم لسلفه الصالح أمين الجميل، فإن كانت شرعيتهم هو موضع طعن فكيف بشرعية وكيل الوكيل؟!
من أيضاً؟!
الجيش؟!
لقد تسبب في انشطاره، أولاً، وها هو يكمل “النضال” من أجل اندثاره،
يكفي إن ألوية الجيش الواحد تواجه بعضها البعض وشعبها بالسلاح، وإن دور “المؤسسة” الوطني معطل، إذ باتت طرفاً في الحرب الأهلية ومشكلة خطيرة قائمة بذاتها وليست عنصراً من عناصر الحل… المرتجى،
ونصل إلى المؤسسات الأخرى، المدنية، أي السياسية من أحزاب وتنظيمات وهيئات وصولاً إلى الجمعيات الخيرية ولجان الأحياء وتنظيم النسل (وهي مسألة تشغل بال الجنرال مثلها مثل التربية البدنية)…
ليس بين المواقف المعلنة والمعروفة لعموم هذه المؤسسات الشعبية ما يشي بإعجابها بالجنرال وبانخراطها تحت لواء شعاره المقدس : حرب التحرير،
إن بعضها في مناطق هيمنة الجنرال، يداريه فينافقه في بعض المناسبات، أو يجامله لفظاً ليتقي شر جماعاته المسلحة “النظامية”،
وبعضها قد يزايد عليه في العداء لسوريا وسائر العرب،
وبعضها يحرضه ليدفعه إلى مزيد من التورط والإيغال في الخطأ والخطيئة.
لكنها بمجملها بعيدة عنه، ولعلها لن تجد مكاناً إذا هي حاولت التقرب أو الاقتراب، فهو “القائد” والشعب كتلة متماسكة من خلفه، كالقطيع المرصوص، وتكفي “الشعبة الثانية” لتنظيم التعبير عن الولاء فلماذا تقسيم الشعب أحزاباً وشيعاً واتجاهات متناحرة تسيء إلى وحدته ولا تحسن أو ترفع من مستوى تعبيره عن ولائه لقائده الملهم؟!
أما أكثرية اللبنانيين ممن شاء لهم حظهم أن يكونوا خارج منطقة هيمنة الجنرال فليسوا معيين أصلاً بخطابه السياسي، إذ هم مغلوبون على أمرهم ومقهورون ومعطلو الإرادة بضغط الاحتلال السوري، ولو إنهم استطاعوا الكلام لهتفوا بحياة ميشال عون وظلوا يهتفون إلى يوم القيامة،
إذن، فهم خارج حساب الجنرال، ولا يهم بالتالي أن يكونوا معه أو ضده، إذ إنهم لا شيء،
نجيء بعد ذلك ، إلى الدول،
إن قمة الدار البيضاء ، بكل الملوك والرؤساء والأمراء والشيوخ العرب الذين شاركوا في أعمالها لم يعترفوا بميشال عون حتى كرئيس حكومة انتقالية، ولا هم اتصلوا به أو تعاملوا معه أو راسلوه (علناً على الأقل).. ومن فعلها كان واضحاً في تحديده لفهمه لموقع ميشال عون: إنه طرف في الأزمة وليس رئيساً، مثله مثل قادة الميليشيات والعصابات المسلحة التي تقتسم النفوذ والمغانم في مختلف مناطق لبنان،
ومنذ تشكيل اللجنة الثلاثية العربية وحتى الساعة لم يصدر عنها ما يخالف هذا التوصيف فميشال عون طرف في الصراع، لا هو بمرجع ولا بمصدر للشرعية.
وحتى حين اختلفت اللجنة العربية الثلاثية مع سوريا حول بعض المفاهيم، كالسيادة والعلاقات المميزة، لم يتبدل موقفها من ميشال عون ولم يتغير .. فالمسألة تتصل بمستقبل لبنان، بلبنان ما بعد الحرب، وليس بالحروب اللبنانية المتعددة التي توجتها حرب الجنرال التحريرية.
أما الدول الأجنبية فقد حددت ومنذ اللحظة الأولى موقفاً التزمت به التزاماً مطلقاً في لبنان انقسام شامل من قمة السلطة حتى أدنى مستوى، إذن فنحن نتعامل مع الأطراف جميعاً باعتبارها “قوى أمر واقع” أو “مراجع أمر واقع” وليس باعتبار أي منها، ولاسيما الجنرال، السلطة الشرعية للجمهورية اللبنانية بكيانها الخالد ونظامها الفريد،
من كان لها سفير في بيروت تصرف على أساس الأمر الواقع زيارة لهنا مقابل زيارة لهناك، وبين الموعدين زيارات لمراجع الأمر الواقع الأخرى، روحية وسياسية وميليشياوية، ومكاتب هنا تقابلها وتكملها مكاتب هناك الخ.
ومن لم يكن لها سفير واضطرت إلى تعيين سفير جديد أوصته بالتزام أقصى الحذر نسخة من أوراق الاعتماد للخارجية هنا، ونسخة للخارجية هناك، في انتظار “الرئيس” الذي “سوف” يجيء ليكون المرجع والرمز ومجسد الشرعية المهيضة الجناح الآن،
على إن هذا الموقف “القديم” قد تطور هو الآخر بفعل الأحداث وبفعل التصرفات العاقلة والمدروسة التي صدرت عن الجنرال الحكيم،
وهكذا رأينا كبريات الدول تنتقل من الحياد المنضبط إلى المواجهة العلنية مع الجنرال،
ورأينا السفراء الذين يحترفون في العادة الصمت، فإذا اضطروا إلى القول همسوا بكلمات تومئ ولا تفصح، وتوحي ولا تبين، يعقدون المؤتمرات الصحافية ويطلقون التصريحات في ذكر محاسن الجنرال عون ومآثره في تطوير العلاقات الدولية.
وحين اضطر سفير الولايات المتحدة الأميركية في لبنان إلى الخروج من بيروت هارباً من “حب” الجنرال ومن “حمايته” المطمئنة ، جهر في واشنطن بما كان يسره في أذن الجنرال من نصائح وتوصيات لا موجب في العادة لأن توجه إلى عاقل، ولا يسمح العرف بأن يقولها سفير أجنبي “لقائد” فريد في بابه منحته الأقدار لشعب عريق كالشعب اللبناني،
وزيادة في التوكيد والاعادة، وفي الاعادة إفادة، لجأ السفير الأميركي في دمشق إلى إعلان ما لا يعلن عادة، إذ لا حاجة لإعلانه لشدة وضوحه، فكرر ما قاله قبل عام بالضبط في بيروت ذلك الموفد الأميركي الشهير ريتشارد مورفي الذي دخل التاريخ من باب الحرب الأهلية اللبنانية، ومفاده إن اللبنانيين سيدفعون ثمن فشل اللجنة الثلاثية إذا فشلت،
أي إننا مهددون بالفوضى القاتلة، مرة أخرى،
بعد كل ما دفع اللبنانيون على امتداد “عام الجنرال”!
أتستحق الجنرال، بل وكل جنرالات الأرض أن يسحق شعب وأن يدمر بلد من أجل أن يستمتع سعادته بالإقامة في ملجأ القصر الجمهوري بينما اللبنانيون لا يجدون ملجأ أو مغيثاً أو مأوى يقيهم شر الموت فزعاً وجوعاً وبرداً إذا ما نجحوا في الهرب من القصف والقنص وما بينهما؟!
ثم ماذا عن المستقبل؟!
لقد تحققت “نبوءة” مورفي، ربما بأكثر مما توقع صاحبها، فهل نظل جامدين ونحن نستمع إلى إعادة لها الآن على لسان جيرجيان، ومن دمشق؟!
إن قرار اللجنة العربية هو المدخل إلى الإنقاذ،
وهو تجسيد لإرادة عربية ودولية شاملة بالعمل على إخراج لبنان من غياهب الحرب الأهلية إلى “السلام الوطني”،
فهل نضحي بهذا كله من أجل الاحتفاظ بجنرال لم يحفظ من اللبنانيين إلا أقلهم ومن لبنان إلا ما يجعله متحفاً فريداً للحروب الأهلية بصور الدمار والخراب والبؤس فيه؟!
ليس بين اللبنانيين من يريد الاستمرار في الحرب إلا إذا جاء بالحرب ولا يبقى إلا الحرب،
وليس أعظم من اللبنانيين شوقاً إلى السلام ، إلى الأمان، إلى المدرسة والبيت الدافئ والمكتب والمتجر والمصنع، إلى الحب والورد وأشياء الحياة الجميلة،
وليس بين اللبنانيين من يخاصم اللجنة العربية الثلاثية ومن يريد لها الفشل إلا عدو لبنان واللبنانيين والعرب أجمعين في حاضرهم وفي غدهم،
وليس في العالم قوة تتأذى أو تتضرر من نجاح اللجنة العربية في مهمتها، خصوصاً وإنها محددة ومحدودة ولن تؤثر إلا بقدر محسوب على السياق العام للجهود التي تستهدف تسوية ما يسمى – مجازاً – بأزمة الشرق الأوسط،
وليس خياراً عادلاً أو مقبولاً أن يكون لبنان في كفة، ومعه العرب والعالم، مقابل الجنرال في الكفة الأخرى، ثم يحار الخبراء في كيفية إنجاز المهمة الجليلة.
فلتقدم اللجنة، ولتتقدم ، فالمستقبل لا يختبئ في ملجأ القصر الجمهوري ببعبدا، بل هو بعض الماضي البغيض الذي يعشش هناك
وبين مهمات هذه اللجنة الكريمة أن تساعدنا للخروج من ذلك الماضي إلى فجر الرجاء والأمل والوفاق الوطني والدور القومي المفتقد والضروري والمطلوب.

Exit mobile version