طلال سلمان

على الطريق لبنان الرسمي في مواجهة الأسئلة الصعبة

وحده معمر القذافي من بين مجموع القادة العرب المتصدرين واجهة المسؤولية بالوراثة أو بالاكتساب، بالانقلاب أو بالاغتصاب أو بالجدارة، وهؤلاء هم الاستثناء والقلة القليلة، كان يستطيع أن يقول دفعة واحدة كل ما قاله عن الوضع العربي عموماً وعن لبنان ومسألته خاصة في خطابه ليلة 14 ايار بطرابلس خلال الاحتفال بالذكرى الثالثة والثلاثين لضياع فلسطين وإقامة دولة الكيان الصهيوني فوق أرضها العربية.
وحده معمر القذافي يستطيع أن يقول مثل ما قاله لأنه وحده فعل حقيقة ما تحدث عنه أو تعهد به سواء للبنان الوطني “وحتى لبنان الرسمي” وللمقاومة الفلسطينية التي كانت حاضرة بقياداتها جميعاً أو لسوريا التي يعيش قائد ثورة الفاتح همومها بل ويحمل هذه الهموم معه حيثما ذهب كما تم خلال زيارته الأخيرة للاتحاد السوفياتي.
والذي قاله معمر القذافي حول لبنان يمكن اعتباره إعادة لطرح المسألة بأساسياتها بدلاً من الغرق والضياع عبر تفاصيلها ويومياتها المعقدة المرتبكة والمربكة والتي تجعل الناس يقتربون من حافة اليأس ويقنطون من إمكان فهم حقيقة ما يجري فوق تلك الساحة الصغيرة الملتهبة باستمرار.
لقد رأى معمر القذافي وأعلن تلك الحقيقة البسيطة التي يرفض الكثيرون من الحكام العرب أن يروها ليظل بإمكانهم بالتالي أن يتهربوا من تحمل مسؤولياتهم إزاءها والحقيقة هي:
إن لبنان أرض محتلة فالعدو الإسرائيلي يكاد يتحكم الآن بأقدار لبنان أرضاَ وشعباً.
إن أسماء لبنان مفتوحة بلا حواجز لطيران العدو وشطآن الساحل اللبناني تحت “رحمة” مدمرات العدو وزوارقه الحربية.
وأرض لبنان مستباحة، بالمدن والقرى والدساكر فيها، لقواته البرية تدخله حيث شاءت ومتى شاءت ولأي سبب ترتئيه.
ثم إن إرادة لبنان مقهورة ومخضعة للقرار الإسرائيلي.
على هذا فلا بد من خيار محدد.. أما الاستسلام لهذا الواقع والتعاطي مع المسألة اللبنانية في ضوء منطق الاستسلام الكامل لإرادة العدو وهذا ما تفعله الأكثرية الساحقة من الحكام العرب، وأما التصدي لهذا الواقع ومحاولة تغييره بقوة السلاح سعياً وراء تحرير الإرادة الوطنية في لبنان ومن ثم تمكين المقاومة الفلسطينية من مواصلة نضالها لتحرير أرضها المغتصبة.
وفي ظل منطق الاستسلام يتم تغييب العدو الإسرائيلي عن صورة المسألة اللبنانية، فتغدو خلافاً سياسياً بين فئات متناحرة أو صراعاً بين طوائف متنازعة على نصيب كل منها في الجنة أو عراكاً بين الإقليمية اللبنانية – التي تتخذ هنا طابعاً طائفياً فتصير هي المسيحية – والإقلمية الفلسطينية التي تصير مرادفاً للإسلام والمسلمين – وبطبيعة الحال يصبح فهم المسألة متعذراً على المعنيين بها المحترقين بنارها فكيف بالبعيدين عن الساحة وحقائقها الثابتة.
وفي ظل منطق الاستسلام تصبح مطالبة إسرائيل بطرد المقاومة الفلسطينية من جنوب لبنان منطقية وإلى حد ما مشروعة من حيث الشكل إذ هي تستمد مشروعيتها من صمت المدافع والبنادق في بقية الجبهات مع العدو ومن المناخ الساداتي السائد في المنطقة برمتها والذي يراوح بين القبول باطلبعة القديمة لكامب ديفيد ومعاهدة الصلح المنفرد او المطالبة بطبعة جديدة منقحة ومزيدة تكون خاصة بالمتطرفين من عرب أميركا.
وطبيعي أن تفقس الإقليمية والطائفية والعصبوية شبه العنصرية وأن تفرخ في ظل مناخ من هذا النوع، فإذا الفلسطيني غريب ومخرب وإرهابي وإذا الإسرائيلي المتحضر يتدخل لتأديبه وفرض الأمن والقانون والاستقرار والازدهار، متوقعاً من لبنان الرسمي أن يشكره على هذه الخدمة الجليلة!
كذلك يصبح الوجود العسكري السوري في لبنان – حتى ذاك الآتي تحقيقاً لرغبة الشرعية فيه وبناء على طلبها وتأمينها لحمايتها واستمراريتها – خطراً على السلام في الشرق الأوسط هذا وهو من دون شبكة دفاع جوي فكيف إذا استظلت قواته بشبكة من صواريخ سام الملحدة والهدامة؟
وهكذا أعاد معمر القذافي طرح المسألة اللبنانية بأساسياتها عبر مواقف محددة:
1 – توجه إلى الدولة اللبنانية بأسئلة مباشرة أولها: هل هي راضية بالاحتلال الإسرائيلي. وقبل، هل تعتبر تدخل العدو الإسرائيلي اليومي (في البر والبحر والجو) احتلالاً أم لا؟
فإذا كانت تعتبره احتلالاً فهل هي مستعدة لمواجهته باللغة الوحيدة المناسبة أي بقوة السلاح؟
وإذا كان ينقصها السلاح ولاسيما السلاح الفعال متمثلاً بشبكة الدفاع الجوي، وهو ينقصها بالتأكيد، فهل هي مستعدة لأن تأخذه من طرف عربي.. بلا قيد أو شرط وبالمجان!
لقد سبق للجماهيرية العربية الليبية إن عرضت على لبنان الرسمي منذ ثلاث سنوات أن تنشئ له شبكة للدفاع الجوي تغطي الجنوب بكامله فاعتذر لبنان الرسمي عن القبول.
ثم جددت الجماهيرية عرضها قبل أيام قليلة فلم تلق غير الرفض المهذب المستند إلى الاعتذار بضعف لبنان وعجزه عن مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية الرهيبة.
وبالطبع نسي لبنان الرسمي هذه المرة أيضاً كما عبر سنوات بين 1948 و1981 أن اعتذاره بضعفه لا يحميه من العدو الإسرائيلي وإنه يواجه فعلياً آلة الحرب هذه مع عدم رغبته في شرق هذه الكأس، وأن الأفضل له لو أنه واجهها بشيء من الاستعداد بدل أن يسقط أبناؤه في الجنوب ضحايا محرومين من شرف الاستشهاد كمقاتلين.
2 – وتوجه معمر القذافي إلى الدولة اللبنانية يسألها عن موقفها من قوات الردع العربية أي القوات السورية المتواجدة فوق أرضها.
فهذه الدولة التي تسكت حتى لا نستخدم تعبيراً آخر – على الإغارات الإسرائيلية اليومية على أراضيها وشطآنها وفي سمائها لم تقف الموقف الحازم الضروري لتغطية وجود الصواريخ السورية بالشرعية الدولية التي يملكها لبنان الرسمي بعد ولو حتى إشعار آخر…
لقد تصرف لبنان الرسمي حتى هذه اللحظة وكأنه شاهد زور في موضوع الصواريخ، حتى لقد بدا وكأنه يقبل بأن تسقط الطائرات الحربية الإسرائيلية طائرات تموين عامودية تابعة لقوات الردع العربية (قوات الشرعية) ويرفض في الوقت نفسه أن تحمي قواته الشرعية نفسها بشبكة صواريخ يؤدي نصبها واستكمال بنائها إلى حماية الجنوب بل وإلى جعل سماء لبنان كله محرمة على طيران العدو وهذا هو المنطقي والطبيعي بل والبديهي..
لقد حدد معمر القذافي المسألة بدقة أمام لبنان الرسمي:
من حق لبنان أن يطلب النجدة القومية وأن يحصل عليها فور طلبها بشرط أن يسلك السلوك القومي المطلوب فإذا كانت مساعدته مسؤولية قومية فإن واجبه أن يلتزم بموجبات الأمن القومي. بمعنى آخر، إن على العرب أن يكونوا مع لبنان بقدر ما يكون هو مع نفسه ومع قضيته التي لا يمكن أن تكون لا اليوم ولا غداً إلا قضية قومية.
وطالما أن المعركة في لبنان من طبيعة قومية طرفها الآخر العدو الإسرائيلي فإن سلاحها قومي بالضرورة وجيشها قومي بالضرورة. وهكذا ينتظم في الخندق الواحد اللبناني مع الفدائي الفلسطيني مع الجندي السوري مع المقاتل أو السلاح العربي من أي قطر أتى..
وعلى هذا فالجماهيرية كما أعلن معمر القذافي مستعدة لمساعدة لبنان بكل ما يطلبه.. بجيشها، بصواريخها، بالمتطوعين من أبنائها وبإمكاناتها كافة.. أما إذا رفض لبنان الرسمي فهي ستتجه بالمساعدة إلى المستعد للقتال من أبنائه ومن سائر العرب المتواجدين فوق أرضه أو المستعدين للقدوم إليها.
وكتوكيد على استعداد الجماهيرية المطلق وجديتها في دخول المعركة والمشاركة في تحمل تبعاتها كافة فقد وجد معمر القذافي الفرصة مناسبة لإعلان حقيقة ثانية لا تقل في أهميتها عن إعادة المسألة اللبنانية إلى أساسياتها. لقد أعلن في حضور ياسر عرفات ورفاقه من قادة المقاومة أن لا أزمة بين ليبيا وبين قيادة “فتح” خاصة أو قيادة المقاومة الفلسطينية بشكل عام، وإنه ليست هناك إمكانية لإيجاد أي تناقض بين قيادة ثورة الفاتح وقيادة الثورة الفلسطينية. في لبنان إذن معركة واحدة ضد عدو واحد هو العدو الإسرائيلي ومن معه من قوى داخلية محلية ورجعية عربية ودائماً في ظل مشروع الهيمنة الأميركية..
ومطلوب من لبنان أولاً أن يحدد موقعه وموقفه في هذه المعركة، فموقف لبنان هو الكاشف وهو المحك العملي.
أما إذا ظل موقف لبنان مائعاً متردداً متخاذلاً كما هو الآن فسيظل بإمكان الهاربين من الساحة أن يغطوا انهزاميتهم واستعدادهم للاستسلام بعجز لبنان عن المواجهة وخصوصية وضعه التي تتطلب مراعاة تصل حد أن تنكر عروبته.
وفي كل الحالات لن يحمي لبنان ضعفه ولا تخاذل المتخاذلين من العرب ولا هو سيكون حتى في قائمة الشهداء..
والكلمة بعد للدولة في لبنان.
ولعلها تقول مرة كلمة تكون دعوة إلى الحياة ولو عبر مواجهة الموت بدل أن تظل منهمكة في أعداد المراثي لوطن تتساقط أجزاؤه وتندثر بغير مشيعين.

Exit mobile version