طلال سلمان

على الطريق لبنان الأخضر ومهمته المستحيلة…

أعلن الله الأخضر الإبراهيمي ونفخ فيه من روحه وأمده بالصبر والجلد وطول الاناة، ومنحه عقلاً فوق عقله ليتمكن من استيعاب عجائب “الأمم” اللبنانية المتناثرة فوق هذا الأرخبيل من الجزر المتعددة الأشكال والألوان والأسماء والانتماءات و”الخصائص” المميزة.
فلبنان الحرب الأهلية، قارات متباعدة لا رابط بين سكانها إلا الذكريات والأحلام و.. الخوات التي تفرضها الميليشيات، وإلا الذعر المشترك من احتمالات تجدد القصف، وكذلك من المصير المجهول والمستقبل الغامض الذي صار الآن – وحتى إشعار آخر – بعهدة اللجنة العربية الثلاثية و”فدائيها” الأخضر الإبراهيمي.
وها لبنان الحرب الأهلية يحبس أنفاسه منذ ثلاثة أيام طويلة في انتظار أن يسمع الناس كلمة تطمئنهم إلى أن “استراحة المحارب” قد دخلت حيز التنفيذ ولو إلى حين، وإنهم سيشنفون أذانهم أخيراً بالهدير المطرب لطيران الشرق الأوسط بدلاً من ذلك الأزيز المرعب الذي يحملهم على جناحه إلى دنيا الموت ثم يعيدهم منها دوي الانفجار ا لبعيد فيطمئنون إلى أن غيرهم من مات،
وإنها لمتعة نادرة يمارسها “الجنرال” بتلذذ، فيعذب الناس ويلوعهم قبل أن ينطق بدرر الكلام معطياً الأذن للحياة بأن تستمر وللأرض بأن تكمل دورانها حول الشمس بلا وجل.
من قبل أوقف يوشع بن نون الشمس ومنعها من أن تغرب لكي ينجز انتصاره، وها هو “الجنرال” يفرض نفسه على العالم باعتباره مصدر الحياة والموت، فيأتيه الكبراء والسفراء وأعيان المشارق والمغارب يرجونه ويستعطفونه فيصرفهم عنه بغير أن يقول “نعم” أو “لا” فتجمد حركتهم ويقبعون معلقين في سماء الخوف حتى يقول قوله الفصل فتكون حرب أو يكون سلام، وسبحان المانح المانع يحيي من يشاء ويميت من يشاء وهو الواحد القهار!
لبنان 1989، يا سي الأخضر، وهو ما ترى عينك مما يوجع قلبك، وما تسمع أذنك فيضطرب وجدانك ويهزك القلق على مستقبل الأمة جمعاء من محيطها إلى الخليج،
لبنان الحرب الأهلية هو كبد الأمة المعتل، واعتلاله دليل سقمها وافتقادها العافية،
أين بيروت من هذه الأشلاء التي يتناتشها المسلحون الذين لم يعرفوا مجدها ولم تضيء عقولهم أنوارها التي كانت تشع فتملأ دنيا العرب وهجاً ومعرفة بالعصر؟!
أين بيروت من بيروت؟! فبين “الغربية” و”الشرقي” وبين الضواحي – حزام البؤس هنا، والضواحي مراتع العز هناك، وندت أخطر العواصم العربية وأقربها من المثال معقد الرجاء.
أين الشمال من الشمال؟! أين ساحله من جبله؟! أين طرابلس من الميناء، وأين شكا من الهري، وأين البترون من المدفون قبل أن نصل إلى المدفن الوطني في البربارة؟!
أين الجنوب من الجنوب؟! أين الأولي من صيدا، وصيدا من الغازية، وأين عبرا من جزين، واين شرقي صيدا من غربيها؟! وأين الجنوب الثاني من الجنوب الثالث (داخل الشريط)، وأين صور من النبطية، وأين تبنين من بنت جبيل، وأين الجنوبات جميعاً من عاصمة كل الجنوب “القديم”؟!
أين الجبل الشوفي من الجبل المتني، وأين جرود كسروان من جرود بلاد جبيل، وأين عيون السيمان من تلال الورق والغرفة الفرنسية من بسكنتا في حضن صنين؟!
أين كفرشيما من الشويفات، وأين عين الرمانة من الشياح، وأين المرفأ من باب ادريس ودرج خان البيض وساحة “عالسور”، واين الشهداء في تلك الساحة التي ذهب برجها ثم ذهب “أهلها” فانتثروا في مختلف أنحاء “العالم” اللبناني الذي صار الأشهر في الدنيا بالأسماء الصعبة والغريبة لمدنه وقراه ودساكره والمزارع، بالأحياء فيها والجهات والشوارع والأزقة والزواريب حتى لا ننسى الوتوات وحي اللجا.. لقد كانت مهاجع للأمنين من الناس فصارت خطوط فصل وتماس بالسلاح بين الأخوة – الأعداء!
أما البقاع فقد سقط من الذاكرة، ولم يبق منه إلا الطريق إلى دمشق ومنها!
صارت بيروت أميرة للحزن العربي، وصارت جنباتها مزقاً من الأبنية والعمارات المتهدمة والبيوت المبقورة الجدران والسقوف والدكاكين المحروقة بعد النهب المنظم والموزع “بعدالة” على شبكة اللصوص المتعددة الانتماءات السياسية والموحدة في أهدافها الخيرية،
وصار سكانها، الأصليون والوافدون أو الطارئون، كما كان يسميهم بعض المتاجرين باسم بيروت من المتنكرين لتاريخها والمتآمرين على دورها.. صاروا جميعاً من المهجرين الهائمين على وجوههم والباحثين عن سقف يأويهم بأي ثمن وتحت أية صفة مثل “الطارئين” أو أقسى،
أما اللبنانيون ففي كل واد يهيمون… انتشروا في الكون فملأوه عن اخره: من أقصى بحر الشمال إلى آخر جزيرة ضائعة في المحيط الهندي، ومن أوقيانيا إلى جنوب أفريقيا، ومن الصين واليابان إلى أصغر قرية من قرى الهنود الحمر على ضفاف الأمازون في قلب أميركا اللاتينية،
كل من استطاع إلى السفر سبيلاً غادر بحسب التأشيرة التي “منحت” له بعد شفاعة مذلة أو بفعل رشوة دسمة وبالنقد النادر،
والمهاجر والمغتربات و”المنافي” مراتب ومستويات ودرجات: الأغنى في العواصم الأقرب والأغلى والأكثر تحضراً، والأفقر في الأبعد في المكان والزمان عن لبنان الذي كان في سالف العصر والأوان،
… حتى لتحسب إن اللبنانيين يعدون عشرات الملايين أو قد يصلون إلى المئة مليون نسمة (!!) إذ لا تخلو منهم بقعة معروفة من مصايف العظماء ومشاتي النبلاء أو مجهولة لا يصلها إلا الشريد الطريد في هذا الكون الفسيح،
مع ذلك فقد بقي في لبنان ملايين الملايين من الأقوام والشعوب والطوائف والمذاهب والملل والنحل والمنظمات والأحزاب والهيئات والميليشيات، يواصلون الاختلاف والاقتتال والاستنجاد بالعرب وبالأعاجم، باليهود وبالصليبيين، ويفرحون كلما حققت قضيتهم مزيداً من التقدم نحو… التدويل!
فاللبنانيون يعانون من ضعف خاص تجاه الدول وكل ما اتصل بها،
ثم إنهم “دوليون” بحكم النشأة والتربية والمصلحة، ويتباهون بكونهم لم يعرفوا بالتعصب لأرض أو هوية أو للغة الأم!
على إن هذا ليس هو موضوع الحديث، ياسي الأخضر،
الموضوع نجاحك في مهمتك المستحيلة، وهو نجاح لا غنى عنه ولا بديل إلا الموت والمزيد من الموت، وإلا الانهيار والمزيد من الانهيار واليأس والسقوط والتردي داخل لبنان وخارجه على اتساع الوطن العربي الكبير،
هذه مهمة ليس الفشل هو نقيض النجاح فيها، بل إن الفشل هو إعلان وفاة للجهد العربي المعزز بدعم دولي قل نظيره، تماماً بقدر ما هو النجاح مبعث أمل في قدرة القيادة العربية، وعلى مستوى القمة، في إنجاز ما ليس من إنجازه بد.
والكل يعرف، في الداخل والخارج، إنك تعرف طبيعة مهمتك المستحيلة، ومع ذلك فهو يأملون خيراً، أما لشدة إيمانهم (!!) بأن من يتفاءل بالخير يجده، وإما لتفاؤلهم باسمك الآتي من خارج دهر اليباس الذي يثقل علينا بكلكله!
يعرفون أكثر مما صرت تعرف، وهو كثير في أي حال،
فأنت، على سبيل المثال، تعرف الآن إنهم – في “الشرقية” – يفتقدون قرار الوحدة،
تعرف بالمقابل، إنهم – في “الغربية” يفتقدون وحدة القرار،
في “الشرقية” تضامن حتى على الخطأ، تحت شعار حماية الامتيازات (أو الضمانات) واحتكار مواقع السلطة، بدءاً بالرئاسة التي أضفوا عليها قداسة مبتذلة وصنموا شاغلها – بالأصالة أو بالوكالة – حتى لو كان لصاً أو قاتلاً محترفاً أو طاغية يأمر بتدمير بيت أبيه ثم يفرغ زجاجة من الخمر معززة ببضعة أقراص مورفين وينام ملء جفنيه،
وفي “الغربية” وملحقاتها (!!) افتقاد للتضامن حتى على الصح، واختلافات غير مبررة بين “المحرومين” و”المغبونين” تبقي الحكم غنيمة للقادر على أخذه بمبرر الخوف من خطر اجتياح الخارج (العربي) أو اضطهاد الداخل الشبق إلى اصطياد السلطة بفخ الطائفية ذاته،
وتعرف، على سبيل المثال، إن “الشرقية” شرقيات، لكن القرار للأقوى سلاحاً، والأقوى سلاحاً هو الأعظم مزايدة بحقوق الطائفة، والأقدر على الاتصال بالدول وطلب تدخلها لحمايته بوصفه رمز الطائفة وعنوان الشرعية!
كان القرار لبشير الجميل، وانتقل بالإرث إلى أمين، ثم انتقل إلى مياشل عون… وانتقلت مع القرار “الجماهير” والكنيسة والمؤسسات والشرعية، في حين ابتلعت القيادات السياية السنتها بدافع الخوف… على الامتياز والموقع الممتاز، ومعهما الخوف على البيت والسيارة والكرامة الشخصية.
وتعرف بالمقابل، إن “الغربية” غربيات فيها الإمارات والدوقيات ومصافي النفط والشركات والطرقات، وكلها مصادر للحياة والزعامة والعملة الصعبة التي تجنى أكثر ما تجنى في اليوم الأسود!!
تعرف إن في “الشرقية” متحكماً ولا حكومة، وقيادات تستمد “شرعية” وجودها من سلاحها لا من مناهجها السياسية وجماهيرها الشعبية المنظمة.
… وإن في “الغربية” رجل دولة من طراز فريد ولا دولة، وحكومة ولا وزارات لأن الأمير يصغر بالوزارة ولا يكبر، وامتع ألف مرة أن يخدمك الناس بدل أن تخدمهم…
وتعرف، أيضاً، يا سي الأخضر، إن في الغربية كما في الشرقية (وأكثر) مئات الألوف من المهجرين والمشردين والبائسين الذين يجدون، بالكاد، قوت يومهم،
وتعرف إن اللبنانيين بين الأقل تديناً في العالم وهم مع ذلك يساقون إلى المسلخ الطائفي فينحرون نحر النعاج،
وتعرف إن المسيحيين ، بأكثريتهم ، أوثق صلة بالعرب وتاريخهم في الماضي والحاضر من المسلمين الذين تعود أصول العديد منهم إلى شعوب الأمبراطوريات الإسلامية وآخرها العثمانية،
وتعرف إن الحرب الأهلية مؤسسة ضخمة تفرخ في كل يوم المزيد من المنتفعين كما من الضحايا،
وتعرف إن بين المنتعين دولاً كبرى وصغرى وبين بين،
وتعرف… حماك الله مما تعرف، يا سي الأخضر، يا الآتي من قبائل الجزائر لتحل الخلافات الدموية الحادة بين القبائل الدولية في لبنان العربي!
ليعم الصمت، الآن، في انتظار كلمة الجنرال،
لتتوقف حركة التاريخ، ولتطاطئ الدول العظمى رؤوسها خجلاً ورهبة من أن ينظرها الجنرال في عينيها،
الجنرال يصنع الآن التاريخ ويقرر مصائر الأمم والشعوب جميعاً، وفي جملة ما سيقرره مستقبل الملكين الحسن الثاني بن محمد الخامس وفهد بن عبد العزيز آل سعود والرئيس الشاذلي بن جديد،
فهل تظن في نفسك من الكفاءة ما يوازي ذرة من عبقريته وقدراته الخارقة يا سين الأخضر؟!
مع ذلك نتمنى من كل قلوبنا لك النجاح، فنجاحك وعد بالمستقبل، لنا جميعاً في لبنان، وشهادة على حيوية الأمة وهمة قياداتها بالملوك والرؤساء والأمراء ممن تضمهم اللجنة الثلاثية أو يتكوكبون حولها، وصدق الدول، لاسيما الكبرى، في وعودها وتعهداتها بالعمل من أجل إنهاء مأساة لبنان الذي كان مثلك … أخضر.

Exit mobile version