طلال سلمان

على الطريق لا عيد في مدريد!

يتعامل العربي مع مؤتمر مدريد بمنطق الدعاء الشهير: “اللهم إنا لا نسألك رد القضاء ولكن اللطف فيه”…
فالضرر حاصل حتماً، بل هو قد حصل فعلاً، لكن المحاولة الجارية الآن إنما تستهدف حصره حالياً والحد من تداعياته مستقبلاً، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الحقوق العربية التي يتهددها الضياع والاندثار سواء في فلسطين أو خارجها.
في هذا السياق لا بد من التوقف مطولاً أمام المقابلتين الممتازتين اللتين أجرتهما بعض شبكات التلفزة الأميركية مع الرئيس السوري حافظ الأسد.
لقد قدم الرئيس الأسد نموذجاً فذاً للقائد السياسي ذي الحس التاريخي ولرجل الدولة المسؤول عن مصير شعبه، وهو يجيب بهدوء مثير وبغير انفعال أو توتر محدداً ما يتوقعه من مؤتمر مدريد، وكيف سيتصرف عبره مع عدوه الإسرائيلي، في محاولة لصنع “السلام” البعيد المنال في هذه المنطقة التي تستوطن الصعب بل المستحيل.
وعبر الأجوبة الرصينة بكلماتها الدقيقة والمختارة بعناية فائقة، تسنى للرئيس السوري أن يصحح الكثير من التقديرات والتخمينات والتصورات المبسطة حول المؤتمر ونتائجه المحتملة، والتي كان البعض يفترضها الية وجاهزة كما في أي “اتفاق اذعان” مقرر سلفاً… كالقدر!
وبرغم التردي الشامل في الوضع العربي، والانسحاق تحت ضغط الهزيمة ومرارات الخيبة والإحباط، فلقد أثبتت الأسئلة، قبل الأجوبة، إن الصمود وليس التنازل هو الذي يفرض الاحترام على العدو والخصم قبل الصديق، وإن الكفاءة السياسية العالية وليس النفاق الرخيص هي التي توفر الأهلية الضرورية لمفاوضات تجري على حد السيف.
كم عرباً سيكون “العرب” في مؤتمر مدريد؟!
عل كم جبهة يتوزعون، وغلى أي حد سيتنازعون، وهل سيبيع بعضهم رأس البعض الآخر قبل صياح الدين، أم سيرتدع المتلهفون على أي حل وبأي ثمن تخوفاً من حساب ما بعد انقشاع الغبار والعودة إلى الديار… أو ما تبقى منها؟!
حسب المواقف المعلنة سيكون العرب خمسة:
*الصامد بالقرار، أي السوري، ومعه اللبناني لأسباب بحت عملية تتصل باستمرار الاحتلال الإسرائيلي للجنوب،
*والصامد بالاضرار، أي الفلسطيني، الذي يتنازعه الشعور بخطر شطبه على يد الإسرائيلي، أو خطر تهميشه على يد “شريكه” الأردني، أو الخطر الذي لا راد له إذا ما اعتبره شعبه الشريد (أو بعضه) وكأنه قد فرط بالأرض وأهلها، أو ما تبقى منها ومنهم.
*المتبرع بالتنازل عن حقوق أخوته وأمته، كهذا الآتي باسم مجلس التعاون الخليجي ليشارك في المرحلة الثالثة (المتعددة الأطراف) وسواء أكانت إسرائيل قد التزمت بمبدأ (؟!) الأرض مقابل السلام فانسحبت من الأراضي العربية المحتلة (بعضها أو كلها) أم لم تنسحب، وسواء أكانت مشاركته هذه تخدم العرب أم تلحق بهم أفدح الضرر.
*ويبقى “العربي” الرابع المتمثل بمندوب “المغاربية”، والذي أعلن أنه سيشارك بطلب من أخوته المشارقة وحيث وبالحدود التي يريدون وبما يخدم موقفهم في المفاوضات.
*أما “العربي” الخامس فهو المصري الذي يجتهد في أن لا يكون في سابقته ما يزيد من ضعف الموقف العربي العام، أو يزيد للمتلهفين إلى أي “حل” ومهما كان مهيناً، التفريط والتفرد ومحاولة استنقاذ الخاص على حساب العام.
من أسف، ليست الخلافات حالة طارئة على العرب،
فلم يذهب العرب ولا مرة موحدين إلى “التفاوض” مع عدوهم الإسرائيلي عبر تاريخ الصراع الطويل.
كانت الهزائم تفجر الخلافات في ما بينهم، فتمزق صفوفهم وتشرذمهم وترسلهم فرادى وضعفاء وعاجزين عن الرفض إلى طاولة المفاوضات سواء أكانت هدنة كما في العام 1949، في أعقاب الحرب الأولى، أم صلحاً منفرداً كالذي عقده السادات في أعقاب الحرب الرابعة، بين 1977 و1979، أي بين “الزيارة” ومعاهدة كمب ديفيد.
وكان المفاوض “العربي” يُجلب إلى الطاولة تسبقه الاتهامات بالخيانة والتفرد، ويحاصره التخوف من المحاسبة على ما يأتيه، فإذا ما انتهى منه عاش تحت ضغط هاجس التصفية مرذولاً ومنبوذاً وملعوناً إلى يوم الدين.
ولقد أكلت هزيمة الحرب الأولى معظم الملوك والرؤساء والقادة العرب الذين خاضوها سياسياً أو ميدانياً، وكان الجيش السوري الصغير والمحدود الامكانات والملتهب المشاعر هو الأسرع في التحرك، فخلع أول رئيس “للاستقلال” الذي كان بعد طري العود وغرا في فهم السياسات الدولية وتحولاتها وطارئاً على الموضوع النفطي وتأثيراته المستجدة والمهمة على خريطة التحالفات والصراعات بين المصالح الدولية في المنطقة.
بعد سنة واحدة، أو أقل قليلاً، كان رد الفعل الأول في دمشق،
بعد ثلاث سنوات، أي في العام 1951، أردت رصاصات فلسطينية عبد الله بن الحسين، أمير شرقي الأردن الذي حولته الهزيمة إلى ملك على الضفتين (إذ وُهب ما عجز عن ابتلاعه الإسرائيليون آنذاك)… وكان ذلك رد الفعل الثاني على هزيمة 1948.
بعد أربع سنوات جاء رد الفعل الأخطر في مصر بثورة تموز (يوليه) 1952 التي قام بها الضباط العائدون من ميدان فلسطين بمرارة الهزيمة التي جاءتهم من الحكم في الداخل، قبل العدو في الجبهة، وهي الثورة التي ستكتب بقيادة جمال عبد الناصر تاريخاً جديداً للمنطقة بل وللعالم كله إلى حد كبير، خصوصاً وإن تأثيراتها قد امتدت إلى أربع رياح الأرض، متسببة في إيقاظ سائر العرب والمسلمين وشعوب العالم الثالث، وفي إسقاط عصر الاستعمار القديم، وفي إعادة صيغة التوازن الدولي.
أما العراق فقد خرج من المعركة تطارد اللعنة حكامه (الهاشميين) الذي أذلوا جيشه إذ أرسلوه ثم جمدوه، فلا هو أغاث الفلسطينيين ولا هو تحرك لنصرة أخوته المصريين الذين حاصرهم الإسرائيليون في الفالوجة، ولا هو فتح جبهة ثالثة جديدة لتخفيف الضغط عن السوريين أو لإرباك العدو وتشتيت قواه.
وهكذا خرج كل حاكم عربي، آنذاك، بتهمة لحقته إلى القبر: فقصيدة عمر أبي ريشة في جميل مردم تلخص الرأي الشعبي في نظام شكري القوتلي وصحبه وتعبير “ماكو أوامر” دفع النظام الملكي في العراق حتى سقوطه بعد عشر سنوات (14 تموز 1958)، و”السلاح الفاسد” الذي قتل حامليه من أفراد الجيش المصري بدل أن يقتل أعداءهم الإسرائيليين هو ما بقي من نظام فاروق الذي كانت آخر مآثره إحراق القاهرة عشية تفرجها بالثورة التي أنهت حكم أسرته الأرناؤوطية.
أما الملك عبد الله الذي اغتيل على عتبة باب المسجد الأقصى فقد أريد من نهايته المأساوية أن تكون “عبرة لمن يعتبر” تذكيراً بالآية الكريمة “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب”.
في غضون ذلك كانت الدول العربية قد ذهبت، مضطرة، وبالتتابع على جزيرة رودس، حيث وقعت على اتفاقات الهدنة، وكان أول الموقعين ممثل النظام المصري (1949)، أما الأخير فكان ممثل النظام السوري.
ليس العيد في مدريد،
ولن يأتي العرب الذاهبون مرغمين إلى عاصمة البلاد التي حكموها أيام عزهم سبعمائة عام أو يزيد، بالهدايا والحلوى وعلب الأفراح.
إنهم يذهبون لأنهم – بتفككهم وضعفهم – قد عجزوا عن تحقيق النصر فوق أرضهم ، فلن يتبرع لهم “الآخرون” بنصر مجاني على من ألحق بهم الهزائم مراراً وتكراراً.
ولقد كان يمكن للموقف الموحد أن يحدد الخسارة وأن يحصر الضرر، وأن يوفر لقضية عادلة كفلسطين، ولقيادة كفوءة كحافظ الأسد، ولشعب عظيم بتضحياته واستعدادته للفداء كالشعب الفلسطيني، فرصة جدية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، خصوصاً وإن شلال الدماء العربية في حرب الخليج ما يزال يغطي البطاح في صحراء الذهب الأسود برغم العاصفة الأميركية الهائلة التي اجتاحتها، كما إن أسطورة الاضطهاد التاريخي للإسرائيليين قد تهاوت بعدما استنزفوا بها العالم أجمع، بالابتزاز المتصل والمصاعد مع كل طالع شمس.
ليس العيد العربي في مدريد،
ولكن بالإمكان ألا تجيء من هناك هزيمة جديدة يتسبب بها العرب قبل أعدائهم،
إنها جبهة حقيقية لحرب حقيقية هذه التي ستنفتح غداً في مدريد، لا مكان فيها “للفارين” من الجندية أو خاصة للملتحقين بصفوف العدو.
وإذا كان الضغط الأميركي مخيفاً للحكام العرب من “أصدقاء” واشنطن إلى حد التفريط بالمقدسات، فمن الضروري تذكير هؤلاء بأن واشنطن لن تنتحب فوق قبورهم غداً، إذا ما أودت بهم شعوبهم المقهورة والمظلومة مرتين: بهم وبتنازلاتهم المريعة بالحقوق التي لا يملكون أية شرعية تخولهم التنازل عنها، بل إنهم طالما قمعوا مواطنيهم بحجة إنهم يعطلونهم – بمطالبهم السمجة – عن تحرير المحتل من الأرض المقدسة.
ليس العيد العربي في مدريد،
وليست الأرض العربية مشاعاً بلا صاحب ليتنازل عنها من يفترض إن بقاء كرسيه مرتبط بمدى تفريطه.
والعيد قد يأتي بعد مدريد وأحزان الخريف العربي الطويل.
ولا بد إن جمهوراً عريضاً من العرب المشبعين بمرارة الهزيمة يحاولون – عبر صمودهم – اصطناع العيد الذي قد تعجل في موعده مدريد التي تستعد الآن للاحتفال بالذكرى الخمسمائة لمحو الوجود العربي (البشري والمادي والثقافي) فيها.
… ولقد رد بوش التحية لكريستوف كولومبس بأحسن منها، إذ “اكتشف” مدريد عاصمة للأحزان العربية الجديدة.

Exit mobile version