طلال سلمان

على الطريق لا دين للفتنة

لم تكن الحقيقة حصن أمان لوحدة اللبنانيين وضماناً لسلامتهم وسلاحاً فعالاً في دحر الفتنة ورد سمومها إلى نحور مطلقيها والمستفيدين منها كما هي اليوم.
فالحقيقة لا تمنع فقط الجريمة من أن تتحول إلى فتنة، ولكنها كذلك تزيد من مناعة الجسم اللبناني وتحصنه ضد المخاطر المخيفة المقبلة مع عصر “السلام الإسرائيلي” والساعية في ركابه.
إن الذين فجروا كنيسة سيدة النجاة في ذوق مكايل بكسروان لم يكونوا يستهدفون تلك الزمرة من المؤمنين الصائمين الذين أموها صبيحة ذلك الأحد البارد لحضور القداس، ولا هم كانوا يستهدفون حاكماً أو حكومة أو قائداً سياسياً مهاباً.
لقد كانوا يستهدفون لبنان كله: شعبه بكل أديانه والطوائف والمذاهب، وكيانه ودولته ونظامه الفريد.
كانوا يستهدفون روحه التي أنعشها جو السلم الأهلي واستنقذها من أدران الحروب، أهلية ومتعددة الأطراف، وحيويته التي لم تدمرها الأهوال التي عاشها اللبنانيون قرابة عقدين من الزمن.
وهي ساعة للحقيقة وليست ساعة للانتقام.
إنها ساعة لإعلان براءة البريء وإدانة المدان بجريمته الفظيعة.
إنها ساعة لكشف “العدو”، حتى لا يظل شبحاً يقض مضاجعنا ولا نستطيع الإمساك به، فننقلب لاتهام بعضنا بعضاً ويقتص واحدنا من أخيه ظلماً، أو يأخذنا سوء الظن بأنفسنا إلى افتراض أن ذلك “الشبح” مجرد وهم قد ينفع توجيه التهمة إليه في إراحة الضمير ولكنه بالمقابل يبعدنا عن الحقيقة ويدفعنا إلى التوغل في سراب صحراء أوسع من الربع الخالي.
إن “العدو” قد يتقمص واحداً “منا”، وقد يتسلل إلينا عبر اليأس أو عبر الحقد أو عبر الطمع أو عبر لوثة الدم، وإجمالاً عبر النقص في إيماننا بأرضنا، بيومنا وبغدنا.
وهو قد يقتحمنا من باب الإحساس بالظلم أو بالغبن أو من بوابة الخوف التي فتحتها الحروب على مصراعيها ولم تجد بعد من يقفلها بتثبيت أركان العدالة والمساواة والإنصاف وتكافؤ الفرص بين أبناء الوطن الواحد.
والطائفي قد يكون معذوراً طالما أن الطائفية هي سبيله إلى حقوقه، داخل “دولته”، لكنه ليس معذوراً في تدمير دولته وقتل شعبه بذريعة أنه مظلوم!
ثم أن الطائفي لا يتجه بالعداء دائماً إلى الطائفة أو الطوائف الأخرى، بل هو قد يكون عدواً لمجتمعه كله.
وطرية في الذاكرة تلك الحروب التي خاضها الطوائفيون ضد طوائفهم ذاتها، ثم أن قبور ضحاياها الكثر. ما تزال مفتوحة، في الجنوب كما في الجبل، وفي الشمال كما في بيروت وسائر أنحاء لبنان.
إن الطائفية تعمي، والأعمى لا يميز ولكنه لا يبرأ من تبعات جرائمه بذريعة أنه ذو عاهة أو قاصر أو متخلف عقلياً،
والمراجع الروحية جميعاً هي المطالبة الآن بإعلان البراءة من أولئك المجرمين الذين سفحوا دماء المؤمنين في الكنيسة، وسمموا جو البلاد جميعاً وبذروا نواة الفتنة ضد “أهاليهم” من دون التوقف أمام انتماءاتهم الدينية أو الطائفية أو المذهبية.
ليس ثمة فرق بين مجرم مسلم ومجرم مسيحي، كلاهما مجرم والدين منهما براء.
وليس ثمة من حصانة للمجرم، سواء أكان مهندساً أم طبيباً، عاملاً أم فلاحاً، رجل علم أو رجل دين.
فالجريمة تسقط حصانة مرتكبها كائنة ما كانت صفته أو مهنته أو مرتبته.
لقد استهدف الوطن جميعاً، والأديان جميعاً، فلا أقل من أن تكون إدانته العلنية باسم ضحاياه الفعليين أو المحتملين جميعاً، والذين لم ترأف بهم عنده انتماءاتهم الدينية.
إنها فرصة للمراجع الدينية عموماً لكي تقول إن الوطن أهم عندها من بعض “رعاياها” الذين خرجوا أول ما خرجوا على طاعتها وعلى أصول الدين وهم يتوجهون لتنفيذ جريمتهم لحساب الغير.
إنها فرصة لهذه المراجع جميعاً، من البطريرك الماروني إلى مفتي الجمهورية إلى رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، إلى شيخ عقل الدروز، إلى بطاركة الأرثوذكس والكاثوليك والسريان والكلدان وسائر الطوائف، لأن يوقعوا – باسم الدين – الحرم على المجرم، ولكي يؤكدوا أن لا تناقض بين واجبهم الوطني وبين واجبهم الديني، وإنهم فعلاً مراجع وطنية لعموم شعبهم وليسوا “ملاجئ” للهاربين من العدالة و”حماة” لناصري الوطن ومسلميه إلى صالبيه لقاء حفنة من الدولارات.
شمس الدين : الداعية – الرئيس..
اكتمل نصاب المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بالإجماع على “الشيخين” محمد مهدي شمس الدين رئيساً وعبد الأمير قبلان نائباً للرئيس.
وهذا خيار موفق في السياسة بأفقها الوطني، قبل الحديث عن مصلحة المجلس فيه.
فلم تمنع العمة والجبة ولا الموقع “الطائفي” بل “المذهبي” الشيخ محمد مهدي شمس ا لدين من أن يكون في خطابه كما في مسلكه الشخصي غير طائفي وغير مذهبي، وقريباً جداُ من صورة الداعية الوطني – العربي – الإسلامي.
فهو توحيدي في ظل نظام تقسيمي، إن على مستوى لبنان أو على مستوى الوطن العربي أو على مستوى العالم الإسلامي خصوصاً.
وهو الحكيم ذو الفعل والبصيرة وسط دائرة من الجنون بالتطرف أو بالمصلحة أو بقصر النظر والتحجر.
إنه في الأزمات رجل الحلول، وفي ظل مناخ الهزيمة القلق بحثاً عن منفذ من ليل الاستكانة والاستسلام إلى صبح غد أفضل قد يكون بعيداً ولكن لا بد من السعي لاستيلاده بالفكر وبالعلم وبالرأي وليس بسلاح الاغتيال أو بالارتجال المشوه أو بالاستعجال المدمر.
بعد مؤسس من مستوى الإمام موسى الصدر لم يكن ثمة من هو أجدر بموقع “الرئيس” من هذا العالم الصابر لكي يواصل قيادة “المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى” على قاعدة تمتين الوحدة الوطنية بأخذ الطائفة إلى الوطن بدلاً من استرهان الدولة بمصالح بعض أهل الطائفة.
وبالتأكيد فلسوف يكون لعفوية “الشيخ عبد الأمير” وروحه المصالحة وميله إلى التوفيق أثرها الطيب في إنعاش دور المجلس في “عهده” الجديد – القديم.
والرجلان يتكاملان : “نخبوية” شمس الدين وقلقه الفكري مع “شعبية” قبلان وصراحته التي قد تصل إلى حد القسوة ولكن من أجل تجديد التلاقي وليس من أجل الافتراق.

Exit mobile version