طلال سلمان

على الطريق لا اللجنة محكمة ولا هم أبرياء!

لا هي محكمة، ولا أعضاؤها قضاة منزهون، ولا الماثلون أمامها، من سبق منهم ومن هو الآن على “كرسي الاعتراف” ومن سيأتي بعدهم، مجموعة من المتهمين يقفون في القفص انتظاراً للحكم الصادر باسم الشعب أو باسم الأمة،
فلا اللجنة الوزارية التي شكلتها جامعة الدول العربية لدرس المشكلة اللبنانية، ادعت لنفسها صفة “هيئة المحلفين” أو “حضرات المستشارين”، ولا الذين استمعت (أو ستستمع) إليهم من أطراف الصراع (وشهوده!!) في لبنان ينظرون إلى أنفسهم على إنهم جناة أو مذنبون، بارتكاب الفعل أو بالامتناع عن وقفه أو الابلاغ عنه لحظة وقوعه،
وإذا كانت اللجنة لا تطلب ولا تتوقع من عملها إلا “الصيت العطر”، والاحساس بالرضا عن النفس بعد طول معاناة من الشعور بالذنب للتقصير الذي امتد دهراً، وإعادة الاعتبار إلى الجامعة المضيّعة والتائهة وسط التكتلات والمجالس الإقليمية والقرارات الوطنية المستقلة،
… فإن الماثلين أمامها من القادة اللبنانيين (روحيين وزمنيين، رسميين وأمر واقعيين) يتوقعون منها ما يتجاوز حكم البراءة، وتبييض السجل العدلي أو صحيفة السوابق. إنهم طامحون إلى الحصول منها على مكافآت وتعويضات أقلها الإقرار بمشروعية أدوارهم ومواقعهم في الصيغة المفترضة للنظام والحكم في لبنان المستقبل.
لقد جزم أمير الكويت بأن مهمة اللجنة مطلوبة دولياً، ألم يقل إنها “أكبر من عربية”؟!
إذن فهي لجنة تعيين الحكم وإعادة توزيع الحصص في لبنان الغد،
تبدأ كلجة فاحصة، وتنتهي بلجنة تزكية، ثم قد تخوّل حق المنح والمنع فتعطي من تشاء (ويشاء مكلفوها) وتعاقب بالحرمان من طمع أو عصا فتمرد أو حرد فغاب!
الطريق إن اللجنة تريد أن يعطيها عملها ذاته مشروعيتها، وأن تستحصل منه على شهادة براءة من الاتهام الدائم بالتقصير،
… كما إن الماثلين أمامها يتلطون خلف عقدة التقصير هذه ، ليستحصلوا منها على شهادة براءة تطهرهم من أدران ما ارتكبوه أو سمحوا بارتكابه (بالتواطؤ أو بالصمت أو بالعجز) في لبنان – الضحية.
لكأنما اللجنة والماثلون أمامها شركاء، بشكل ما : غضوا الطرف عما كان منا، فنطوي صفحة تقصيركم، وهكذا نخرج وقد حزنا جميعاً صفة المنقذين!!
بل لعل الشعور بالذنب هو الجامع المشترك بين “المعترف” وبين “المستمع” أو “كاتب المحضر”، فثمة جريمة وضحايا وبلد خرب، لكن المتهم لا أحد بالذات، ولا بضعة أشخاص بالذات، بل هو “الوضع العربي العام” و”ظروف لبنان المعقدة” مع شيء من آثار “التطورات السريعة في مسار القضية الفلسطينية” الخ!
من يحاكم من؟!
لا أحد له الحق بالمحاسبة التي ستترك على الأرجح، للتاريخ، والتاريخ شاهد أخرس، وهو بطيء الفهم بحيث إن أحكامه تجيء متأخرة جداً وبعد أن يكون الزمن قد طوى أو أسقط (سهواً!) أسماء المتهمين!
على إننا نستطيع الإفادة إلى أقصى حد: من هذه اللجنة، وبكل الظروف التي استوجبت تشكيلها وحددت لها خط السير وأهداف المهمة.
فعبرها يمكننا أن نجري محاكمة معنوية، أو فلنقل مراجعة نقدية جادة، لواقعنا: للجامعة بدولها كافة، و”للوضع العربي” بتحديداته المبهمة قصداً حتى تضيع المسؤولية وتغفل أسماء المسؤولين، ولما جرى ويجري في لبنان الجريح، على أيدي الفرقاء جميعاً، محليين وخارجيين.
*عبر هذه اللجنة ودورها المعنوي يمكننا، مثلاً، أن نتوقف أمام ظاهرة الحروب الأهلية العربية بوصفها سمة أساسية من سمات الوضع العربي الراهن،
فليس سراً إن ثمة حروباً أهلية ما يستعر أوارها، معلنة أو مستترة، في معظم أرجاء الوطن العربي، من السودان إلى المغرب وموريتانيا، مروراً بمصر التي لم تعرف تماماً كيف دخلت أسار كامب ديفيد ولا هي اهتدت إلى طريقة فعالة لكسر القيد والخروج منه، ومن اليمن بجنوبه والشمال، مروراً بمملكة خادم الحرمين الشريفين وإمارات الخليج وما بعدها وصولاً إلى لبنان بشرقيته وغربيته.
ما أسباب هذه الحروب؟! وهل من قدرة على إيقافها أو منع تفاقمها، أم هي قدر مفروض على العرب، في هذا العصر لن تنتهي إلا بإنهاء دورهم وشطب وجودهم كأمة، أو حتى ككتلة، وتمزيقهم إرباً أو دويلات مرشحة باستمرار للانشطار والتزايد لألف سبب وسبب؟!
وما علاقة هذه الحروب الأهلية العربية بطبيعة التحولات التي أصابت القضية الفلسطينية والتي أسقطت عنها صفتها الأصلية كصراع وجود بين الأمة العربية وعدوها الصهيوني؟!
ثم ما علاقة هذه الحروب الأهلية بالعجز عن خوض الحرب الفعلية الواجبة ضد العدو؟!
وهل ثمة مجال بعد لحديث عن الحرب مع إسرائيل أم صرنا في دائرة التسوية لا يجوز لنا ولا نستطيع، لو شئنا، أن نخرج منها، إلا إلى الانتحار أو إلى الجنوب؟!
*وعبر هذه اللجنة، بدورها المعنوي، نستطيع أن نقيم محاسبة للطائفيين لا للطوائف، بحيث نمنع استشراء هذا السرطان في جسد الأمة كله.
لقد تحولت الطوائف إلى مؤسسات، إلى أشباه دول، وحولت كل منها “رعاياها” إلى ما يشبه “شعب الله المختار”، له تميزه على سائر المخلوقات (من أشقائه في الدين والأرض والوطن!!).
وفي ضوء تجربتنا المرة في لبنان فإن كل طائفة قد اكتسبت بفعل هذه المؤسسات (العسكرية والتربوية!! والاقتصادية الخ) قدراً من التصهين.
والمشكلة إن أرض لبنان الضيقة (والمجتزأة حالياً بفعل الاحتلال) لا تتسع لسبعة عشر “شعباً مختاراً” ، وبالتالي لسبع عشرة دويلة كلها حرة ومستقلة وذات سيادة وحدود وجيوش وأعلام وإذاعات ومصالح وعلاقات إقليمية ودولية الخ!
وفي التفاصيل: فإن الطوائف اللبنانية عموماً ترى نفسها مظلومة بالمقارنة مع الطائفة الممتازة، التي جنح متعصبوها في ظل دعوى الحفاظ على الامتيازات إلى تقليد النموذج الإسرائيلي، نموذج شعب الله المختار!
إن كل طائفة تريد لنفسها “حقوق” الموارنة، أو ما يماثلها أو ما يعادلها أو ما يتناسب معها!
… ولما كانت الطريق المعروفة هي تقليد النموذج الإسرائيلي، فإن كل طائفة قد تصهينت وصهينت جمهورها بنسبة ما،
فالطائفة لا تحترم حدود الوطن، ولا تعترف برتبة اسمها المواطن،
وهكذا فثمة مستويان في الصراع الطوائفي في لبنان: الأول بين الطائفة المارونية، الطائفة العظمى، وبين سائر الطوائف، والثاني بين الطوائف مجتمعة وفكرة الدولة.
ومنطقي والحالة هذه أن يمتد الصراع ليشمل “هوية لبنان” وانتماءه القومي، فكيف يكون للطائفة هوية وطنية أو قومية؟! إن مثل هذه الهوية تلغي الطائفة، ولا بد أن تسبق الطائفة فتتخلص من هذا الخطر الداهم.
والطائفية في لبنان تبرر نفسها بالكيانية في أقطار عربية أخرى، بل في معظم هذه الأقطار.
فإذا كانت الكيانية ترتكز إلى عصبية ما ، قبلية أو عشائرية، عرقية أو عنصرية، إقليمية أو جهوية.
فإن للطائفية قصف السبق في العصبيات لأنها تخاطب غريزة تتصل بما لا يمس في الوجدان الشعبي العامز
هل نطلب من اللجنة العربية فوق ما تطيق أو ما هي مؤهلة لإنجازه؟!
إن اللجنة ليست مكلفة بحل المشكلة في لبنان، بل بالتمهيد لحلها،
والمشكلة عربية، حكماً، بالهوية والنشأة وأسباب الحياة، ثم بالتاثيرات الخطرة،
فلماذا لا تكون مناسبة لبحث أعمق وأكثر جدية، حتى لو انتهى بمجرد توصيات أو بتصور قد ينفعنا في المستقبل؟!
إننا لا نتصور اللجنة محكمة أو قاضياً أو جلاداً.
ولكننا لا نريدها أن تتحول إلى إدارة إصدار صكوك البراءة، بحيث تستمر الجريمة باستمرار “أبطالها” في مواقع السلطة والتسلط،
كذلك لا نريدها أن تنتهي إلى إلقاء التهمة على أولئك الذين لم توجه إليهم الدعوة لكي يجيئوا فيجسلوا على كرسي الاعتراف.. تمهيداً لتبرئتهم!! فمثل هذا التصرف سيؤدي على اعتبار الشعب هو المسؤول، وستكون التوصية بالحجر عليه!
ومرة أخرى : فعلاج الطائفية في الديموقراطية، في تعميم الديموقراطية أو أقله توسيع هامشها في دنيا العرب بدلاً من مكافحتها في لبنان.
الحريات، الحريات، الحريات،
حرية المعتقد، حرية التعبير، حرية الصحافة، حرية القول والكتابة حرية الانتخاب، حرية الاعتراض والمعارضة، فبلا حرية الآخر لا قيمة لحريتك.
بالحرية، بالديمقراطية، بالصراع السياسي بغير سلاح وإرهاب وعنف، يمكن استنقاذ لبنان من خطر الغول الطائفي الذي يتغذى بالحرب الأهلية المتفوحة فيه ومن حوله،
فالديموقراطية هي الضمانة العربية للبنان، لطوائفه كافة، لدولته ، لمواطنيه جميعاً،
والديموقراطية في لبنان ضمانة لهويته القومية بقدر ما هي شهادة للعروبة ولحيويتها كعقيدة ولعصريتها ولقدرتها على أن تكون الطريق إلى التقدم والكرامة والعدالة… الطريق إلى الغد الأفضل.

Exit mobile version