طلال سلمان

على الطريق كم مرة يدفع العرب لواشنطن “ثمن” صدام حسين؟!

يأخذ العرب والشرقيون عموماً على الغرب إنه لا يعرف المجاملة ولا يراعي أصول الصداقة ويتقدم نحو مصالحه بقدم ثابتة ولو على جثث حلفائه والمؤمنين بقيادته للعالم الحر (من نوري السعيد إلى شاه إيران)…
وتختزن الذاكرة العربية دروساً لا تنسى عن تنكر الغربيين (بريطانيين وفرنسيين في البداية وأميركيين منذ ما بعد حرب السويس) لما كان يسمى “الأماني” العربية في الاستقلال والوحدة والمنعة والقدرة على حماية الذات.
وإذا ما تغاضينا عن مشاعر المواطن العربي العادي وما يحتشد في وجدانه وصفحات تاريخه من عبر وتجارب مريرة (منذ الحروب الصليبية وحتى الاجتياح الإسرائيلي للبنان، مروراً بإقامة إسرائيل ذاتها وحرب الجزائر والعدوان الثلاثي والمساندة الدائمة والحاسمة لإسرائيل في كل مواجهاتها المفتوحة مع العرب داخل الأرض المحتلة وخارجها)،
… وإذا ما أسقطنا “المسؤولية الغربية” المباشرة عن واقع الشرذمة والتجزئة والكيانات المصطنعة التي فبركت على عجل بموجب معاهدات “غربية” لتنظيم مسلسل لا ينتهي من الحروب الأهلية العربية،
… وإذا ما تجاهلنا “الرأي العام” العربي وعدنا إلى تجارب الأسر الحاكمة في بعض أقطار المشرق والجزيرة والخليج كالسعوديين والهاشميين وآل الصباح وغيرهم، لأمكن استخلاص قاعدة ثابتة تحكم العقل الغربي والسياسة الغربية في المنطقة: ليبق الجميع ضعفاء وعاجزين ومعتمدين في وجودهم على الحماية الخارجية، وليفتح باب المنافسة على مصراعيه بين أفراد الأسرة الواحدة وبين الأسرة وبين خصومها، فمن قصر في خدمة المصالح الغربية أو تجاوز أو ركب رأسه فمارس سياسة مستقلة، خلع (أو اغتيل) ما بين طرفه عين وانتباهتها…
بصيغة أخرى فالقاعدة هي: اجعله ضعيفاً بحيث يمكنك ابتزازه في كل حين وفي كل أمر أو مسألة أو قضية تعنيه، ومع كل ابتزاز يصبح أكثر ضعفاً فيمكنك ابتزازه أكثر، ومتى استنفدته جئت بالأضعف منه ليعطيك ما لم يكن بوسع الأول أن يعطيه… للتعذر!
وبين ما يصدر عن الغرب إزاء العرب، الآن، ما يؤكد استمرار السياسة إياها التي سيق إن اعتمدت في الماضي… وفي أي حال فمن لا ماضي له لا مستقبل له.
لذا فمن حق العرب أن يتخوفوا من أن يُحتسبوا جميعاً في خانة “المهزومين”، وأن يملي عليهم الغرب، عبر صدام حسين أو بسببه أو بحجة المساعدة على إنقاذهم منه، شروط استسلام قد تكون أبشع من النتائج المهينة للحرب التي لم يخضها بطل “أم المعارك”!
فالغرب يتصرف وكأنه قد شطب العراق شعباً وجيشاً وقدرات وإمكانات اقتصادية، من رصيد العرب، ويريد أن يستبقي صدام – ولو لفترة – من أجل أن يبتز العرب به أكثر ليشطب المزيد من قدراتهم ومن قضاياهم ومن مطالبهم لديه.
لقد تحول صدام في الأعلام الغربي وفي اللغة السياسية الغربية المعتمدة في التخاطب مع العرب من طاغية ودكتاتور وهتلر جديد إلى “فزاعة” نموذجية لابتزاز الخائفين على رؤوسهم وأنظمتهم من الحكام العرب، لاسيما من ناصره في حربه ضد إيران الثورة أو في حربه الأخرى ضد العرب!
فالغرب يستخدم الآن صدام لتصديع وحدة العراق ويكاد يصوره، في الوقت ذاته، ضماناً للوحدة الوطنية لكي يبتز جيران العرق جميعاً من عرب وأتراك وإيرانيين لكي يدفعوا “ثمن” الخلاص من صدام مزيداً من الولاء للغرب (الأميركي) ومصالحه.
ذلك إن تشظي العراق لا يبقي كياناً في المنطقة على حاله، خصوصاً وإن الكيانات جميعاً كرتونية ومثقلة بالانقسامات والتمايزات العرقية والدينية والطائفية والمذهبية كما هي مثقلة بتراث من الأحقاد الموروثة التي تعبر عن نفسها – عصرياً – بصراعات معلنة أو مضمرة على الحدود وعبرها وفي قلب المصالح التي يفترض أن تكون مشتركة.
العراق، ديموغرافياً، متحف يضم “عينات” حية لجميع الأمم والشعوب التي وجدت في ما بين النهرين أو جاءت عابرة إلى تلك الأرض فاستقرت فيها لقليل أو كثير من الوقت، إنه كتاب تاريخ الأمم ملخصاً منذ بدء الخليقة وحتى بداية الحقبة الاستعمارية الغربية “الجديدة” للأرض العربية.
وكما إن العراق لا يمكن أن يختزل بشخص صدام حسين أو بفترة حكمه، كذلك فإن العرب لا يستحقون ولا يجوز لهم أن يقبلوا أن يعاقبوا مرة عليه ومرة ثانية باسمه ومرة ثالثة بذريعة إنقاذهم منه.
فتدمير العراق مع إبقاء صدام عقوبتان قاسيتان للعرب والعقوبة الثالثة تكاد تتحول إلى مطلب عربي سيتكرم الأميركيون بتحقيقه خلال شهور، كما قال بيكر: إي إسقاط صدام!
لكأنما واشنطن، ومعها سائر الغرب وإسرائيل، تريد ابتزاز العرب جميعاً في قضاياهم الأصلية.
بل لكأنما واشنطن تحقق ما أنكرته على صدام من ربط بينه وبين قضايا المنطقة جميعاً.
إنها الآن تفرض على صدام ما تشاء من الشروط، وتأخذ توقيعه على بياض في ما يعنيه وما لا يعنيه مباشرة من القضايا القومية، بقصد أن تبتز العرب مستقبلاً بهذه “الإنجازات” الصدامية!
لقد انفتح الباب لعلاقة جديدة بين العرب وبين الولايات المتحدة الأميركية، في ضوء نتائج ما سمي “حرب الخليج”،
لكن باب النقاش ما يزال موصداً وقد يكون مرصوداً، في الأسواط العربية، في حين إنهم في واشنطن يقولون ما يفكرون فيه وما يريدونه بصراحة ومن دون مجاملة أو خجل أو مداراة.
وفي حدود ما أعلنته واشنطن بلسان رئيسها وكبار معاونيه ورهط “الخبراء” والاستراتيجيين فيها فإن العرب الذين خاصمهم صدام حسين وخاصموه من قبل غزوته المظفرة للكويت لم تحفظ لهم حقوق الحليف، ولم تمنحهم منزلة الصديق ناهيك عن الشريك في الأرباح.
لم يتقدم العرب، ولم تتراجع إسرائيل، في القائمة المتعمدة أميركياً.
على النقيض من ذلك: تقدمت إسرائيل ونالت المزيد من حقوق الحليف والشريك مع تعويض حجز عما لم تفعله، كأنما هي تملك قدرات سحرية تفوق قدرات الولايات المتحدة الأميركية والحلف الأطلسي ومن شارك فعلياً أو رمزياً ، مشتركين!!
ولقد انعكس هذا بشكل مباشر على قضايا تمس مباشرة مصالح ثلاث أو أربع دول (وقضايا) عربية، في ما عدا مسها بالمصالح الاستراتيجية القومية ككل.
ولأن سوريا هي الجهة المعنية والقادرة على اتخاذ موقف فهي التي تصدت لمحاولة التأثير على هذه المعادلة غير الواقعية (وغير العادلة، إذا ما جاء استخدام تعابير أخلاقية في لعبة الأمم)!!
ومؤكد إن الرئيس حافظ الأسد قد خاض نقاشاً مريراً مع جيمس بايكر حين التقاه في دمشق، قبل أيام، في جلستين امتدتا لسبع ساعات.
ومؤكد إن الرئيس الأسد قد طالب الإدارة الأميركية أن تنجز الالتزام الذي أخذه الرئيس الأميركي جورج بوش على نفسه، في لقاء جنيف والذي كان نقطة تحول، في مسار الأزمة التي فجرها صدام حسين.
والواقع إن الرئيس حافظ الأسد هو الوحيد المؤهل للعب دور المحاور والمناقش والمعترض – إذا لزم الأمر – لأنه الوحيد من بين القادة العرب الذي حافظ في علاقته مع الرئيس الأميركي بوش على مسافة كافية تمكنه من إعلان رأيه بغير أن يتهم بالمالأة أو بالدونكيشوتية.
بالمقابل فإن إسرائيل لم تتأخر عن المباشرة في محاولة ابتزاز سوريا سواء أفي لبنان أم في موضوع هضبة الجولان المحتلة… فهي تعلن بلسان رئيس حكومتها إنها لن تنسحب من الجولان، كما هي تضع شروط المسكوب على اللبنانيين والسوريين من أجل تسهيل تنفيذ القرار 425 الخاص باحتلالها لبعض لبنان.
أما في الموضوع الفلسطيني فالابتزاز الإسرائيلي يتماهى مع الابتزاز الأميركي بحيث يصعب التفريق ورسم الحدود، خصوصاً وإن كلاهما يتكئ على تهالك الوضع العربي العام، وعلى تورط قيادة منظمة التحرير في سياسات وحسابات خاطئة أضعفت الانتفاضة المجيدة في الداخل وحدت من قدرتها على انتزاع الحد الأدنى من الحقوق المشروعة لشعب فلسطين في أرضه وفوقها.
فوق هذا كله فإن ثمة عمليات ابتزاز أميركي معلنة لأقطار الجزيرة والخليج لعل أوضحها في الكويت ذاتها حيث يتصرف السفير الأميركي وكأنه المندوب السامي وتوجه إهانات علنية للأسرة الحاكمة التي توهمت في لحظة إنها صارت أقرب إلى قلب واشنطن وأكبر في عينها.
وما يؤذي أي عربي، لاسيما من ناضل طويلاً ضد الطغيان والحكم الفردي المطلق، في العراق كما في الكويت والسعودية وأنحاء أخرى من الوطن العربي، هو أن تتحول طموحاته ومطالبته التي طالما ضحى من أجلها الشرفاء من العراقيين والكويتيين والسعوديين الخ إلى هبة أميركية، وأن تنوب واشنطن عن أصحاب الحق الشرعي في إصلاح الحكم المعتل أو المتخلف أو الفاسد والمفسد في الأرض.
وواشنطن هنا لا تنحاز إلى المناضلين العرب، ولا ترفع لواء الديموقراطية وحقوق الإنسان في الارض العربية، وإنما تبتز الحكام والشعب معاً، إذ “تجبر” الحاكم على الاعتراف بالمواطن، في حين تحتفظ لنفسها بالثروة والسلطة والسلاح تخضع بها الجميع،
وفي حين اختفى الحديث عن الانسحاب الأميركي من العراق والجزيرة والخليج (وهو تعهد معلن سابقاً) يتم التركيز على فبركة نظام إقليمي جديد يكرس قسمة العرب إلى عربين (على الأقل)… فهي يستبعد نصف العرب (من ليبيا إلى موريتانيا في شمال أفريقيا وكذلك السودان والصومال) بينما يحرص على إعطاء مساحة ودور ممتاز ومركز قوة لإسرائيل.
كذلك فٍإن واشنطن لم تظهر الكثير من الرضا عن المحاولة اليتيمة لاستنقاذ ما يمكن إنقاذه والتي تمثلت في ولادة تكتل الثمانية (دول مجلس التعاون مع مصر وسوريا)… فالنظام الإقللايمي الذي تروج له هو غير هذا تماماً، ولعله يستند في ما يهمس به إلى نوع من الكونفدرالية التي تجمع العرب والإسرائيليين في إطار منظومة أميركية واحدة.
هي الهزيمة، وهذه بعض نتائجها، ولعلها مجرد مقدمات لما هو أخطر!
ومن حق واشنطن (ومعها تل أبيب) أن تتصرف وكأنها انتصرت على العرب مجتمعين، وأن تحاول التحكم بمصائرهم جميعاً، طالما إنهم لا يظهرون اعتراضاً يجبرها على تعديل هذا الأسلوب.
ولكن هذه ليست نهاية العالم، وبوسع العرب – بعد – أن يقرروا ما يريدونه لمستقبلهم، ولو بالحد الأدنى الأدنى…
فالنصر الأميركي مكلف جداً، ثم إنه ليس مطلقاً ولا يمكن أن يكون،
وإذا كان الرئيس الأميركي جورج بوش قد عبر علناً عن تخوفه من أن ترتد عليه بعض النتائج إذا لم يحسن توظيفها فوراً، فما ذلك إلا لأنه يدرك – حسياً – إن الشارع العربي ليس مستنقعاً راكداً ولا هو جسم مشلول.
صحيح إن الأنظمة العربية بوجه الإجمال قد تخلت عن شعار العداء المعلن للولايات المتحدة الأميركية بوصفها “زعيمة المعسكر الإمبريالي” و”عدوة الشعوب” الخ… لكن الجماهير العربية أكثر عداء للأميركيين اليوم مما كانت في أي زمن مضى.
حتى انحياز الشارع العربي إلى صدام حسين، في بداية الأزمة، كان يعبر أكثر ما يعبر عن حجم العداء المختزن للغرب، وقد زادته نتائج الحرب، وأسلوب التعامل الغربي مع العرب عدائية لا بد أن تعبر عن نفسها وفي أكثر من قطر عربي.
ولعل الكثير من العرب قد فهموا بعض نتائج الاستفتاءات التي أوضحت مدى شعبية جورج بوش في بلاده (وقد وصلت في أحدها إلى 94,5%) وكأنها تعكس حجم الكراهية الأميركية (والغربية) للعرب مجتمعين وليس لصدام حسين.
ولقد أثبت العرب، داخل العراق وخارجه، إن صدام حسين لم يكن يمثلهم ولم يكن يعبر عنهم، ثم إنه قد أذاهم أكثر بكثير مما أذى الغرب ومصالحه،
وعلى واشنطن الآن أن تثبت إنها تلتقي معهم أقله على إن صدام حسين ليس العراق، وإن الاقتصاص منه – باسم العراقيين والعرب!! – لا يقتضي تدمير ما تبقى من العراق وتهشيم ما تبقى من روابط تجمع العرب حول حقوقهم.
وفي كل الحالات فإنه من الخطأ القاتل أن تموه حقيقة المشاعر العربية تجاه السياسة الأميركية، أو أن تقمع هذه المشاعر بحجة إظهار حسن نية تجاه واشنطن والاعتماد على مزايا إدارتها القائمة والتي هي “الأقل محاباة لإسرائيلي بين مختلف العهود التي تعاقبت على البيت الأبيض”.
فجورج بوش الآتي غداً لزيارة إسرائيل لا يجامل ولا يداري ولا يراعي أبداً مشاعر العرب وبالتحديد أولئك الذين حاربوا قبله ثم معه طاغية عربياً أوغل في الخطيئة والخطأ حتى دمر الحاضر وكاد يدمر المستقبل العربي.
وسياسات الدول، لاسيما الكبرى، مبلطة بالنوايا الحسنة… مثلها مثل جهنم!
وقديماً قال العرب: بعض سوء الظن من حسن الفطن!

Exit mobile version