طلال سلمان

على الطريق كريستوفر والربيع والحضور اللبناني

صار لكلمة “الربيع” وهج الذهب،
وإضافة إلى ارتباط الربيع بالخصب والتجدد والحب والخروج من زمن الموت، فقد اكتسب الآن سمات “الموعد” مع الأماني والأحلام السنية.
النهوض الاقتصادي في الربيع. الأعمار في الربيع. الإصلاح الإداري في الربيع. النور المشع عبر المصابيح في الربيع. الهاتف، العادي والاكسترا (الخليوي) في الربيع. المياه تجري في الحنفية مع الربيع. الأوتوسترادات، الدائرية والمستقيمة، في الربيع. القرار 799 في الربيع. أما القرار 425 فقد سحب من التداول بعدما صدرت إرادة ملكية من “حفظه الله” بالاعتراف به وتبنيه شرعاً، ثم تعزز موقعه بعد اعتراف مصر ودولة الكويت به.
الشقق للعرسان في الربيع. الطعام لكل فم في الربيع. عودة المهجرين، استعادة المهاجرين، استرجاع رؤوس الأموال المنهوبة من البلاد والمحولة إلى الخارج،
المساعدات، الهبات، المعونات، الصندوق الدولي لإعمار لبنان، المليارات المقررة في قمة تونس (!!)،
إلغاء الطائفية والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والمحكمة الدستورية.
كل ذلك في الربيع الذي هلت علينا بشائره مع الأمل الذي لم يزل بعد بأن يقوم وزير الخارجية الأميركية وارن كريستوفر بتشريف لبنان بزيارة تعيده إلى صلب الجغرافيا السياسية والتاريخ المعاصر.
وعندما يأتي كريستوفر ليستمع، فماذا تراه سيسمع من المسؤولين اللبنانيين؟
ماذا بعد التشكي من سوء الأحوال، ومن التعنت الإسرائيلي، ومن التخلي الأميركي واستطراداً من غياب الدعم العربي المربوط بالقرار الأميركي؟!
ماذا لدى لبنان من مقترحات تنير الطريق للإدارة الأميركية الجديدة الجاهلة بشؤون المنطقة العربية وشجونها؟!
إن الشكوى وحدها لا تشكل مدخلاً إلى الحل. كما أن الاستماع بحد ذاته لا يروي الغليل وإن ساعد في تنفيس كربة الشاكي.
فهل لدى لبنان الرسمي منطق متماسك يصلح قاعدة لخطة تحرك على المستوى الدولي؟
لقد ذهبنا إلى بعض الأنظمة العربية نطلب دعمها للقرار 425، فإذا كنا حتى مع العرب بحاجة إلى التذكير بالقرار 425 فماذا عسانا نطلب من الأميركيين؟!
إن الاستعطاف لا يعيد حقاً، والتظلم لا يبدل مواقف الدول، والمبايعة لا تستدر التبني ورفع الضيم.
ومع التنويه بسلامة التوجه “الرسمي” في سياق المفاوضات المنبثقة عن “مؤتمر السلام”، فلا بد من أن يسمع المسؤول الأميركي من لبنان ما يشير إلى أنه هو أيضاً يقدر أن يكون عنصر إزعاج للإسرائيلي، الذي لم يدلل حتى الآن على حرصه لا على المفاوضات ولا على المؤتمر ولا على السلام، ناهيك بسلامة لبنان وسيادته.
إن لبناناً مقاوماً يستطيع أن يفرض على الإسرائيلي ما لا يستطيعه لبنان المستكين والمنتظر عطف الشرعية الدولية التي باتت رهينة الإرادة الأميركية (والإسرائيلية إلى حد ما)..
صحيح إن قدرات لبنان محدودة، وإنه قد يدفع ثمناً باهظاً.
لكنه الآن يدفع مثل ذلك الثمن، من غير أن يستخدم – أو يسمح باستخدام – إلا القليل من القدرات.
وليست هذه مطالبة بالانتحار، أو بالتطوع نيابة عن العرب، الذين خرجوا من أرض المعركة ولا يريدون العودة غليها،
إنها دعوة للصمود. للتمسك بالارض وبأهلها.
إنها دعوة على استعادة الوعي بحقائق الحياة: لن يعترف بك أحد طالما غيبت نفسك، وبقدر ما تفرض حضورك يكون الاعتراف.
لا بد من الاستعداد بمنطق آخر، مختلف جذرياً عن هذا الذي يبرر وجودنا بالضعف وباحتياج الآخرين غليه.
لقد قاوم لبنان، سلبياً حتى الآن فنجح عبر مسألة المقتلعين من أرضهم في فلسطين، ويمكنه أن يقاوم أكثر، وإيجابياً، وانطلاقاً من تلك المسألة بالذات، لو أراد.
فسلاح رابين يمكن أن يرتد عليه ويقلب المناورة التي أجهض بها قرار مجلس الأمن إلى عكس ما أراده منها رئيس حكومة العدو.
والحضور اللبناني لا يتأكد فقط بأن يضم كريستوفر لبنان إلى جولته، ولكن بأن يؤكد اللبناني استعداده للتضحية بالكثير من أجل أرضه وسيادته عليها.
التوطين والعنصرية…
سقطت الحدود، أو تكاد، بين الوطنية والكيانية،
والتوكيد “الرسمي” على الانتماء العربي للبنان وأبنائه، جاء في لحظة يكاد يخرج فيها العرب عموماً من عروبتهم، ولم يعد بينهم من يحرص كثيراً على عروبته هو فكيف بعروبة “الآخر”.
نقول هذا الكلام وأمامنا نتائج استطلاع الرأي الذي أجرته “السفير” على مستوى لبنان، حول هاجس توطين الفلسطينيين، والذي ننشره على حلقات،
ففي هذا الاستطلاع الذي شمل آراء 986 مواطناً من مختلف الطوائف والمناطق والأعمار، “نبرة” كيانية وشبه عنصرية تفرض التوقف أمامها بشيء من التحليل.
ومفهوم أن تكون أكثرية اللبنانيين، وكذا أكثرية الفلسطينيين، بل والعرب كافة، ضد احتمال توطين الفلسطينيين في لبنان،
لكن منطق رفض التوطين يغلف بشيء من تراث الحرب الأهلية، التي كان الفلسطينيون في لبنان بين مبرراتها وأدواتها، بين راياتها وبين ضحاياها، بين استهدافاتها وبين متوسليها طريقاً إلى بعض أهدافهم،
والتدقيق في إجابات المشاركين في الاستطلاع لا بد أن يلحظ الفروق، ولو دقيقة، بين منطقة ومنطقة وبين طائفة وطائفة، بل وبين مذهب ومذهب.
ليست فلسطين واحدة بالنسبة للجميع،
وليس الفلسطيني هو فلسطين،
كذلك فاللبناني هو غير الفلسطيني: لا هو حليفه، ولا هو شريكه في المصير، ولا يريد أن يرتبط به، ويتمنى لو أمكن الفصل بين “قيته” هو “المستجدة” وبين قضية الفلسطيني “القديمة”.
إنه يريد أن ينسى، ولو بالتجاهل، أن “القضيتين” هما بعض ثمار الصراع العربي – الإسرائيلي، وأن الفصل – بفرض أنه تم – سيضيف إلى رصيد إسرائيل وعلى حساب كل العرب.
الطريف أن الأكثرية التي ترفض التوطين ترى أن التأثير السياسي للوجود الفلسطيني في لبنان كان إيجابياً، وإن التأثير الاقتصادي – بشكل خاص – كان طيباً.
إن الأجوبة تعكس الإحساس بالعجز بأكثر مما تعكس المصلحة أو حقيقة الموقف السياسي.
إنها أجوبة تداري غضب “العدو”، بقدر ما تحاول أن تنفي عن الذات اتهامات ضمنية بالتخلي عن “الشقيق” أو بالتفريط بالأرض التي لم تحتل بعد.
إنها أجوبة ما تحت الحرب. لقد انتهت الحرب في الشارع، ولكن من يخرجها من الذهن والقلق والوجدان؟
من يقتل الخوف، الخوف من الذات والخوف من الآخر؟!
بول فندلي والبنادرة…
ابتداء من اليوم تباشر “السفير” نشر الكتاب الجديد لذلك الصوت الأميركي المفرد: بول فندلي، وهو أيضاً عن النفوذ الصهيوني داخل الولايات المتحدة الأميركية.
وبول فندلي فارس حقيقي، وهو يبدو وكأنه يخوض حرب الرجل الواحد ضد أعتى قوى الطغيان والنفوذ المالي والمكر السياسي والتآمر المسلح والمحصن بقوى اجتماعية هائلة.
لقد جرؤ بول فندلي على الكلام، من قبل، فخسر معركته الانتخابية، وأخرجه النفوذ الصهيوني من الكونغرس.
لكنه لم يتوقف ولم يستسلم، برغم أنه قد افتقد النصير في داخل بلاده، ثم – وهذا هو الأمر والأدهى – بين الذين يستفيدون موضوعياً من معركته القاسية ضد أقوى المؤسسات الصهيونية وأعتاها.
“الخداع” بعد “من يجرؤ على الكلام”،
الفارس ما زال في الميدان، وحيداً.
أما بنادرة العرب فمشغولون بما هو أخطرك إنهم يدفعون آخر قطرة نفط وآخر قطرة من الكرامة وآخر حبة رمل لتلك المؤسسات التي تقاتل بول فندلي وأمثاله، وتحاول إسكاتهم إلى الأبد.
بنادرة العرب لا وقت لديهم للقراءة،
وبنادرة العرب يتقدمون بخطوات واسعة في اتجاه أن يكونوا خدماً لإسرائيل،
إنهم يسلمون الأرض وثرواتها والقرار السياسي، يفتحون السماوات والبحار، التجارة والصناعة والسياحة، لهؤلاء الذين يقاتلهم بول فندلي كأميركي ومن أجل كرامته في بلاده.
إن بنادرة العرب لا يهدرون كرامة أوطانهم وأمتهم فحسب، ولا يستعجلون الاستسلام العربي فقط أمام الهيمنة الصهيونية، ولكنهم يتسببون في إلحاق الهزيمة بالمقاومين لأسبابهم الوطنية في بلادهم الأميركية.
إنهم يعملون للعدو ويتبرعون له بخدمات تكاد تكون في مستوى الخيانة… ثم إنهم يزودونه بسلاح فعال لقتل من يفكر بمقاومته هناك.
كم بول فندلي جندلت يا طويل العمر؟!

Exit mobile version