طلال سلمان

على الطريق قمة دمشق: الامتحان الأول للعهد الجديد

ليس من قبيل التمني أو التخمين هذا الشعور العام السائد بخطورة كما بحتمية نجاح اللقاء الأول على مستوى “القمة” بين “العهد الجديد” في لبنان ممثلاً بالرؤساء الياس الهراوي، حسين الحسيني وسليم الحص، وبين القيادة السورية ممثلة بالرئيس حافظ الأسد وأركان حكومته.
إن القراءة الواعية لموجبات اللحظة السياسية الراهنة تفرض على هذه “القمة” أن تكون نقطة نهاية لمرحلة مضطربة، ونقطة بداية لمرحلة جديدة واضحة ومحددة في العلاقات اللبنانية – السورية.
ذلك إن تجربة العلاقات بين بيروت ودمشق، في ما بعد الوجود العسكري السوري في لبنان، تحتاج إلى مراجعة نقثدية صريحة وصادقة، حتى لو كان فيها ما يمكن اعتباره قاسياً ومؤلماً.
ومؤكد إن القيادتين تستشعران خطورة الوضع القائم وتدركان بوعي الحاجة الملحة إلى مناقشة مفتوحة وإلى وضع اليد على الجرح وتسمية الأشياء بأسمائها، كما لم كن ذلك ضرورياً وملحاً في أي يوم على امتداد التاريخ الاستقلالي للبلدين التوأمين.
فلا حل للبنان من دون تعاون مخلص تقدمه سوريا، وعلى الأصعدة كافة.
ولا مجال لهذا التعاون طالما لم تطمئن سوريا إلى مستقبل لبنان وموقعها منه.
وكلا الأمرين متعذران في غياب القاعدة الصلبة والثابتة للعلاقات بين “الشعب الواحد في دولتين”، كما يقول الرئيس حافظ الأسد.
لقد عملت قوى كثيرة، في الداخل والخارج، على استدراج سوريا، بالغواية أو بالتحدي، للتوغل أكثر فأكثر داخل الرمال اللبنانية المتحركة، ليسهل اتهامها من بعد بأنها قد باتت طرفاً في الحرب الأهلية المدمرة.
كان يراد تعطيل الدور الإنقاذي لسوريا، بأي ثمن، وباستخدام الوسائل كافة.
بل لقد كاد يراد زج سوريا نفسها في أتون حروب الطوائف والقبائل والعشائر، وإغراقها في التفاصيل التي لا تنتهي في بلد كل ما فيه “تفاصيل”، بحيث تعجز عن الفعل والتأثير الايجابي وبالتالي عن حسم الأزمة المتفاقمة إلى حد تهديد المنطقة كلها بخطر الاقتتال الأهلي.
وبديهي أن تعطيل الدور الإنقاذي السوري هو أخطر الأضرار التي أصابت لبنان، وأصابت سوريا في الوقت عينه.
وأضعفت احتمالات الحل العربي للمأساة القومية في لبنان.
فسوريا محكومة بطبيعة الدور القومي في لبنان. وهي مدعوة للتمسك به والإصرار عليه كلما تزايدت المؤامرات التقسيمية والمحاولات الانفصالية المحصنة بحمى التعصب الطائفي.
لا تستطيع سوريا أن تكون سوريا في لبنان (هذا لو أرادت) حتى لو تورط في قتالها بالسلاح بعض اللبنانيين المشوهين بتراث الكيانية اللبنانية، أو بنتائج الهزيمة العربية في مواجهة العدو القومي وبينها بل في مقدمتها نتائج الاختراق الإسرائيلي للنسيج الاجتماعي في لبنان.
فبقدر ما تكون سوريا “سورية”، بالمعنى الشوفيني للكلمة، يفرض عليها التراجع ليس في لبنان فحسب، بل في المعركة القومية – الام أي في الصراع العربي – الإسرائيلي.
ولقد شنت “حروب” على الدور القومي لسوريا، بعضها في داخل لبنان وبعضها من خارجه، لعل دمشق تتخلى عنه فتضعف وتفقد بالتالي مبرر وجودها العسكري في لبنان.
فمفهوم إن الجيش السوري لم يدخل لبنان ليفرض عليه الوحدة.
ولكن “الحروب” كانت، وما زالت تستهدف فك العروة الوثقى وضرب الارتباط العضوي وتحويلهما من شقيقين متكاملين إلى عدوين مقتتلين ولا رغبة في إصلاح ذات بينهما.
وهذه “الحروب” هي ما يحتاج إلى فحص للأسباب والعوامل، بغض النظر عن أشخاص مشعليها وأغراضهم الصغيرة وارتباطاتهم المشبوهة.
لقد عاش البلدان الأهوال خلال السنوات الطويلة للحروب المتعددة التي تفجرت أو فجرت على أرض لبنان.
وإذا كان الأعداء والخصوم، في الداخل والخارج، قد صبوا دائماً الزيت على النار، فلا يستطيع أحد الادعاء بأن العلاج كان دائماً مثالياً في نجاحه.
لقد وقعت أخطاء، وحكمت الأخطاء في بعض الحالات ردود الفعل.
كذلك فلقد عولج ما هو “سياسي” معالجة عسكرية بتراء في حالات أخرى.
وكان بين اللبنانيين من زين للسوريين الخطأ أو القصور في المعالجة.
وكان بين القيادات اللبنانية من حاول إقناع السوريين بأن لا ضرورة للدولة ومؤسساتها، وإن ميليشيات الطوائف تغني عن حكم الطائفة الواحدة كما عن حكم تحالف الطوائف،
لكن التجربة المرة أثبتت أنه بمقدار ما يضعف الحكم في لبنان، أو تضعف وطنيته، يزداد تورط أو توريط سوريا واضطرارها لأن تحمل أو تحمل ما يربك قدرتها على المبادرة، ويضعف “حيدتها” الضرورية والحفاظ على المسافة المطلوبة من أجل نجاح دورها الذي لا غنى عنه في الحل المرتجى.
وقد لا يكون الحكم اللبناني اليومي في أفضل صوره، وفي أحسن حالاته صحة وعافية.
ولكنه خارج من قلب النار، وهو استحق موقعه باسم اتفاق الطائف كمشروع حل عربي وكمدخل إلى السلام الوطني في لبنان.
وسوريا تستطيع أن تعطيه ما لا يملك غيرها ولا يقدر أن يعطيه،
تستطيع أن تعطيه مباشرة، وتستطيع أن تساعده مع العرب لكي يعطوه، كما تستطيع أن تقنع العالم بأن يعطيه ما ينقصه من عافية ومن قدرة على أداء مهمته الصعبة بل وشبه المستحيلة.
وقمة دمشق فرصة للتثبت من أن “العهد الجديد” قادر على أن يأخذ ما يحتاجه، بمعنى معرفته بما يجب أن يطلبه وممن ومتى وكيف.
ودمشق قادرة على أن تعطي غير السيف.
و”العهد الجديد” يحتاج مع السيف إلى أمور كثيرة.
وأول ما يحتاجه “العهد الجديد”، ولبنان كله، الوضوح والثقة المتبادلة والرؤية الموضوعية للمصالح المشتركة مع سوريا، إضافة إلى الروابط الأخوية وموجبات المصير الواحد.
وحسناً فعل الثلج إذ أقفل على “العهد الجديد” طريق العودة أمس.
فهو من جهة قد أتاح الفرصة لمزيد من المناقشات التي يفترض الجميع إنها لامست أعماق المسائل والمشكلات وليس ظواهرها الناتئة فحسب،
ثم إنه قد طرح مسألة بسيطة ولكنها جدية: إن هذه الطريق لا بد أن تظل مفتوحة، ولا يجوز أن تقفل لا بالعوامل الطبيعية ولا بفعل فاعل، كائنة ما كانت ذرائعه والشعارات المهيجة.

Exit mobile version