طلال سلمان

على الطريق قمة خارج الموضوع وتحت “الحد الأدنى”!

إذا كان خطاب الملك حسين، في افتتاح قمة عمان أمس، بالشروح التي أعطاها بعده الشاذلي القليبي، هو العنوان الفعلي لهذا اللقاء الذي ما انعقد إلا بشق النفس، فمن العبث توقع صدور نتائج إيجابية من أي نوع وعلى أي صعيد من هذه القمة البائسة.
ولكن لأننا تعودنا أن يكون الكلام غير القصد، وأن يكون المعلن عكس المضمر، فما زال ممكناً الافتراض إن النتائج ستكون محدودة الأضرار بالقضية العربية وبطموحات العرب المنهكين واليائسين والمحبطين في مختلف أقطارهم.
فالخطاب (ومعه الشروح) يكاد يكون بمثابة إعلان حرب على إيران، في حين يعرف القاصي والداني أن لا أحد من هؤلاء المحتدشين في فندق بلازا بعمان يريد الحرب أو يطلبها أو هو مستعد لتحمل تكاليفها الباهظة.
والخطاب كان أصرح في الحديث عن فلسطين فهو كاد يعلن الخروج النهائي من حربها،
أما لبنان فقد ذكره مجاملة أو حياء ومن باب الاحاطة، لا أكثر، تاركاً للشاذلي القليبي أن يذكر باحتياج اللبنانيين إلى التجهيزات المدرسية ووسائل الاستشفاء، مع القفز الكامل عن طبيعة الأزمة السياسية التي تعصف به التي هي ثمرة مرة لذلك الزلزال الذي ضرب الأمة العربية كلها بالاجتياح الإسرائيلي في صيف 1982.
… هذا برغم إن أمين الجميل، وارث رئاسة مرحلة ما بعد الاجتياح، والرمز الأهم لطبيعة الأزمة السياسية في لبنان، حاضر، وإن حضوره بحد ذاته وعبر “وفده” الخطير، وفد اللون الواحد الذي يعكس أحد وجوه هذه الأزمة عياناً لمن أراد أن يرى فيعرف.
في أي حال فإن الخطاب بمضمونه وشروحه لم يفاجئنا، كما لن تفاجئنا نتائج القمة.
فلقد تعودنا في السنوات الأخيرة أن يكون لقاء القيادات العربية على مستوى “القمة” إطاراً “شرعياً” لتنازل جديد عن بعض الحقوق القومية، أو للانحراف عن بعض مرتكزات العمل القومي، وكذلك: مناسبة لا تفوّت “لتهذيب” بعض المواقف “المتطرفة” التي تضر بروح التضامن العربي أو بصورة العرب “الحضارية” ومدى انضباطهم داخل “الشرعية الدولية”!!
بعد كل قمة كان يتوجب علينا أن نعكف على إحصاء الخسائر لا الأرباح، بالمفهوم القومي الشامل… فقادتنا لا يجتمعون، إذا ما اجتمعوا، إلا على الباطل، ولا يتفقون – إذا ما اتفقوا – إلا على حساب أماني أمتهم وتطلعها إلى غد أفضل.
وتكرر تطبيق القاعدة حتى حفظناها غيباً: كلما ازدادوا عجزاً عن مواجهة العدو، شدوا قبضتهم أكثر على شعبهم حتى لا يطالبهم، ناهيك بأن يحاسبهم على العجز المستمر باستمرار وجودهم في سدة الحكم… فالعجز مع العدو هو الوجه الآخر لقهر الشعب وإرادته وإذلاله وامتهان كرامته حتى يستوي عنده الماء والنار فيسلم أمره إلى اليأس مبتعداً عن شر السياسة إلى الحشيش، وكل أشكال الحشيش الشعبي والرسمي!!
ومع إنهم يخرجون من كل قمة أضعف من سابقاتها في مواجهة العدو القومي، فإن كلا منهم يعود أقوى على شعبه، إذ تتعزز قوته بروح الجماعة!!
كذلك فلقد تعودنا في السنوات الأخيرة إن قادة العرب لا يجتمعون – إذا ما اجتمعوا – إلا إذا كانت الولايات المتحدة الأميركية هي صاحبة الدعوة وصاحبة الغرض من اجتماعهم وواضعة السيناريو وجدول الأعمال.
وفي قمة تهندسها الولايات المتحدة فمن المستحيل أن تكون إسرائيل في خانة العدو، ومن المستحيل أن يكون البحث بحربها، هل هو بالضرورة بحث في مزيد من التفريط لعل إسرائيل ترضى بتسوية ما تضمنها واشنطن وتبقي لقادة العرب بعض ماء الوجه وتوفر لهم “المخرج اللقاء” أمام شعبهم الذي صمت آذانه خطبهم النارية عن تحرير الأرض السليب والعودة إلى الصلاة في المسجد الأقصى!
على إننا تعودنا، أيضاً، على صفات حكامنا ومواهبهم: فهم أضعف وأجبن من أن يتخذوا قرار الحرب، بل إن وجودهم مرتبط باستبعاد مثل هذا القرار، فإذا ما تأكد احتماله سقطوا، ثم إنهم أعجز وأبأس من أن يصنعوا السلام… فالسلام يحتاج إلى محاربين أقوياء بنصرهم، لا إلى هاربين من كل أنواع المواجهة وكل ميادينها، ولاسيما الثقافية والاقتصادية والاجتماعية إضافة إلى السياسية والعسكرية.
وهم في كل قمة يتحركون وفي وجدانهم موضوع جدي مضمر: كيف نهرب من احتمال الحرب من دون أن نتورط، مباشرة، في توقيع سلام مرفوض وباهظ ثمنه (فصورة السادات في العرض حاضراً دائماً في أذهانهم)؟!
وبعد كل قمة يهنئون أنفسهم على تحقيق المزيد من النجاح في تدجين الشعب وإضعاف مناعته بالاحباط المستمر، إذ يصبح أقل قدرة على إظهار الرفض والاعتراض وتسري في أوصاله أكثر فأكثر روح اللامبالاة واليأس المطلق والاستسلام لكل ما يحدث، وسواء أجاء عن طريق حاكمه، أم عن طريق عدوه، خصوصاً وإن الحدود بين هذا وذاك تتماهى إلى حد الاضمحلال… بل كثيراً ما يزكي الحاكم، بقمعه وبطشه وانحرافه، صورة العدو الذي يبدو “ديموقراطياً” و”حضارياً” و”شديد الوطنية” وعظيم المشاعر الإنسانية بدليل إنه أرأف بالعرب من حكامهم الأفذاذ.
ولنعد إلى السياسة…
إن الشعار الرئيسي المرفوع في سماء قمة عمان، بعد حديث الحرب على إيران، هو: العودة فوراً وبغير قيد أو شرط إلى مصر حسني مبارك،
وحكام الانفصال استفاقوا الآن فقط على الطروحات القومية حول مصر ودورها وهي بالضبط تلك التي قاتلوها بلا هوادة أيام كانت مصر عبد الناصر قائدة حركة النهوض القومي والعمل الوحدوي.
إنهم الآن، بلسان حكام إمارات الخليج ومشيخاته، (والكبار من خلفهم) يريدون استعادة مصر بكمب ديفيد ومعاهدة الصلح المنفرد مع العدو الإسرائيلي، بحجة تحصين أوضاعهم ضد الخطر الإيراني الذي يزلزل الأرض تحت أقدامهم،
كأنما المكبل بمعاهدة صلح إذعان مع إسرائيل يمكنه أن يقاتل أساساً ويمكنه أن يحمي ذاته وكرسيه، أو كأنما إيران أخطر من العدو الإسرائيلي.
قبل عشر سنوات فقط، وفي بغداد، التقى هؤلاء الحكام أنفسهم في قمة الحد الأدنى، وبعثوا وعداً برشوة مقدارها خمسة مليارات دولار (؟!) إلى أنور السادات حتى لا يتبع زيارته للقدس المحتلة بالصلح المنفرد. وباطلبع فلقد كانوا يعرفون إن حركتهم ستستفزه فتدفعه إلى إكمال الشوط حتى النهاية. ولعلهم كانوا يتمنون ذلك، فما أسهل اللحاق بالأكبر والأقوى والاعتذار عن الانحراف بانحرافه قبلهم!
اليوم، وفي عمان، يبدو وكأن ذلك الحد الأدنى من مواجهة العدو الإسرائيلي المفترضة أو الوهمية، قد انهار تماماً، وارتفع شعار المواجهة بالحد الأقصى مع “العدو الإيراني”، أما فلسطين فلقد غابت تماماً أو إنها غيبت قسراً وغيب معها الصراع العربي – الإسرائيلي بموجباته والتزاماته الحتمية.
لكأنما يعلن قادة العرب الصلح من طرف واحد مع عدوهم القومي، ثم يحتمون بالأساطيل الأميركية من خطر السقوط تحت ضغط التأثير السياسي – وليس العسكري – للنظام الإيراني الجديد.
ليست الأرض هي القضية. القضية هي العروش. إيران تهدد العروش، أولاً، وإسرائيل تأخذ الأرض وتبقي على العروش، فمن الأولى، إذن، بالعداء؟!
خلال أقل من عشر سنوات تم القفز من فوق كمب ديفيد ومعاهدة الصلح المنفرد، وتم تجاهل تأكيدات حسني مبارك ذاته من إنه لن يسقط حرفاً من إنجازات السادات،
وسط هذا المناخ لا تعود ممكنة مساءلة مضيف المؤتمر، الملك حسين، عن اتصالاته شبه الدائمة مع المسؤولين الإسرائيليين والتي تزايدت إلى حد إنها صارت موضوعات لكتب موثقة ومدققة ومعروضة لكل راغب في التثبت،
… ولا تعود ممكنة مساءلة ياسر عرفات عن اتصالاته بمن يسميهم “القوى الديموقراطية” في إسرائيل، وسواء أتمت مباشرة أم عبر وساطة تشاوشيسكو والسماسرة الآخرين.
فكيف والحال هذه يبقى ممكناً الاعتراض على الوجود الأميركي المسلح في الخليج بحجة حماية العرب، بثرواتهم وأرضهم وعروش ملوكهم والأمراء؟!
إنها قمة الضياع،
إنها قمة خارج الموضوع،
فالهموم العربية الضاغطة جميعاً لم تتوافر لها بطاقات دخول إلى القاعة الفخمة في الفندق الملكي الفخم بعمان.
لا قضية فلسطين سمح لها بالدخول شرعاً، ولا مسألة لبنان، لا أزمة الصحراء المغربية ولا الهجوم الأميركي المسلح المتواصل على الجماهيرية العربية الليبية عبر تشاد وبواسطتها، لا قضية أريتريا ولا مسألة السودان المهدد بخطر التفتت تحت ضغط الجوع والتيارات الانفصالية.
يكفي أن نتذكر إن أدراج الصراع العربي – الإسرائيلي قد تطلب معركة شرسة قبل أن يقر كبند – مجرد بند – على جدول أعمال قمة الوجود الأميركي المسلح في الخليج.
فماذا يمكن أن نتوقع من قمة هذا سياقها وهذه شعاراتها؟!
مصالحات ثنائية؟!
مساع حميدة للمصالحة بين المختلفين من الملوك والرؤساء؟!
تهدئة الجو العربي وتعزيز روح التضامن بين المحتشدين في عمان؟! حسناً ضد من؟!
إن الموضوع خارج القمة، أو إن القمة خارج الموضوع،
وعلينا أن ننتظر شيئاً آخر، جهداً من طبيعة أخرى، تحركاً منبعه الذين تحت لا الذين فوق، لكي يصبح أن نأمل بقدر من التغيير في هذا الواقع العربي القاتل.
ولعل الفشل المتوقع لهذه القمة المرتبكة يكون مصدر الأمل.
مع الاعتذار عن السوداوية التي أوصلت إلى مثل هذا المنطق السادي!
استدراك : قالت تقارير الأطباء في تونس التي أذاعها زين العابدين بن علي إن بورقيبة بات عاجزاً عن ممارسة الحكم فخلع،
ماذا في الحكام الذين تقول تقارير الأطباء إنهم باقون لأنهم فرضوا العجز على شعبهم؟!

Exit mobile version