طلال سلمان

على الطريق قمة الفرصة الأخيرة!

ليس من حق الرئيس أمين الجميل أن يخطئ في تقدير الموقف، هذه المرة أيضاً، فيضيع فرصة القمة العاشرة مع الرئيس حافظ الأسد من دون نتائج حاسمة تسرّع مسيرة “الحل الوطني” للأزمة في لبنان.
وغني عن البيان إن هامش المناورة قد ضاق تماماً: فكل شيء محدد الآن وواضح، وثمة معيار أو مقياس للفرز والتصنيف لا يمكن تجاهله، خصوصاً وإنه مكتوب ومطبوع وممهور بالتواقيع ومسجل لدى “الكاتب بالعدل” في دمشق.
كل شيء: بدءاً بـ “العلاقات المميزة”، وهو الموضوع الذي كان يعتبر شائكاً وحساساً، إلى أدق تفاصيل الصيغة السياسية العتيدة بتطبيقاتها الداخلية جميعاً (الحكم، الحكومة، مجلس النواب، النظام الاقتصادي، التعليم، الجيش، الأمن الداخلي)، من غير أن ننسى الملحق المهم الخاص بآلية إنهاء حالة الحرب ومددها ووسائل علاج مختلف المواجع الناجمة عن حروب الحرب الأهلية الطويلة ومنها مواضيع التهجير والمهجرين والمفقودين والمخطوفين المجهولة مصائرهم برغم أن “المعنيين” يعرفونها بالدقة.
ثم إن الاتفاق الثلاثي يرتكز في أساسياته إلى نصوص رسائل ثلاث بعث بها “رئيس الهيئة التنفيذية للقوات اللبنانية” إيلي حبيقة، إلى عبد الحليم خدام، نائب رئيس الجمهورية العربية السورية، عبر فيها بصراحة كاملة عن “خيار المجتمع المسيحي” كما عن مخاوفه وحدد بالتالي الضمانات المطلوبة من داخل الخيار العربي وبواسطته وعبر سوريا، وسوريا بقيادة الرئيس الأسد بالذات.
وبديهي الافتراض أن “القوات” بمسلكها حيال المفاوضات التي أوصلت إلى “الاتفاق” ثم بتوقيعها “الاتفاق”، قد أكدت التزامها بهذا الخيار العربي، وهو الخيار الذي كان الرئيس الجميل يقول إنه سبق إلى التزامه حين ألغى اتفاق 17 أيار السيء الذكر.
أما غير المنطقي فهو أن يغلب الرئيس الجميل مشاعر الخصومة الشخصية تجاه “القوات” ورئيسها على خيار سياسي أساسي من شأنه أن يحدد مصير البلاد والعباد.
وإذا كان أمين الجميل يعتبر نفسه صاحب الفضل في “أخذ المسيحيين إلى دمشق” وفي “إدخال سوريا إلى المجتمع المسيحي” فأين وجه الصواب في اعتراضه على أن يكون من يعتبرهم خصومه قد خاصموه في العديد من المسائل ولكنهم لم يتركوا دمشق نكاية به. ولم يحاربوه على سبقه في الخيار بل على تردده في ترجمة هذا الخيار خطوات ملموسة تخرج البلاد من المأزق الدموي المتفاقم يوماً بعد يوم.
لقد استخدم رئيس الجمهورية ورقة “القوات”، في وقت مضى، كعذرللتباطؤ، وأحياناً للتملص من موجبات الخيار، وبالتالي الحل، وكان لسان حاله يقول: “اعطوني المزيد من الوقت لإقناع “القوات” وسحبهم من إسرائيل أو إخراج إسرائيل من قبلهم”..
ثم استخدم رئيس الجمهورية ورقة “القوات” كعذر في الاتجاه المضاد تماماً، ولكن للغرض نفسه، بعدما حسمت “القوات” أمرها والتزمت الخيار العربي، فصار منطقة: “أتريدون أن أجيء ملحقاً لـ “القوات”. هم يقررون وعلي التنفيذ؟! إنهم تريدون تمكين “القوات” مني وتنصرونهم علي، في حين إني أنا الصديق والحليف الثابت والدائم”.
وفي الوقائع فإن رئيس الجمهورية قد أوقف المحاولة الأخيرة والأكثر جدية لتنفيذ البيان الوزاري الشهير، بحجة الاضطرار لمواجهة انتفاضة “القوات” الأولى في 12 آذار 1985، وكانت الحجة يومها إن “القوات” تزايد عليه في الشارع المسيحي وتظهره بصورة المفرط بحقوق الموارنة والمسيحيين.
أما بعد انتفاضة “القوات” الثانية في 9 أيار 1985، بكل التطورات السياسية المهمة التي نجمت عنها وأبرزها الاندفاع نحو دمشقٌ، ومن ثم نحو المفاوضات الثلاثية (مع حركة “أمل” والحزب التقدمي الاشتراكي)، فقد حاول رئيس الجمهورية انتهاز الفرصة للظهوربمظهر الأكثر تطرفاً بين المسيحيين والأكثر تحفظاً بالتالي على الخيار العربي (السوري تحديداً) وعلى مشروع الحل الذي لا بد أن يرتكز على هذا الخيار بالذات،
وملفت بالطبع أن يكون أمين الجميل قد خسر خلال سنة ونصف،بل أقل، موقع الحليف الرقم واحد لسوريا في لبنان، لحساب “خصومه” الذين خرجوا أصلاً من رحم حزبه (الكتائب) كما من رحم الحرب التي كان يسعده أن يعتبر نفسه بطلها الأبرز (من الكرنتينا إلى جسر الباشا وتل الزعتر، مروراً بحارة الغوارنة ومخيم ضبيه وانتهاء بمعركة شكا الشهيرة).
وملفت أيضاً أن يكون خسر في الفترة نفسها العلاقة ولو بإطارها العادي، مع قطبين سياسيين رئيسيين هما نبيه بري ووليد جنبلاط. أكرها على أن يتحولا من مطالبين بإسقاطه الفوري إلى وزيرين في حكومته ومدعمين لعهده. ثم أن تستطيع “القوات” التي لم يكن بينها وبينهما إلا السيف أن تنشئ معهما بالذات علاقة تطورت عبر الحوار والمفاوضة والتسليم بضرورة الحل على قاعدة الخيار العربي والإصلاح السياسي، حتى أثمرت الاتفاق الثلاثي، فاتحة الباب لاحتمال قيام جبهة سياسية حاكمة من أطراف الاتفاق الثلاثة.
وملفت أخيراً أن يكون أمين الجميل اليوم، وبعد تسع قمم مع الرئيس حافظ الأسد، مضطراً لأن يقدم من الأعذار عما لم يفعله مما اتفق عليه فعلاً أكثر مما يقدم من الأفكار والطروحات التي من شأنها إرساء العلاقات بين البلدين التوأمين على أسس ثابتة، كما دفع البلاد نحو طريق الخلاص، ناهيك عن تمتين العلاقات الشخصية بالثقة والمصارحة والمكاشفة والتحديد القاطع لما يمكن ولا بد من قبوله وما لا يمكن قبوله في أي حال.
ومؤكد إن الرئيس الجميل قد خسر الكثير من رصيده الشخصي لدى القيادة السورية، وهي خسارة كانت تتسارع بخط طردي مع الخسائر المتعددة التي مني به رصيده الشخصي ورصيد “الرئيس في لبنان،
فدمشق قد تكون دعامة وضمانة قوية لحاكم واضح في خياره حاسم في نهجه ثابت في تحالفاته معها ومع القوى السياسية المحلية، ولكنها لا تستطيع ولا تقبل لنفسها أن تدعم من لا يفتأ يكتل في وجهه المزيد من الخصوم، وغالباً بلا مبررات مقنعة، خصوصاً وإن معظم هؤلاء الذين استخصمهم أمين الجميل هم بين حلفاء دمشق والملتقين معها على أساسيات الحل العتيد للأزمة في لبنان.
والكل يعرف إن دمشق كانت تسد أذنيها عن سماع الذاهبين إليها للشكوى من تصرفات رئيس الجمهورية، ومن بعض تحركاته وتوجهاته السياسية المثيرة للشكوك والريب، إذ هي تمس جوهر الخيار العربي المفترض، وكان العديد من هؤلاء يعودون وفي صدورهم شيء من المرارة والشعوربالخيبة، ويتهمون دمشق في صحة تقييمها للناس والسياسات،
والكل يعرف أيضاً ، إن دمشق صدت العديد من حلفائها ومنعتهم من فتح ملف “البديل”، حين كان هؤلاء يستشهدون بوقائع فاضحة تثبت عدم التزام أمين الجميل بما تعهد به لدمشق وفيها وتملصه من تعهدات قطعها على نفسه.
كانت حجة دمشق الدائمة: “- هذا رجل نحفظ له أنه ألغى اتفاق العار، اتفاق 17 أيار، والتزم الخيار العربي، فلا يجب أن نضيعه أو أن ننسى موقفه الحاسم ذاك بسبب بعض الأخطاء في الممارسة أو بسبب سوء تقديره لبعض الظروف والأوضاع مما يوصله إلى استنتاجات وبالتالي إلى مواقف لم نكن نتوقعها منه. دعونا نعطه الفرصة كاملة، دعونا نتصل به، لعله ينتبه إلى الخطأ فيعود عنه…”
لكن إلغاء 17 أيار، على أهميته التاريخية، لا يمكن أن يكون رصيداً لا ينضب.. (خصوصاً وإن البعض عاد فتذكر إن أمين الجميل شخصياً هو الذي ورط لبنان في هذا الاتفاق البائس)، ثم إن التوقف عند “الالغاء” لا يحل مشكلة الحرب المفتوحة بعد في لبنان، بل إن شرط الالغاء الفعلي أن تزول أسباب الحرب العميقة، وهي بالتحديد تلك التي لمسها الاتفاق الثلاثي ووفر العلاج المقبول والمناسب مبدئياً لها.
فالوجه الآخر لإلغاء اتفاق 17 أيار أن تتأكد هوية لبنان القومية، وأن يتم إصلاح نظامه بما يمكن أبناءه جميعاً من أن يكونوا مواطنين متساوين فيه، فلا يظل فيه سيد مهيمن وعبد مهيمن عليه، صاحب امتياز ورعية منكور عليها حتى حق الاستمتاع بحمل الهوية ناهيك بسائر الحقوق الطبيعية التي يمكن أن تندرج في خانة حقوق الإنسان إياها.
وكان مأمولاً، ذات يوم، أن يكون أمين الجميل صاحب مبادرة أو صاحب دور في إيصال لبنان إلى شاطئ السلامة، لا أن يكون المتهم بتجديد الحرب الأهلية والمتسبب في إطالة عمرها حتى تلتهم أعمار اللبنانيين جميعاً إضافة إلى مقومات وجود البلد.
أما اليوم فثمة من يقول علناً: “مع كل قمة ذهب إليها الرئيس الجميل في دمشق كان يتناقص الأمل في بقاء الجمهورية إذا بقي الرجل رئيساً للجمهورية”.
ولم تكن العلة في دمشق، بدليل إن مشروع الحل الفعلي لم تمكن صياغته ولا أمكن إقراره إلا في دمشق وبرعايتها المباشرة، وما كانت دمشق ستبخل على أمين الجميل بمثل ما بذلت مع إيلي حبيقة (ونبيه بري ووليد جنبلاط) من جهد لو أنه أراده حقاً وطلبه والتزم بموجباته.
مع هذا تظل بقية من أمل في أن لا يضيع أمين الجميل فرصة القمة العاشرة، التي قد تكون “الفرصة الأخيرة” بأكثر من معنى، فوضع البلاد لم يعد يتحمل المزيد من إضاعة الفرص (والرئيس الجميل لقب بحق “ملك الفرص الصائعة”)، يستوي في ذلك وضع الحكم فيها كما وضع الناس في ضوء معطيات التدهور الاقتصادي المريع والشلل السياسي الكامل والمشاكل الاجتماعية المتراكمة والمتوالدة كالفطر، إضافة إلى حال الخراب الأمني المستحيل وقفه في غياب حل سياسي كامل.
وليس من قبيل التنبؤ الافتراض إن عودة الرئيس أمين الجميل من دمشق بغير اتفاق معها على ما تم الوصول إليه فيها وبرعايتها ستكون نذير سوء للبنان عموماً وللحكم فيه بشكل خاص،
فلبنان المشغل بالحرب عن كل ما عداها يمكنه أن يعيش بلا دولة وبلا حكم أو حكومة لفترة، وهو قد عاشها بالفعل،
أما لبنان السلام فشرط وجوده قيام دولة عادلة وحكم تتوافق عليه أكثرية اللبنانيين،
وإذا خيّر لبنان اليوم بين السلام الذي بدأت بشائره تلوح في الأفق. ولو كوعد، وبين أي قائد أو أية قيادة، بل بين السلام وبين أي حزب أو تنظيم، لاختار السلام حتماً وبلا تردد.
ولقد قبل اللبنانيون بمجموعهم أطراف الاتفاق الثلاثي باعتبارهم “صانعي سلام” بينما كان كل منهم قبل التوقيع زعيماً لفئة وعدوا شبه شخصي للفئات الأخرى.
فالسلام هو المطلب الأغلى بل الأمنية الأعز،
وما يتمناه اللبنانيون ألا يبدو أمين الجميل اليوم وكأنه الذاتب إلى حربه الخاصة ، بينما الحرب العامة قد انتهت والجميع ذاهبون إلى سلام عام يرونه قاب قوسين أو أدنى ولا يرضون عنه بديلاً.
فالمحارب الأخير لن يكون رئيساً بأي حال،
كما إن “الحرب الأخيرة” قد لا تبقي بلداً على الاطلاق.
والفرصة الأخيرة مفتوحة بعد، ولكن مداها قصير قصير وضياعها باهظ التكاليف حتى لمن لديه خبراء في حساب “التكاليف” مثل روجيه تمرز وشركاه.

Exit mobile version