طلال سلمان

على الطريق قرار موحّد في دولة ممزقة!

كلما توهّم اللبنانيون أنهم اقتربوا من أمنيتهم في قيام دولة، تطوّع أهل الحكم لكي يبدّدوا هذا الوهم، وقدموا صورة جديدة منقحة ومزيدة عن “اتحاد” القبائل أو الطوائف أو الزعامات أو الرئاسات أو المافيات أو “دول” المرجعيات اللبنانية!
فالدولة، حتى إشعار آخر، تحت التأسيس، ومن الأنسب أن يبقى مشروعها مجرد احتمال، لكي تبقى مجالات الاستثمار مفتوحة أمام مراكز القوى جميعاً، سواء أتحصنت بالطائفية أم بالمذعهبية أم بالجهوية أم بسحر المال أم استقوت بالقرار الدولي العتيد الذي سيعيد رسم خريطة المنطقة فوق مقتضيات “السلام الإسرائيلي”.
وأية قراءة متأنية لحرب الضحايا على الضحايا في الموضوع الفلسطيني تكشف مجموعة من الحقائق البسيطة والمخيفة:
*أولى تلك الحقائق وأخطرها لبنانياً أن “لا دولة في لبنان”!
فالدولة، تعريفاً، هي مجموعة من المؤسسات التشريعية والتنفيذية، ودستور وقوانين وأصول تراعي طبيعة “الجمهورية” ذات النظام الديموقراطي البرلماني،
وعبر الجدل الصاخب والمفتقد إلى سياق منطقي إضافة إلى افتقاده “النصاب الوطني” حول مشروع إسكان “المهجرين” الفلسطينيين في “القريعة” على واحد من خطوط التماس بين الطوائف والمذاهب والتقسيمات الإدارية، بهتت صورة الدولة حتى كادت تتلاشى…
جاء القرار من خارج المؤسسات،
ثم انطلق الجدل حاداً وعنيفاً ومباشراً وشخصياً كأن ليس في لبنان مؤسسات، وكأن لا حكم ولاخطة ولا برنامج ولا قرار موحداً، بل مجموعة متاريس داخل مجلس الوزراء وخارجه، لها “جماهيرها” المتمايزة والمتواجهة والمتوزعة على مختلف “الساحات” و”الشوارع” اللبنانية!
لقد بدا الحكم وكأنه أداة تقسيم لا أداة توحيد،
فالمؤسسات إما غائبة وإما مغيبة وإما شكلية، إذ أن الجدل لا يجري خارجها فحسب وإنما يصدع كيانها الهش أصلاً ويلطخ سمعتها غير العطرة أصلاً، ويفضح القسرية والاصطناع في “وحدة” قرارها.
*ثانية تلك الحقائق لبنانياً أن السلطة بحجم شخصية أو مالية ممارسها لا بحجم صلاحيات موقعه،
فالرؤساء درجات، والوزراء درجات، وكذا سائر المسؤولين في مختلف المواقع والمناصب “الممتازة”!
القادر بماله أو المستقوي بطائفيته أو بمذهبيته يأخذ من السلطة بقدرما يشاء وتيسر له الظروف، والضعيف لأنه لا يمثل إلا “الشعب” يتلطى في حمى القوي أو المستقوي ويتذرع بالتضامن الوزاري ووحدة الحكم فيصمت ويغيب رأيه حتى لا تأخذه سنابك الخيل!
*ثالثة تلك الحقائق لبنانياً: أن الحكومة رجل واحد وإن تعدّدت الحقائق وألقاب المعالي،
لا وجود لمؤسسة تدعى “مجلس الوزراء”، وبالتالي فمن حق رئيس الحكومة أن يرد بسخرية على من طالبه بعرض الأمر على مجلس الوزراء: “- حط بالخرج، تقول “مجلس الوزراء”؟ أنا مجلس الوزراء”!!
هذه الحكومة – المفرد، مثلاً، ظهرت في صورتين متناقضتين تماماً خلال عشرة أيام لا غير،
*** فحين اتصلص الأمر بشركة سوليدير لصاحبها الشيخ – الرئيس بدا مجلس الوزراء صلباً في وحدته!! وتجلى التضامن الوزاري بهياً ومشرقاً وحاسماً كما في أعظم الديموقراطيات في العالم!
أي أن الأكثرية الساحقة في مجلس الوزراء تكاتفت وتساندت وتوحدت كلية في وجه الدولة، وقررت أن تقطع الشركة بعض البحر – إضافة إلى قلب بيروت – على حساب المكلف اللبناني.
*** أما حين طرح موضوع الفلسطينيين في لبنان فقد بدت الحكومة ممزقة بلا عمود فقري ولا ضابط ولا منهج، وانقلبت من مشروع جبهة وطنية كما كان يفترض إلى محاور عدة لجبات مختلفة وبالعمق على أبسط بديهيات الوحدة الوطنية والهوية القومية!
لم يظل سيف في غمده: شهرت كل السيوف وأطلقت صرخات الحرب وقرعت الطبول ولعلعت الأصوات في معركة وهمية كما في أفلام الغرب الأميركي والهنود الحمر، واشترك الجميع في اصطناع الفيلم الجديد!
وكان لا بد أن تتقافز الأسئلة والتساؤلات:
ما الذي وحد الرؤساء والوزراء وحجب معارضة المعترضين عندما تعلق الأمر بسوليدير ونهبها المنظم لحقوق أصحاب الحقوق وسائر اللبنانيين في عاصمتهم، ثم جعلهم فجأة يتقافزون إلى المتاريس العتيقة والمهجورة عندما أضيف إلى جدول الأعمال بند من خارجه يتصل بالفلسطينيين و”حقوقهم” الناجمة عن وجودهم في لبنان وعن مستقبل توصيفهم القانوني فيه؟!
المال يوحد و”القضية” تفرّق!!
وفي المرتين تتأكد الحقيقة ذاتها: أن لا حكومة، لا مجلس وزراء، لا مؤسسات… وبديهي القول أن لا جمهورية لا نظام ديموقراطياً برلمانياً، وبالتالي فلا دولة!
*أما رابعة الحقائق فتتصل بالفلسطينيين: لم يعد موضوع الفلسطينيين في لبنان مسألة لبنانية أو عربية، بل صار “قراراً دولياً”، لا علاقة للعرب، ومن ضمنهم لبنان، فيه.
وإذا كان بديهياً القول أن عرفات قد أسقط أمر فلسطينيي الشتات من حسابه، وأن لا قيادة فلسطينية بديلة قادرة على تحمل هذه المسؤولية، فمن الضروري القول أيضاً أن لا مرجعية عربية لكل ما يتصل بالفلسطينيين، سواء داخل فلسطين أم خارجها، وإن بضعة ملايين فلسطيني متروكون الآن للريح، والقرار في ما يعنيهم “دولي” وبالتالي فهو أقرب ما يكون إلى التوجه الإسرائيلي والتصور الإسرائيلي للمنطقة.
سيكون مثيراً للإشفاق وليس للضحك أن يخرج “مجلس الوزراء”، متى انعقد، بقرارحول إسكان الفلسطينيين، بعضهم من المهجرين أو كلهم، في “القريعة”،
ستكون مهزلة أن يتبادل الوزراء الاتهامات الخطيرة علناً وعبر الإذاعات والصحف والتصريحات المتلفزة بالألوان، ثم يؤكدون وحدتهم عبر إضفاء الشرعية على القرار الذي تفرد باتخاذه وزير المهجرين بالتفاهم مع رئيسي الجمهورية والحكومة، كما قال.
وستكون مأساة أن تأكد الانقسام وتعطل القرار، لأن ذلك سيعني سقوط الحكومة والحكم مادياً وليس فقط معنوياً،
لكن اللبنانيين معتادون على خلطة عجيبة من المهازل – المآسي أو المآسي الهزلية، وعلى هذا فلا خطر على الحكم أو على “معارضيه” أو على القرار أو على “القريعة”،
وهكذا ستضاف مهزلة – مأساة أخرى إلى الفولكلور اللبناني المجيد المؤكد لحضور الطوائف والمذاهب والدولار على حساب الدولة،
… في انتظار حفلة فيروز عن روح بيروت التي ستشكل ذروة الاضافات إلى الفولكلور وذروة الشهادات على استقواء الحاكم على الدولة واللبنانيين الأحياء منهم والأموات.
وفيروز مثل عموم اللبنانيين مجرد شاهد يروي للتاريخ، لكن “اللاعبين” يكملون تزويرهم للتاريخ بعيداً عن الشهود كما عن الشهداء اللبنانيين منهم والفلسطينيين والعرب أجمعين!

Exit mobile version