طلال سلمان

على الطريق قراءة لمضامين سيئة في نص جيد الصياغة!

ممتازة هي الصياغة، وبديع هو الإنشاء، ورائعة السبك هي تلك الشعارات المتنوعة والمتعددة التي تضمنها خطاب الرئيس أمين الجميل، أمس، أمام رجال السلك الدبلوماسي المعتمدين في لبنان،
والتنوع راجع إلى تعدد “الكتبة” الذين أسهموا في تدبيج الخطاب الذي كاد يتضمن فقرة خاصة بسفير كل دولة مهمة، من الحاضرين، ويتضمن رسائل خاصة موجهة إلى “الغائبين” وأبرزهم – حسب الخطاب – سوريا وجمهورية إيران الإسلامية، فضلاً عن المتعذر حضورهم كالإسرائيليين!!
لكنها ملاحظة في الشكل فحسب، وإن كانت تستدعي على الفور ملاحظة ثانية مفادها: لماذا مثل هذا الاحتفال التقليدي “المكزوز” عن تقليد فرنسي إن كان له ما يبرره في قصر الاليزيه فلسنا نفهم له تبريراً في القصر الواقع بين بعبدا واليرزة؟!
أما أهم ملاحظة على المضمون فهي: إن العيب الأكبر في الخطاب يتصل بشخص قائله.. وهذا على أي حال عيب لبناني رائج.. فالنص لا يعكس، في العامة، لا نوايا الخطيب ولا مطالبه الفعلية!! وثمة مفارقة طريفة في هذا المجال: فالكاتب غير القائل، لذلك فهو يكتب “له” أي للآخر، ولكنه “سيبقى” في النص مهما اجتهد لتمثل موقف القائل، وبالمقابل فإن الخطيب غير الكاتب ولذا فسيبقى قادراً – ولو ضمناً – على البقاء خارج النص المعد.. وهكذا نجد نصاً يتيماً، لا هو يمثل كاتبه ولا قائله، ويمكن للطرفين أن يجهرا ببراءتهما منه، الأول لأنه كتبه لغيره، والثاني لأنه قاله في المناسبة وللمناسبة لا أكثر!!
بعد هذا وذاك يمكننا أن نتوغل في النص المفخخ، فهو معد سلفاً، وبالتالي يفترض أن تكون كل جملة فيه مقصودة بذاتها، حتى وإن بدا وكأنها تتناقض مع الجملة التي بعدها، وهنا تلخيص للمحطات التي يتضمنها الخطاب الرئاسي:
*أول ما يستوقف في نص يحمل اسم رئيس الجمهورية إنه لا يتحدث عن اللبنانيين كشعب يتكون من مواطنين، بل كطوائف حكمت عليها الظروف بأن تتواجد فتتعايش اضطراراً في إطار كيان سياسي واحد، مع حفظ حق كل منها في أن تستمر في علاقاتها مع الخار- ومع الآخرين في الداخل – كوحدة قائمة بذاتها، متمايزة ومتميزة (واحداها ممتازة) عن الآخر!
*يستتبع ذلك، بالضرورة، أن يأتي النص “مقاطع مفرزة” (على وزن “قطع مفرزة باسم البيع”) جُمعت لغرض، لكن تجميعها المرتجل لا يخفي حقيقة “التجزئة” في النص، ولا التوجه المعلن فيه للبيع بالمفرق!
1 – ففي الخطاب “مقاطع” عن الموارنة لهم، بمن فيهم الكتائب و”القوات”، وللمسيحيين عموماً، ينذرهم عبرها من خلال تجربة إيلي حبيقة، ويحذرهم من الهرب منها إلى الضفة الأخرى، أي إلى سمير جعجع، ويقدم نفسه هو، أمين الجميل باعتباره المخلص الوحيد والمنقذ القادر!
2 – وفي الخطاب وقفة مطولة أمام “الإسلام السياسي” – أو السنة – تنضح باللهفة والجهر بالاستعداد للتواطؤ على الآخرين، وهو – لشدة احتياجه إليهم وعظيم ثقته بهم – يكاد يسميهم عبر التحية الحارة واحداً واحداً، مطمئناً إلى أن “اللقاء الإسلامي” لا يضم بين أركانه لا رشيد كرامي ولا سليم الحص،
3 – ثم إن في الخطاب مقطعاً مكرساً للطائفة الشيعية، يمنيها بما لا يمكن أن يعطى لها، ولكن من أجل أن يغريها بالذهاب في المعركة ضد الفلسطينيين إلى نهاياتها (كأنما هذا هو مطلب الشيعة من دنياهم، وكأنهم أرادوا أو يريدون هذه الحرب التي لا نهاية لها ولا مخرج منها.. هذا بغير أن ننسى أمين الجميل، ومن خلفه “القوات” هم الآن في موقع الحليف الفعلي ليس للفلسطينيين، ولكن للقيادة التي تريد الحرب وتنتفع بها – مثله – لأغراض سياسية تكتيكية محدودة وليس بهدف التحرير أو استعادة الأرض السليب).
4 – ثم إن الخطاب يتضمن مروراً سريعاً، وبشيء من الاستهانة، على الدروز الذين يبقون في نظر أمين بيار الجميل القيادة البديلة والمنافس القوي لطائفته ولحزبه، في ظل “الأيديولوجية” السائدة والتي تحدد تاريخنا بسديم أوله الفينيقيون ومركز إشعاعه فخر الدين الثاني وأعظم تجلياته المتصرفية وهي هي “لبنان” الماضي والحاضر والمستقبل ولا شيء عداها.
*إن الخطاب يتحدث عن “الشرعية” بوصفها نقطة تقاطع بين مصالح الطوائف، وليس بوصفها تعبيراً عن إرادة الأغلبية وتكريساً للديمقراطية ومجسداً للوحدة الوطنية.. “ففرصة البقاء الوحيدة تكمن في التضامن الداخلي الذي من شأنه طمأنة كل طائفة عبر حقوقها، بضمان حقوق الجميع”.
*إن الخطاب يتحدث عن لبنان وكأنه شيء شاذ، منفصل عن محيطه، لا يتأثر به ولا يؤثر.. فلا هو معني بالصراع العربي – الإسرائيلي، برغم شكواه المرة من بعض انعكاساته عليه، في الماضي (عبر الوجود الفلسطيني) أو في الحاضر (عبر الاحتلال الإسرائيلي الذي هو ، في رأيه، أحد “الاحتلالات” لا أكثر) ولا في المستقبل (والمستقبل لله، على أي حال!)
وجميلة هي الشعارات المصاغة بكلمات فخمة الرنين عظيمة الدوي مثل: “لبنان لن يكون أبداً لا وطناً بديلاً، ولا منطقة عازلة، ولا ممراً تعبر من خلاله المصالح السياسية للبعض أو المصالح الاستراتيجية للبعض الآخر”،
لكن ماذا عن واجب لبنان الوطني في الصمود أمام الخطر (والاحتلال) الإسرائيلي، قبل أن نذكر بواجبه القومي في الصراع العربي – الإسرائيلي وإزاء شعب فلسطين وقضيته (وبعضه يعيش في لبنان ويشكل عنصر ضغط وثقلاً سياسياً لا يمكن إنكاره؟!)
ثم على تستوي المطامح السياسية للبعض مع المصالح الاستراتيجية للبعض الآخر؟ ومن المعني بهذا وذاك؟!
وهل يكون التوجه إلى هؤلاء السفراء والمبعوثين بكل قوة الدول التي يمثلون بديلاً عن حقائق الحياة والجغرافيا والتاريخ: “ما أضخم الإمكانات التي يملكها مجمل أصدقاء لبنان! فبامكانها أن تكون حاسمة على وضع حد لاحتلالات أرضه، وإخراجه من الأزمة السياسية والاقتصادية التي زج فيها”؟!
الحرب جاءتنا من الخارج، والأزمة أيضاً، وكذلك يأتي الحل، دائماً من الخارج،
والخارج اثنان: صديق يساعدنا وهو الغرب وحده، وطامع أو طامح هو العرب ولا بأس من مساواته – في الشر – بإسرائيل والتحدث عن “الاحتلالات” لتمويه حقيقة الاحتلال الإسرائيلي ومساواته بالوجود العسكري السوري الذي جاء بطلب الشرعية وغطائها وهو وجود لا تملك شرعية أمين الجميل أن تعوضه – في مناطق تواجده – حتى لو رغبت، فكيف وهي تكاد تعلن عدم رغبتها باستعادة المناطق ذاتها!!
*على إن ذروة النفاق السياسي في الخطاب تجيء في ذلك المقطع الذي يتحدث عن إيران من غير أن يسميها، ويحرض العالم عليها، ويتهم معها سوريا باقتطاع “أجزاء من أرضنا” و”تحويلها إلى مراتج للارهاب ما زال مواطنون من بعض البلدان التي تمثلون محتجزين فيها كرهائن” بغير أن ينسى تذكير السوفيات – تحديداً – بأنهم قد نالوا نصيبهم من ويلات الارهاب والإرهابيين.
فالحديث يأتي هنا بلهجة التحذير من “التيارات المتطرفة التي تتهددنا جميعاً”، والكل يعرف إن أمين بيار الجميل هو وريث الحزب الأسبق إلى التطرف في لبنان والمنطقة، عموماً “والأغنى” تجربة فيه، ونتائج تجربته ما تزال واضحة للعيان في النبعة وبرج حمود وتل الزعتر والمكلس وحارة الغوارنة وجسر الباشا وحي الأشهب، بغير أن ننسى آلاف المفقودين والمخطوفين الذين لاقوا وجه ربهم (وليتهم أبقوا كرهائن برسم المفاوضة)،
لكن هذا كله لا يمنعنا من أن نسجل للخطاب بعض الايجابيات خصوصاً وهي ترد على لسان أمين الجميل، ومنها:
أولاً – إدانة التوجه إلى الكنتنة والفرز الطائفي. فمن حق ابن الحزب السباق إلى “فرز” كانتونه “المستقل” أن يسجل له (وعليه) إنه يقول اليوم أمام الملأ: “إن تجارب الدويلات الطائفية هذه، أينما كانت، وكائنة ما كانت جاذبيتها، لا يسعها إلا أن تواصل تمزيق الوطن، فستنتزف الطوائف وتغلقها على نفسها، على نحو انتحاري قاطع”…
(ترى هل يظل هذا المنطق هو نفسه إذا تحقق لأمين الجميل ما لم يتحقق لبشير من هيمنة كاملة على الـ 10452كلم، أو حتى إذا تمكن “الرئيس” من إزالة “القائد” سمير جعجع وفرض سيطرته بلا شريك على الكانتون الذي بين كفرشيما والمدفون؟!).
ثانياً – إدانة سياسة التفرد التي مارسها أمين الجميل خلال الثلث الأول من ولايته (1982 – 1984)، والتي نعامي من آثارها حتى الآن، فهو كان يرى نفسه “المنقذ”، والآن يقول إن “الحلول لا يمكن أن تكون من صنع رجل واحد، بل تستدعي عملاً جماعياً متضامناً على المستوى الوطني الشامل”… فعسى يتحقق هذا ولو على مستوى أمراء الطوائف التي أقرب أمين الجميل، أخيراً، إنه واحد منهم وليس ملكاً عليهم!
ثالثاً – الإقرار بأن الموافقة على اتفاق 17 ايار كانت خطيئة، إذ اتضح – أخيراً – لأمين الجميل بأنه ما كان ليؤدي إلى انسحاب الجيش الإسرائيلي (للمناسبة: سقطت كلمة المحتل سهواً، أو إن الكاتب لم يشأ ذكرها حتى لا يدين نفسه إذ لعله كان بين صائغي ذلك الاتفاق المشؤوم…).
صحيح إن أمين الجميل لم يقل هذا الكلام، الآن، إلا ليبرر اعتراضه على بنود في قلب الاتفاق الثلاثي “لأنها تضمنت مساً بالسيادة الوطنية”، ولكن مجرد قوله أمر إيجابي!
على إن الغيب يظل خطيراً: فهو لم يجد في وجود الجيش الإسرائيلي احتلالاً، وبالتالي مساً بالسيادة الوطنية، ولكنه وجد مثل هذا المس في نص كان في كل الحالات يحتاج إلى موافقته شخصياً وموافقة المؤسسات الدستورية جميعاً قبل أن يتحول إلى دستور وقوانين وسياسة رسمية معتمدة.
مرة أخرى تطل “الاحتلالات”، أي المساواة بين “إسرائيل” والطرف العربي، وهو هنا السوري، وهي مساواة لا يقبلها إنسان له عقل سوي وحد أدنى من المنطق والوعي بمصلحة لبنان ناهيك بحقائق التاريخ والجغرافيا والمصير المشترك.
هذا مع العلم إن وفد أمين الجميل (الثلاثي هاني سلام، إيلي سالم وسيمون قسيس) في دمشق الآن، ولليوم الثالث على التوالي، يناقش ويداور ويحاور حول نص أولي لصيغة مقترحة كبديل عن الاتفاق الثلاثي، في تنظيم وتقنين العلاقات مع سوريا بما يمكن من إرساء العلاقات بين اللبنانيين (وكطوائف دائماً) على أسس ثابتة ومقبولةز
فهل في ذلك الكلام مما يساعد حقاً على النجاح في مثل هذه المهمة، والوصول من ثم إلى القمة الثانية عشرة، المرشحة لأن تكون، فيما لو انعقدت، نقطة بداية النهاية في الحروب الأهلية اللبنانية (والعربية)، والتي لم تكن في أي يوم خرافة بأسبابها البحت محلية، كما يدعي خطاب أمين الجميل، برغم إن النص يسرد حيثياتها جميعاً؟!
هذه قراءة متعجلة في النص البديع الإنشاء لخطاب أمين الجميل،
ولكم كنا نتمنى لو إن المعاني كانت متوافقة، وعبر التجربة العملية، مع النص،
لكن أحداً لا يستطيع أن يقرأ هذا الكلام مع نسيان قائله،
ومن هنا فإن التمنيات ستبقى تمنيات، وسيذهب النص وقوداً للحرب الأهلية التي يراها أمين الجميل خرافة، ويجيء نصه ليؤكدها كحقيقة مفجعة.
مع هذا فلنأمل أن يرى الآخرون ما لم يره أمين الجميل، وأن يقولوا ما لم يقله، وأن يشجعوه على توحيد لغته في الخطب المقبلة وفي الخطوات المقبلة لعلها تساعدنا (وتساعده) في الوصول إلى المخرج المرتجى في اتجاه الإنقاذ!
وليس التمديد، على أي حال، هو المخرج أو الإنقاذ على وجه الخصوص… مع التقدير لكل مدبجي النصوص!!

Exit mobile version