طلال سلمان

على الطريق قراءة في نشرة أخبار عربية من إذاعات الطوائف اللبنانية!

منحتنا الثلوج وطول الطريق و”أناقتها” يوم أمس، فرصة الاستماع إلى دزينة من نشرات الأخبار التي كانت تبثها بالتتابع دزينة من الإذاعات – الأصوات التي تعبر كل منها عن موقف طائفة أو حزب في الطائفة أو ميليشيا العلمانيين في حزب الطائفة الديموقراطية البرلمانية.
بعض الطوائف تتوقف وتوقف الناس على الساعات، وبعض آخر يستوقفك على الربع الأول بعد الساعة، وبعض ثالث في منتصف الطريق بين ساعتين، وبعض رابع عند محطة “ربع الساعة الأخير” الشهيرة.
لكن الطريق إنه، في ما عدا الخبر المحلي، فإن جميع إذاعات الطوائف (وكذلك صحف الطوائف وقيادات الطوائف وأحزاب الطوائف) تتوافق على قراءة النص الأجنبي الموحد للأخبار العربية،
في الموضوع المحلي: في الغالب الأعم تعليق ولا خبر،
أما في الموضوعات والمسائل العربية فثمة أخبار مترجمة ولا تعليق أو تحفظ أو استدراك أو محاولة لتصحيح الأخطاء الشائنة!
والحق إن النشرات التي سمعنا قد أخذتنا بعيداً عن ثلاث مناسبات عزيزة، فكدنا ننسى إننا في يوم عيد الأم إلى أن تبهتنا الاعلانات والاوكازيونات الخاصة التي وفرها التجار (يا لرقتهم)، وكدنا ننسى أيضاً إننا عشية “معركة الكرامة” التي لولا الانتفاضة المباركة لصارت مجرد عش لبعض الذكريات الحميمة في حنايانا، ثم إننا كدنا ننسى موكب الربيع الآتي تحت المطر وعبر الصقيع ليعطينا غدنا الأفضل الموعود.
إذن، فلقد اضطرتنا “ظروف قاهرة” إلى تشنيف آذاننا بمسلسلات من نشرات الأخبار المعدة – ويا للمفاجأة – في مطبخ واحد، وهذه حقيقة أخرى تكشف جانباً إضافياً من جوانب الواقع البائس الذي نعيش فيه، والذي يتحكم منطقه في فهمنا لما يجري في بلادنا ومن حولنا، إذ إنه يعطينا اللغة التي نتكلمها كما يوفر لنا وسائل الايضاح لاستيعاب ما تعجز عقولنا المكدورة عن هضمه.
ولنبدأ بعرض ما سمعنا، وسمعتم، مع الاعتذار سلفاً عن عدم الالتزام بالنص الحرفي، وعن اضطرارنا للتدخل أحياناً، وعلى طريقة “الكلمة الآن للإعلان”!
1 – أهم الأخبار، بالطبع، خبر وصول “الموفد الرئاسي الأميركي فيليب حبيب” في “جولته الرائدة” (والتوصيف للاذاعات والسر عندها!) لكي يبلغ “الأطراف العربية نتائج مباحثات اسحق شامير مع الرئيس الأميركي رونالد ريغان ووزير خارجيته جورج شولتس”!
وفي الخبر ثلاث محطات للفرح: الأولى إن أصدقاءنا الأميركان كانوا من القوة والبراعة بحيث تحايلوا على شامير فلم ينطق كلمة “لا” في وجه “خطة شولتس للسلام”!
محطة الفرح الثانية: إن الرئيس المصري حسني مبارك قد بهر بهذا الإنجاز الأميركي التاريخي فأطلق لسان وزير خارجيته عصمت عبد المجيد في امتداح المهمة والموفد ومن اقترح أو أعد أو موّل هذه الرحلة الميمونة!
أما محطة الفرح الثالثة: فهي إن خطة شولتس للسلام ما تزال أمامها فرصة للحياة وعلى العرب أن يهتبلوا هذه الفرصة النادرة، وهكذا يحققون نصراً تاريخياً على التعنت الإسرائيلي الذميم!
أما لماذا توصف ورقة شولتس بأنها خطة للسلام، وأين هو السلام في كل هذا الذي يجري؟!
أما أين الانتفاضة، بل وأين شعب فلسطين برمته، وأين قضية العرب الأولى،
وأما أين هو الرد الأميركي الفعلي على تعنت شامير “حماية للسلام وخطته”
هذا متروك للأخبار الأخرى، وفيها، على سبيل المثال لا الحصر:
*تهديد إسرائيلي مباشر للمملكة العربية السعودية بأن تعيد الصواريخ الصينية التي اشترتها واستقدمتها وركبتها – خلسة!! – من حيث جاءت، وإلا فإن الذراع الإسرائيلية الحديدية ستطالها وتدمرها حيث هي!
*بلاغ أميركي رسمي بمنح إسرائيل المزيد من الهبات والمساعدات العينية البسيطة بينها 75 طائرة حربية من أحدث وأقوى طراز!!
ولسنا ندري على سيسبق فيليب حبيب القاذفات الأميركية (سابقاً) الإسرائيلية الآن، فيصل قبلها إلى المملكة، أم تراه يصل بعد فوات الأوان فيقدم تعازيه الحارة مؤكداً تعاطفه شخصياً وتعاطف إدارته مع المملكة الجريح… وهو بارع في هذا المضمار بشهادة إنجازاته في لبنان التي لم ينسها أحد ولا يستطيع نسيانها أحد من اللبنانيين أو السوريين أو الفلسطينيين وغيرهم من العرب!
ففيليب حبيب كان يأمر بإعادة وصل التيار الكهربائي بعد كل غارة إسرائيلية، وهو قد استجاب بلا تلكؤ لبعض الرغبات الملكية العربية التي وصلته فأمر بإعادة ضخ المياه إلى بيروت الغربية، بعدما كان قطعها الغزاة الإسرائيليون ومن معهم، لكي يتمكن صائمو رمضان من إتمام وضوئهم وفقاً للأصول!
بل إن فيليب حبيب وصل في التضحية إلى حد إنه كان يتدخل لفتح طريق غاليري سمعان لقاصدي قصر بعبدا (وهو قد غضب أشد الغضب حين سمع إن شارون قد دخله فتجشا فيه)… بل إنه في مرة أصدر أمره الصارم إلى القوات الإسرائيلية بأن تزيح عن الطريق وتتخفى حتى لا يراها دولة الرئيس آنذاك فيستشعر بمهانة الاذعان في ظل الاحتلال!
… وها هو فيليب حبيب الذي دحر بيغن وشارون انتصاراً للبنانه العزيز ولأصله العربي العريق، يجيء الآن في مهمة نبيلة أخرى، فماذا يريد ملوك العرب أكثر من هذا دليلاً على إخلاص الصديق الأميركي العظيم وصدق عطفه عليهم؟!
إن خطة شولتس للسلام بخير وبين أيد أمينة، فاطمئنوا!!
… ولكن من أين يأتيكم الاطمئنان يا عرب وثمة جندي إسرائيلي قد صرع، أمس، في الضفة الغربية، وتحديداً في بيت لحم؟!
لقد كادت إذاعات الطوائف اللبنانية تقطع برامجها لتوافينا بنشرات طيبة عن حالة هذا المغوار الباسل (الذي لا نعرف للمناسبة من قتله)، من لحظة الاصابة حتى لحظة عودة نفسه إلى ربه راضية مرضية!
طغى الخبر على كل ما يتصل بالانتفاضة وبشعب فلسطين وقضيتها، ولم تتذكر أية إذاعة إن شهداء الانتفاضة قد بلغوا، حتى اليوم، وبالاحصاء الإسرائيلي مائة، (بواقع شهيد كل يوم) ، بينما الرقم بالاحصاء الفلسطيني يقترب من مائتي شهيد،
كادت بعذ الاذاعات توقف برامجها للموسيقى الجنائزية، واختنقت أصوات بعض المذيعات المرهفات المشاعر، وتهدجت أوداج بعض المذيعين الغليظي الأصوات، وبشكل عام انطلقت الاذاعات تسهب في وصف الحادث (وهو الأول من نوعه)، وفي التنبيه إلى مخاطره الجمة، وفي الروايات إن بعض “كبار” المستمعين قد بكى إن لم يكن من التأثر فمن الجزع!
بعيداً عن المواج: كان هذا الخبر أهم في إذاعاتنا “اللبنانية” باللغة العربية من غزو الولايات المتحدة الأميركية، بطائراتها وجنودها، لجمهوريتين في أميركا الوسطى، هما بنما ونيكاراغوا.
للمناسبة: فأخبار الضغط لإسقاط الحاكم الجديد في بنما تقدم وكأن واشنطن تمارس حقاً مشروعاً من حقوق السيادة!
أما أخبار غزو نيكاراغوا فتتجاوز صياغتها كل معايير الوقاحة، وترانا في لبنان نكاد نهتف – عبر إذاعاتنا المحترمة – لليانكي وهم يجتاحون بلداً ويقتلون شعباً صغيراً، بائساً وفقيراً مثلنا، جرب مرة أن يمارس إرادته الحرة على أرضه فخلع الحاكم الطاغية، وأعطى أصواته- ديمقراطياً، وأمام عيون العالم أجمع – للثورة وقيادتها التي تتولى السلطة حتى الآن.
وأغلت الظن إن البعض قد انحاز – طائفياً – لهندوراس، وإن البعض الآخر، رد عليه – من موقع طائفي – بالانحياز إلى نيكاراغوا، وهكذا فقد أكمل الطائفيون هنا حربهم الأهلية هناك…
هذا في حين كانت جماهير أميركية (مائة في المائة) تخرج غاضبة في العديد من مدنها، تحرق العلم الأميركي وتماثيل لاله الحرب المعاصر، ريغان، وترفع صوتها بالاحتجاج.
… وفي حين كان أعضاء الكونغرس الأميركي يوجهون أقسى الاتهامات لقاتل الأطفال وسفاح الشعوب رونالد ريغان الذي يرون في سياسته “تزويراً لإرادة الناخب الأميركي” وتبديداً للأموال العامة وتشويها لصورة الولايات المتحدة باعتبارها حامية حمى الحرية في العالم!
بالمقابل، كان ريغان لا يجد ما يرد به إلا أنه سيستعيد دماءه الأرلندية المقدسة ليمضي قدماً في حربه ضد الشعوب!
(ملحوظة: بعض النسابة يكاد يجزم الآن بأن في ريغان دماء لبنانية، أو إنه شرب، أخيراً، بعض ما يصنع لبنان من حليب السباع فبدأ يهذي على طريقة زعمائنا الأماجد، بناة لبنان الحديث…)
تبقى إشارتان محليتان ثم ننتهي:
*الإشارة الأولى إلى الحل العبقري الذي انتهى إليه وليد جنبلاط وأعلنه يوم أمس، في مؤتمر صحافي، مبشراً اللبنانيين بأن حربهم قد انتهت وإلى غيررجعة، وذلك عبر ترشيحه أنطوان الأشقر لمنصب رئاسة الجمهورية!
ولقد انقسم الناس فرأى البعض في الاعلان تشفياً من النظام الطائفي في لبنان الذي يعطي أي “أنطوان” ما لا يعطيه لكل “المحمودات” أو “الوليدات” مجتمعين، في حين رأى البعض الآخر إن وليد بك يتسلى، على طريقته، بالجميع، فطالما إنها “هزلت” فلماذا تكون الجدي الوحيد، وهيا اندفع إلى “التعبئة العامة الشاملة” التي دعاك إليها هذا “المناضل القديم في الحزب التقدمي الاشتراكي”، الذي بقي بعد كل هذه السنين أثراً بعد عين، يذكر بما كان وينبه إلى خطورة ما صار وإلى فداحة ما سيكون!
*أما الاشارة الثانية فهي إلى نشرة الرصد الجوي في محطة إذاعة “القوات اللبنانية” المسماة “صوت لبنان الحر”، التي اقتطعت من سماء لبنان تلك “الشقفة” التي تظلل مواضع سيطرة سيمر جعجع وحلفائه وأغفلت الباقي… ربما في انتظار تحريره، فالتحرير لا بد أن يأتي شاملاً البحر والبر والسمات جميعاً!!
… وفي الأرض المحتلة ينتظرون بعد “حجراً” عربياً ثانياً، ليمكن استيلاد الشرارة التي تستحيل ناراً ونوراً،
إن حجراً واحداً لا يكفي،
وها هو الربيع قد وصل، وها الحجارة تستحيل وروداً، وها هي الأم التي “نحتفل” اليوم بعيدها الرسمي تنتظر عيدها من الأرض ومعها، وتحزم أضمومة من حجارة الورد الفلسطيني لتقدمها لخالد محمد أكر الثاني، لعبد الناصر الثاني، لصلاح الدين الثاني… لكل قادر على استيلاد الربيع من الحجر!
… أما من حجر عربي ثان في صحراء الثورة والهزيمة والضياع!
هل عزت، إلى هذا الحد، الحجارة المباركة؟!
أم ترى ثمة من يفكر باستيرادها من الولايات المتحدة الأميركية، لتكون مكفولة ومضمونة مدى الحياة؟!
عيد أرضك اليوم،
فأرضك الأم، وأرضك الكرامة،
فاحمل حجرك وأتبعهم،
فليس يقنع شامير، ومعه فيليب حبيب ومن أوفدهن إلا الحجارة،
وليس يقطع الطريق على خطط الاستسلام التي يروجون لها الآن بتوقيع جورج شولتس، إلا سيل من الحجارة وتسد الطرق الملكية إلى كامب ديفيد الجماعية،
كلهم يريد أرضك،
فاحمل حجرك واحفظ أرضك،
ولا بأس من “كام حجر” في اتجاه أبواق الطوائف، حيثما وجدت!

Exit mobile version