طلال سلمان

على الطريق قراءة في تاريخ مستقبل الماضي!

صار التاريخ مكاناً، مجرد مكان، وصار صانعه – سيده الجديد – يعطي نفسه قوة الزمان، بل جميع الأزمنة.
“يجب ألا يكون التاريخ سيد الإنسان”، يقول جورج بوش القادم من البلاد البلا تاريخ ليعطي للشعوب أسماءها في عالمه الجديد.
القصر ضريح إمبراطوري مهيب للقضايا التي استعصت على الشيخوخة، وتجاوزت خطر الموت بالتقادم أو بالتآكل الذاتي وعبوات الهزيمة الناسفة.
“والتاريخ يلقي بظلال كثيفة على الأمل”، يقول جورج بوش الذي جاءإلى مدريد “في مهمة أمل”، ومدريد هي “عاصمة، بل وطن الآمال في السلام”، كما يقول المضيف فيليبي غونزاليس.
الملك رمز كاثوليكي أخرس، والإرادة بروتستانتية صارمة، والصدى شيوعي مرتد إلى “العهد القديم” السابق على الأرثوذكسية، وحتى على المسيحية، واليهودي الغربي الآتي الآن من الشرق يحس إنه بين أهله، في حين تثقل على العربي المسلم وحشة الوحدة فيحاول التخفف عبثاً من عروبته فيرفض إسلامه، فإذا ما أسقط إسلامه رفضت عروبته، وإذا ما تساهل في توكيد انتمائه إلى ذاته أنكرت عليه أرضه وحقوقه كإنسان فيها…
“إن البديل عن السلام هو مستقبل من العنف والخسائر والمآسي”، يقول جورج بوش، ويتوجه مباشرة إلى العرب فيضيف “حانت اللحظة النموذجية لكي تظهر الدول العربية إن المواقف قد تغيرت…”.
ويوضح الشريك الآخر غورباتشوف إيماءات “السيد” فيقول: “هذا يعني إننا يجب أن ننظر إلى النتيجة التي خرجنا بها من حرب الخليج”.
التاريخ مكان، مجرد مكان، وصانعه – سيده الجديد يعطي نفسه قوة الزمان، بل جميع الأزمنة.
صار التاريخ عبر الملك موظف تشريفات، وعبر الشيوعي المرتد تمثال شمع للزينة والعبرة، وعبر أطراف النزاع صورة باهتة للماضي الذي لم يتواءم مع الكومبيوتر فسقط مسقطاً معه الأسطورة الدينية في برميل نفط.
والماضي هو المرفوض وهو المحكوم بالإعدام والمتروكة مهمة مطاردته للكلاب البوليسية:
فالمطلوب، كما يقول غروباتشوف، هو “تحطيم أغلال الماضي والتخلي عن العداء والارهاب واحتجاز الرهائن!!”. ثم يندفع محذراً: “إن أشباحاً من الماضي تحول حولنا، في هذا المؤتمر، ولكن يمكن التغلب عليها لتحقيق النظام العالمي الجديد”.
أما الماضي، بالنسبة لجورج بوش، فهو الذي أحل “الشرق الأوسط في ذاكرة البشرية كعنوان لكثير من الكراهية والمعاناة والحروب… وقد حان الأوان لإنهاء الحرب، وجاء زمن اختيار السلام!.. إن البديل عن السلام هو (الماضي مرة أخرى)، مستقبل من العنف والخسائر والمآسي”.
… أي مستقبل يتبقى لك إن أنت نحرت ماضيك، اسمك ولون البشرة والهوية، وثرى الأجداد وذكريات الحب الأول وذكريات الصبا السنية؟!
لكأنما اختير القصر، باسمه وبالتراث الذي يحمله، بهدف إعادة المؤتمرين إلى أحجامهم، حتى ماضيهم لم يعد لهم إلا بقدر ما يتنصلون منه.
فالمضيف استخدم ماضيه لتذكير المسلحين بماضيهم إن المتاحف لا تصلح كمنصات إطلاق للطامح إلى اقتحام العصر.
والسوفياتي الهارب من ماضيه والمنتمي، بالرغبة، إلى “فجر العصر الجديد الذي أشرق – على يديه، ربما يوصف الصراع “في الشرق الأوسط كمسألة عفا عليها الزمن وبقايا من التاريخ”، ويخلص إلى الاستنتاج المفحم: “ينجم المؤتمر إذا لم يسع أحد إلى الانتصار على الآخرين، وإذا سعى الجميع إلى الانتصار على ماض اليم”.
… وأحوج من يكون إلى مثل هذا الانتصار هو غورباتشوف شخصياً.
لذلك فهو يقفز من فوق الشرق الأوسط ليطرح قضيته بشكل مباشر وصارخ:
“إن أزمة الاتحاد السوفياتي تحمل أخطاراً للعالم أكبر وأفدح من أي صراع إقليمي آخر”.
ثم ينتهي إلى تحديد مطلبه وهو “الانضمام إلى بقية العالم”، وذلك بمساعدة بلاده “الدولة الكبرى” التي تمر بتغييرات كبرى، “لكي تظهر مرة أخرى كقوة عالمية”.
التاريخ مكان، والماضي عبء يُسْتحسن التخلص منه، والحاضر فدية للمستقبل، لا بد أن ينحر كقربان للسلام الذي – يقول جورج بوش – إنه “يجب أن يجيء من الداخل”.
لكن غروباتشوف يعيد نسبة السلام إلى “إنهاء الحرب الباردة”، فذلك الإنجاز العظيم الذي حققه مع “السيد” هو الذي منح السلام فرصة الولادة من جديد في هذه المنطقة التي تقررت لها مهمة صنع سلام الآخرين.
… والسلام “سيأتي من تحقيق توازن واقعي بين مصالح العرب والإسرائيليين”، يقول غورباتشوف مستشهداً بتجربته التي أنهت توازن الرعب في الحرب الباردة مع الجبار الآخر بشطب الاتحاد السوفياتي (ومعسكره الاشتراكي) كقوة عظمى، لتحل عبر “اقتصاد السوق” توازن المصالح بين “السيد” وطالب الصدقة وفائض الأغذية.
التاريخ مكان. لكن ليس للفلسطيني مكان بعدما صادر الإسرائيلي الأمكنة جميعاً، فأين “الداخل” الذي سيأتي منه “السلام”، وأين سيعشش كعلامة مع انتهاء ذلك العصر الذي “شهدنا فيه أجيالاً كثيرة من الأطفال لا يغشى عيونهم سوى الخوف، وكثيراً من جنازات الأخوة والأخوات والأمهات والآباء الذين ماتوا لتوهم والقدر الأكبر من الكراهية والنزر اليسير من الحب”، كما يقول جورج بوش.
والأرض مكان قابل لأن يُقايض مع من يملك القدرة على فرض السلام.
لكن مبدأ “الأرض مقابل السلام”، سقط سهواً من رسالة “السيد” بالتوجيهات والوصايا والتعليمات إلى العالم، فبقي الفلسطيني معلقاً على فاصلة بين كلمتين، يستند إلى علامة استفهام ويتخذ من علامة التعجب موطنة المؤقت.
أما غورباتشوف فلم ينس، ولكنه اختصر فلم يفصل، واكتفى بالإشارة إلى أن السلام الدائم يستوجب احترام حقوق الشعب الفلسطيني وتحقيقها”.
من يحترم هذه الحقوق، ومن يُمكن الفلسطيني من استردادها وممارستها، طالما يتبارى كل من جورج بوش وميخائيل غورباتشوف في التنصل من عبء “فرض الحل”.
يقول غورباتشوف : “ليست لنا، وللولايات المتحدة الأميركية أية رغبة في فرض الحل”!
ويقول جورج بوش: “إن الولايات المتحدة لا تستطيع فرض حل، وإنما سنساعد الأطراف على تخطي العقبات… ونحن لا نريد رسم الحدود، ولكن تسويات على الأرض ضرورية للسلام”.
والسلام يعني، أول ما يعني، حق إسرائيل في أن تضمن لنفسها “قدراً معقولاً من الأمن”، وبالمقابل فإن إسرائيل الآمنة يجب “أن تثبت رغبتها في إقامة علاقات احترام وتعاون جديدة مع جيرانها (؟!) الفلسطينيين” الذين يستحقون شيئاً من “العدل”.
… والأمن يلغي العدل، والأمن يصادر الأرض وينسف البيت ويقتل المالك أو يطرده إلى أبعد من مدى الطائرة،
و”العدل” في الداخل حكم ذاتي إطاره في أحسن الحالات “البلديات”، أما في الخارج فسقفه “الحقوق المدنية” التي ما زالت قيد الدرس… وفي الحالين يتم الفصل بين العدل والأرض فيستحيل الإنصاف إذ يغدو المظلوم بلا عنوان تقصده فيه العدالة العمياء لكي تعيد إليه ما اختلس منه.
التاريخ مكان، مجرد مكان، وصانعه – سيده الجديد يعطي نفسه قوة الزمان، بل جميع الأزمنة.
لكن “العرب لم يأتوا إلى المؤتمر في مدريد للتنازل عن حقوقهم”، تقول مصر بلسان عمرو موسى، و”الشعب الفلسطيني ليس مجرد سكان أو قاطنين في أرض مفتوحة، بل شعب له تاريخ وحضارة، وشخصية قومية متميزة لها كل خصائص الشعوب الأخرى”.
لو كان هذا منطق مصر، فلم تخرج من جلدها، ولم يُفرض عليها أن ترطن بلغة عدوها، ولو لم يُطرد الرجل الذي كان عمرو موسى مدير مكتبه، على عتبة كمب ديفيد، لما كان مؤتمر مدريد، ولما أمكن أن يُخص العرب بكل هذا القدر من الاهانات على شكل نصائح من “السيد” الذي يعطي نفسه قوة الزمان، بل جميع الأزمنة.
والأرض، يقول عمرو موسى، ليست مشاعات “موعودة لشعوب أخرى، بل إن لها أصحابها الشرعيين”.
… لكن الشرعية الدولية ما تزال مشغولة بتأديب شعب العراق، وليس في وقتها متسع لكي تدقق في سندات الملكية، ثم إنها “عملية ” تفضل التعاطي مع الأمر الواقع.
ليست الشرعية الدولية مصدر القوة، إنها “تابع” صاحب القوة، ومن لا يملك القوة يفتقد الشرعية كائناً ما كان نسبه وعمق جذره في أرضه التي “نسايمها أنفاسي وترابها من ناسي، ولو كنت أنا ناسي ما حتنسانيش هيه”، كما يقول المصري الذي لم يذهب إلى كمب ديفيد ولم يأتي إليه أحمد فؤاد نجمز
التاريخ مكان، مجرد مكان، والقصر ضريح مهيب للخطب الفخمة وللحقوق التي ليس وراءها مطالب.
ولقد جاء الكل متأنقين، بوقار الداخر ليحتل مقعده في الصورة الثابتة للزمن المتحول، وقد رسم واحدهم على وجهه شبح ابتسامة لإخفاء التهيب والخوف من الحكم المؤجل.
كان كل يداري حركته لأنه يعرف إنه إنما يمشي على بؤبؤ عين من أوفده، فالشكل قد يكون في مستوى المضمون أو أهم.
كل شيء مجرد: فليست القاعة قوس محكمة، والرئاسة ضابط إيقاع وليست قاضياً، وليس بين الأطراف جان وضحية، ولا مُدّع ومدعى عليه، ولا حاجة إلى الشهود ومحامي الدفاع والنيابة العامة، لا يهم ما كانه أي طرف منهم، ولا يهم ما يريده أي طرف منهم، ولا مجال للأحلام والأماني التي تكلست بعدما جففها العجز واقتص منها النسغ والرحيق.
الأقوى هو الأقوى والأضعف هو الأضعف، و”السلام” يجب أن يأتي من داخل معادلة القوي والعاجز، هنا… كما يتوجب أن ينبت “العدل” للفلسطيني من قلب “الأمن” الصلب الإسرائيلي.
… والتاريخ مكان، مجرد مكان، ضريح للماضي وقاعدة فخمة تستحق أن يخلدها الزمان الجديد: هنا وقف فوقفوا، هنا قال كلمته ومشى: “يجب ألا يكون التاريخ سيد الإنسان”.
… والذين دخلوا القصر لا يريدون ولا يقدرون على الخروج من التاريخ الذي يسكنهم، والذي – كالأمم المتحدة – بنظرهم في عيونهم بصمته المهيب فيترددون تاركين لشامير فرصة جديدة للانقضاض عليهم ليقايضهم السلام بالسلام، عليكم السلام!
ليس العيد في مدريد، ولا هو سيأتي من هناك محملاً بالهدايا وعلب الأفراح.
الصورة في مدريد، وقد منحتها أفخم إطار ملكي، محاذرة أن يحدث التحطم الجديد للحاجز النفسي أضراراً قد تؤذي المؤتمر والمؤتمرين.
… ولقد استقرت الصورة في عمق العين حيث حفرت لها التمهيدات الجدية، بالهزيمة العسكرية مرة وبالمناورة السياسية مراراً، وبالفخ الاعلامي الذي لا يتوقف، مهجعاً لا تطاله الشعارات الثورية والذكريات الحميمة والأفكار الهدامة.
إنها الخطوة الأولى، ولذا فهي الأقسى والأصعب، وبعدها يسهل المشي على الحجر.
.,.. وليس عليك إلا أن تحاول التعرف على ملامحك الجديدة، وأرضك الجديدة، واسمك الجديد، في “هذا العالم الذي يتغير بسرعة البرق”، كما قال المضيف الإسباني فيليبي غونزاليس “لأجداده” الآتين من الماضي والذين سيتخلصون منه فيدفنونه في القصر الملكي الفخم، قصر الشرق، لكي يتسنى لهم أن يدخلوا المستقبل.
… والمستقبل، بالنسبة للعرب، ما يزال خارج المكان والزمان، في انتظار المواجهة المباشرة مع النفس عبر عدو الزمن القديم!
وقديماً قال الجاحظ: من ثقل عليه شقيقه أو صديقه خف عليه عدوه.
لكنه الماضي! فليصمت الماضي. فليسقط الماضي!

Exit mobile version