طلال سلمان

على الطريق قراءة في التحولات من لوزان إلى كرامي!

بين اللبنانيين، قوى سياسية ومواطنين متخمين بتراث الحرب الأهلية وجراحها، من لم يستطع بعد أن يستوعب فيقبل حجم التحولات التي طرأت على خريطة الصراع، محلياً وإقليمياً، في الفترة القصيرة – نسبياً – الفاصلة بين الاجتياح الإسرائيلي للبنان (4 حزيران 1982) وتكليف رشيد كرامي رسمياً بتشكيل “حكومة الوحدة الوطنية” العتيدة (26 نيسان 1984).
وإذا كان كميل شمعون قد سبق بإعلان الرفض، مزايداً على فريقه من عن يمينه، فإن كتائب الشيخ بيار تصرفت كما ينبغي لمحرج محكوم بالقبول منعاً لخسارة ما تبقى من مواقع في السلطة، في حين دفع رفض العاجز “القوات اللبنانية” إلى الأخذ بسياسة “ربط النزاع”: حسناً افعلوا ما تريدون ولكن لا تطلبوا منا المشاركة، فإن أعجبنا ما تفعلون كان خيراً، وإلا عدنا إلى سلاحنا والقتال حتى… ينتصر الأقوى!! وواضح إن هذا المنطق مبطن برهان على تحول مقبل في ميزان القوى ينهي هذه “الفترة السوداء” التي من عناوينها، في نظر”القوات”، الخيار العربي (والسوري تحديداً) وانتهاء المرحلة الوزانية، محلياً باقتحام رشيد عبد الحميد كرامي لقصر الحكومة (بل الحكم) في بيروت.
ومع إن رشيد كرامي لم يزعم مرة إنه تشي غيفارا، ولم يرفع يوماً شعار إسقاط النظام، بل كان دائماً بين بناته ودعاته، ولم يشتهر أبداً بالتطرف بل اتهم دائماً بالبرودة والحذر المبالغ به إلى حد استخدام “الأسطوانة” التي تضجر البعض ولا تشفي الغليل أبداً، كبديل عن الكلام الواضح والجارح بصراحته، فإن كثيراً من القوى والأطراف السياسية قد استقبلته (وهو الذي رئس حكومات في العهود الماضية جميعاً) وكأنه البعبع أو الغول وهادم للذات.
لماذا هذا كله؟ أو ماذا يعكس هذا كله؟
إن مراجعة سريعة لوقائع الشهور الـ 23 الماضية تكشف كم كانت عظيمة وهائلة التاثير تلك التحولات التي خاضت معركتها بنجاح تاريخي الجماهير الشعبية في لبنان، سابقة بحركتها القيادات السياسية والحزبية في الداخل، ومجموع القيادات العربية، بل ومتجاوزة في بعض الحالات أقصى الأماني وليس فقط أقصى التقديرات والتوقعات المبنية على أكثر “التقارير” تفاؤلاً.
فمع أول اعتصام أعلنته قرية منسية في الجنوب المنسي، ومع أول حجر قذف به طفل أو شيخ أو صبية وجه جندي معاد، ومع أول قطرة من دماء الفتية الأغرار سالت على الأرض الحبلى بإرادة المقاومة، كانت ريح جديدة تهب علينا حاملة رائحة الوطن إلينا في الداخل، وإلى الأمة العربية في مختلف أقطارها المنتثرة والمبعثرة بأنظمتها بين المحيط والخليج.
ومع أول صوت ارتفع بالاعتراض ثم بالمعارضة ثم بالرفض لسياسة الهيمنة، في بيروت الصابرة الصامدة والضاحية النوارة، وفي الجبل من بعدهما، إضافة إلى الشمال والبقاع (الذي أرادوا تغييبه وراء زر المحافظ الكتائبي)، كان شميم الوطن ينتشر مع الهواء الجنوبي المطهر بعبق الدم مؤكداً إن دولة القهر لن تقوم، وإذا قامت فلن تبقى حتى لو سيجتها حراب المحتل الإسرائيلي وتواطأت على قيامها أنظمة العجز والانحراف العربية، سواء بالتعامي أم بادعاء التسليم الاضطراري بها باعتبارها نتيجة “لتوافق الأشقاء اللبنانيين”!!
ثم توالت التحولات، وكلها يجسد ويجسم إرادة المقاومة – إرادة الحياة، وتسارعت وتيرتها في ظل العلاقات الجدلية المبدعة بين تصاعد فعل المقاومة البطولية للعدو الإسرائيلي في الجنوب وبين اتساع دائرة الاعتراض والرفض لسياسة الهيمنة في بيروت ونوارتها وسائر المناطق…
كان الحكم منتشياً بوهم الدعم الأميركي غير المحدود، ومستنداً إلى افتراض إن الإجماع الاضطراري عليه في لحظة محددة وضمن ظروف موصوفة ومعروفة هو تفويض مطلق ووكالة غير قابلة للعزل، وإلى افتراض آخر أكثر بؤساً: إن حالة الضعف العربية التي تبدت في مواجهة الاجتياح الإسرائيلي ثم في أعقاب الاحتلال هي حقيقة نهائية، لا تغيير فيها ولا تبديل، وإن المعترضين من العرب لن يبقوا على اعتراضهم (وهو أصلاً غير جدي) إذا ما تدخلت قوة التأثير الأميركي (المعززة عربياً بأموال النفطيين).
وهكذا مضى قدماً على طريق مفاوضات القهر حتى وصل إلى عقد الاذعان الذي فرضه عليه فرضاً وزير الخارجية الأميركي (الجديد آنذاك)، تحت حجة: عزز موقعي في الإدارة بالتوقيع، فأعزز موقعك غداً في مواجهة الجميع، واترك لي أمر المعارضة العربية!!
وبهذا كان لا بد أن يواجه الحكم، بعد فترة وجيزة ولعلها قياسية، سلسلة من الانهيارات في الداخل وعلى النطاق العربي، جعلت مصيره مطروحاً على بساط البحث، لاسيما بعد انفجار حرب الجبل في أواخر الصيف الماضي.
في الداخل تزايدت عزلة الحكم حتى لم يبق له من مؤيد بين السياسيين والقوى السياسية الأجمعية المنتفعين بحكومة شفيق الوزان (وقد جعله كريم بقرادوني في كتابه قريباً من صورة من “لا يقول لا، قط، إلا في تشهده”، مع الفوارق في الزمان والمكان وطبائع الرجال)!!
كانت بيروت السباقة إلى التململ وإظهار عدم الرضا، فالغضب لكرامتها، حين أقحمت سياسة الهيمنة الغبية الجيش في عملية انتهاكها تطبيقاً لفلسفة فاشية مؤداها “أن لا تقبل الدولة بمبدأ الدخول السلمي إلى المدن والمناطقن والعاصمة بالذات، بل عليها ولا بد لها لتكونن دولة أن تأخذها غلابا”!!
وجاء دور الجبل كحقل تجربة آخر لسياسة الهيمنة وفلسفتها الفاشية، وبرغم إن الميليشيات هي التي كانت “فوق” فإن الحكم قد تصرف بما جعله يبدو شريكاً في الهزيمة التي منيت بها “القوات اللبنانية”، بل لعله بدأ – وهو منجز اتفاق 17 ايار الشهير – وكأنه المهزوم الأول…
كان الحكم قد أغمض عينيه تماماً وخاض غمار سياسة “أنا الأعمى ما بشوف أنا ضراب السيوف” ووصل في ممارستها ليس فقط إلى إلغاء وشطب معظم القوى السياسية والسياسيين اللبنانيين، بل حتى إلى الاتهديد بقصف دمشق مصراً على تجاهل حقائق التاريخ والجغرافيا وكذلك التغير النوعي الذي طرأ على خريطة الصراع الإقليمي نتيجة للموقف السوري المعزز بحد أدنى من المساندة العربية (ليبيا بالذات) وبالصاروخ السوفياتي الهائل القدرة على التأثير سياسياً وعسكرياًز
وبدلاً من أن يبني أمين الجميل حكماً فإنه بنى معارضة قوية، برموزها، وقوية أكثر بقاعدتها الشعبية العريضة، ثم بتحالفاتها العربية التي استعادت حقها الطبيعي في أن تقول كلمتها في مصير لبنان ووجوده طالما إن سياسة الحكم فيه تنقله من موقعه في قلب أمته إلى صف العدو القومي.
وكانت الاستدارة للعودة إلى طريق الصح مكلفة جداً، فدفع الجبل ومعه بيروت وضاحيتها ثمن مؤتمر جنيف، ثم دفعت الضاحية النوارة وبعدها بيروت الصابرة الصامدة ثمن مؤتمر لوزان،
ودفعت سوريا (ومعها ليبيا وبعض القوى العربية الباقية على ولائها لفكرة المعارضة والتغيير) ثمناً غالياً، لتأمين هذه الاستدارة نحو الاتجاه الصحيح،
وهكذا فإن تكليف رشيد كرامي برئاسة الحكومة هو معلم من معالم مرحلة وليس تشريفاً لرجل بالذات، مع التقدير لمواقف هذا الرجل، لاسيما في رفع الصوت بالمعارضة والاعتراض والرفض لسياسة الهيمنة التي كانت تتكامل مع سياسة الاستسلام للاحتلال ومنطقه بشهادة اتفاق 17 أيار المشؤوم.
نقول هذا الكلام للتوكيد على جملة من الحقائق التي كادت تضيع في زحمة الانشغال بهموم الاستيزار والمستوزرين، والفرصة الحذرة بإتمام عملية فصل القوات الممهدة لهدنة لا يدري أحد حتام تطول، وهل تصلح مدخلاً للحل النهائي المنشود أم لا،
أول تلك الحقائق – إن الحكم تراجع مضطراً عن سياسة خاطئة كادت تدمر ما تبقى من البلاد، ودمرت الكثير من شرعيته وأسباب استمراره، ومعه الحزب الذي أنبته ، و”القوات” التي نظرت إلى نفسها في لحظة وكأنها الرديف المظفر لجيش الدفاع الإسرائيلي الذي لا يقهر.. ثم اضطرت إلى الانكفاء والتراجع والتقوقع ومحاصرة الناس في ما بين “معبري” المدفون والمتحف،
وإذا كان الناس على استعداد لأن يقبلوا من الحكم تراجعه، انطلاقاً من أن الاعتراف بالخطأ فضيلة، فهذا لا يمنعهم أبداً من أن التأكيد على حقيقة إنه تراجع مضطراً، ومن إنهم دفعوا ثمن ذلك غالياً، وإن من حقهم بالتالي أن يضمنوا ويطمئنوا إلى أن الخطأ لن يتكرر،
وإذا كانوا يعتبرون رشيد كرامي، قطب جبهة الخلاص ورجل الدولة البارز فيها، بين الضمانات، فإنهم يطلبون معه الضمانة الأهم: برنامج الحكم للمستقبل، ثم نوعية الرجال الذين سيساعدونه (ولو من موقع المعارضة هذه المرة) على تحقيق البرنامج العتيد.
ثاني تلك الحقائق – إن التحولات التي تمت لم تتم بفعل المصادفات أو المقادير أو الأشباح، بل هي محصلة نضال قوى سياسية وجماهير واسعة أضيرت، أيما أضرار، في أرواح أبنائها كما في ممتلكاتها ومصادر رزقها، وإن من حق هؤلاء جميعاً أن يعوضوا وبين أسباب التعويض أن يصل بعض حملة همومهم أو بعض المعبرين عنها إلى مركز القرار، ثم أن تكون هذه الهموم صلب برنامج الحكم العتيد،
وإذا كان مشروعاً أن تطلب “القوات” التي منيت بهزيمة سياسية وعسكرية تمثيلها في الحكومة، بوصفها قوة على الأرض ، فلماذا الاستغراب والاستهجان إذا ما ذكرت أسماء رجال أو رموز قوى في الطرف المقابل اكتسبت حق ذكرها من خلال ارتباطها بالحركة المنتصرة بقوة السلاح؟!
لماذا يبدو اسم نجاح واكيم، على سبيل المثال، نافراً ، في حين يقبل اسم فادي أفرام بغير نقاش، فموقف نائب بيروت كان أمضى من السلاح، لاسيما في مواجهة اتفاق العار.. ولماذا يراد بالمقابل فرض أسماء نواب وسياسيين قبلوا بالاتفاق وروجوا له واعتبروه ضمانة لسيادة لبنان واستقلاله وكيانه الخالد؟!
وثالث هذه الحقائق إنه بمقدار ما يتعذر تدمير المؤسسة الطائفية في لبنان، كشرط لبزوغ فجر الوطن، فإنه يتعذر أيضاً استمرار الخضوع لمنطقها الهمجي القاتل بتخلفه وغرائزيته.
وإذا كان ضرورياً التعامل بحذر وحكمة مع الواقع الطائفي، فإن من حق الوطنيين في لبنان، المعادين للطائفية، أن يجدوا لأنفسهم هامشاً على الأقل في الحياة السياسية، فلا يبقى وجودهم أشبه بالكرام على مأدبة اللئام.
إن بعض الخطر على الحكومة العتيدة يتأتى من محاصرتها بالمناخ الطائفي الموبوء بحيث لا تضم إلا الأكثر طائفية، حتى ولو كان الأقل وطنية، وهذا من شأنه أن ينسف روح برنامجها الوطني أو الاصلاحي المفترض.. وليس صحيحاً إن الاصلاح، بما في ذلك تعديل الدستور وكل القوانين إذا لزم الأمر، هو ترف أو ابتزاز أو ممارسة لسياسة الغالب والمغلوب، فالفساد ليس ميزة لأحد، والعيب السياسي والبنيوي الفاضح ليس شرفاً أو امتيازاً يستحق الدفاع عنه والقتال من أجله.
وفي أي حال فإن البعض يرى إن حجم التحولات هو بحجم الانتقال من الخيار الإسرائيلي إلى الخيار العربي (والسوري تحديداً)، وينسى إن الخيار الأول كان خطأ قاتلاً وخروجاً على القاعدة وحقائق الحياة،
أما المبسطون، فيردون حجم التحولات محلياً مجسداً في الفارق بين رشيد كرامي وشفيق الوزان، وهو فارق نوعي هائل يتعدى مزايا الأشخاص وعيوبهم إلى مواقفهم… فالرجال مواقف، ولا يستوي الذين يقولون لا للعدو مع الذين يقولون نعم، ولا الذين يوافقون ويمهرون سياسة الهيمنة بتواقيع مع الذين قاتلوا ضدها بدمائهم حتى أوقفوا منهجها المدمر.
وبحجم هذين الفارقين نطمح أن تكون حكومة الوحدة الوطنية وبرنامجها العتيد.
فشرط الوحدة الوطنية في هذه اللحظة هو القبول بهذه التحولات ونتائجها السياسية، وليس تكريم الذين قاوموها بإقرار “الاتفاقط أو بالتسليم للهيمنة والمهيمنين!

Exit mobile version