طلال سلمان

على الطريق قراءة سياسية لتدهور الليرة: الاضراب والسياسة

رمزي هو وضع الليرة، إنها نحن، إنها الدولة والحكم والحكومة والمؤسسات. ما يصيبها من تدهور واضمحلال وانعدام قيمة هو تجسيم لما يصيبنا نحن بالذات. إنها صورتنا وعنوان حالتنا وملامح مستقبلنا البائس.
وسياسي إلى أقصى حد هو وضع الليرة، أما المعطيات الاقتصادية فتأتي في الدرجة الثانية أو حتى العاشرة.
ولأنه شأن سياسي فقد سمحنا لأنفسنا أن نتحدث فيه متجاوزين الاختصاص، خصوصاً وإن أخواتنا الاقتصاديين هم الأعرق في علم السياسة!
يكفي أن نستشهد بوقائع التدهور المريع والمفزع خلال الشهور الخمسة الأخيرة للتدليل على إن ثمة في السياسة خللاً فاضحاً هو المتسبب في اندحار الليرة وتفتتها بحيث صارت أقل من قرش من ليرة ما قبل أمين الجميل.
من هذه الوقائع، وبالأرقام:
1 – إن سعر صرف الليرة كان في الأول من حزيران الماضي بحدود 125 ليرة للدولار الأميركي الواحد.
وبرغم كل “المجهودات” التي بذلها قتلة الرئيس الشهيد رشيد كرامي في أعقاب اغتياله، وفي محاولة تمويهية للإيحاء بأن “كل شيء هادئ” على الجبهة اللبنانية برغم الجريمة المهولة، فقد انخفضت قيمة الليرة مع نهاية حزيران فصار سعر الصرف 142,50 للدولار الواحد.
2 – مع إهمال الجريمة والتطنيش على القتلة والمحرضين، ومن ثم التسبب في تعزيز المنطق الانقسامي، استمرت الليرة في التدهور بشكل طردي مع التعقيد المتزايد للوضع السياسي، بسبب تصعيد حدة الانقسام، والتهاب قرحة المزايدة الطائفية، سيما وإن “القوات اللبنانية” حاولت احتواء الجيش ورئيس الجمهورية و”الشرعية” والطائفة لتغطي دورها المشبوه، فصارت أية مطالبة بكشف الجناة اتهاماً للمسيحيين عموماً بقتل زعيم المسلمين في لبنان.
وهكذا وخلال شهرين فقط (تموز وآب) انخفضت القدرة الشرائية لليرة اللبنانية إلى النصف، فقفز سعر صرف الدولار مع بداية أيلول، ومع انتقال رئيس الجمهورية إلى كندا ليلقي خطابه الشيهر في مؤتمر الدول الفرانكوفونية، إلى 281 ليرة.
3 – بعد الخطاب الشهير الآخر أمام الأمم المتحدة والمواقف التصعيدية التي واكبته خلال النصف الثاني من أيلول تضاءلت القيمة الشرائية لليرة إلى الثلث (قياساً إلى مطلع حزيران) وهكذا تجاوز سعر صرف الدولار مع بداية الشهر الجاري الثلاثمائة ليرة، فلما وصل “الوسيط” الأميركي ريتشارد مورفي كانت قيمة الليرة قد انحدرت إلى ربع قيمتها قبل أربعة أشهر فغدت 426 ليرة للدولار الواحد.
4 – مع ظهور “بشائر” الفشل في مهمة الوسيط الأميركي والتي كان عنوانها الأبرز الإقدام على خرق “الجدار النفسي” وزيارة قاهرة كمب ديفيد، ركب الدولار أجنحة وطار وما زال يطير صعوداً بمعدل يتراوح بين 75 ومائة ليرة في اليوم… حتى بيع أمس، في ما يقال، بسبعمائة ليرة أو نحوها.
وثمة من يتحدث الآن عن بلوغ الدولار حافة الألف ليرة مع قمة عمان، أما بعدها فالله وحده يعلم على أي سعر يستقر، لأن أحداً لا يستطيع التكهن أين ستستقر الليرة ونحن فوقها أو تحتها لا فرق!
المشكلة سياسية والعوارض، أو النتائج اقتصادية.
ولأن المشكلة سياسية، أولاً وأخيراً، فمسؤوليتها معقودة اللواء للمسؤول السياسي الأول في البلاد، رئيس الجمهورية، ثم بعده يمكن الحديث عن مسؤولية “الأفرقاء” شرقاً وغرباً، الذين ربما كانوا بين المستفيدين من استمرار الأزمة ومن تعقيداتها ولكنهم – وبغض النظر عن ادعاءاتهم – يحتلون المرتبة الثانية والثالثة وما بعد…
ثم إن دهاقنة الاقتصاد والمال والأعمال لا يقلون مسؤولية وإفادة من السياسيين، بل لعل بعضهم يتقدم على “الزعماء”، دون إغفال حقيقة إنهم – في الغالب الأعم – شركاء دفنوا “الشيخ زنكي” معاً، وأتقنوا لعبة أن يسبقونا على الشكوى والتذمر من سوء الحال والاقتراب من حافة الجوع.
بالمقابل فإن ثمة من يلعب لعبة خطيرة ملخصها: طيب!! طالما إنهم يعملون لتدمير البلاد والعباد فلنسبقهم إلى أداء هذه المهمة “الجليلة” !! يا الله… علي وعلى أعدائي يا رب!! ولنثبت إننا الأمهر والأشطر والأقدر على توظيف هذه الكارثة في خدمة أهدافنا نحن بدلاً من أن تكون في خدمة أغراضهم الخبيثة!
ومن الواجب التنبيه إلى مخاطر لعبة الاضرابات والاندفاع فيها في اتجاه المجهول، وإلى تقسيم الضحايا معسكرين يقتل بعضهم بعضاً بينما “الجناة” والمستفيدون بألف خير: أرصدتهم في الخارج أصلاً، ومنذ أمد بعيد، ومصالحهم مؤمنة حتى لو قضى آخر اللبنانيين نحبهم جوعاً، وأرباحهم تتزايد حتى لو تناقصت مساحة لبنان إلى حد الاندثار.
إن التلفيق لا ينفع في طمس الجريمة والمسؤولية عنها،
وإعادة اكتشف الحقائق الطبقية لا تفيد في طمس العوامل السياسية أو المسؤوليات السياسية للقيادات جميعاً، ودائماً بدءاً برئيس الجمهورية.
إن الداعين إلى الإضراب والمتحمسين له والمحتدشين في ساحة المطالبة بالمطالب الأبدية لبعض الفئات خليط عجيب غريب وهجين ومتناقض الأهداف السياسية.
ومن التبسيط القاتل أن يقال إن الحقائق الطبقية في بلد يكاد يكون بلا طبقات محددة، بالمعنى العلمي، قد طغت على عوامل الانقسام السياسي.
إن تزايد عدد المتحمسين للإضراب، والداعين إليه، يفرض شيئاً من التدقيق في استهدافاته، وإلا فكيف نفسر التقاء أنصار النظام الإيراني ومناصري النظام العراقي، مثلاً، في هذا المجال بينما هم في حرب ضروس في سائر المجالات؟! وكيف نفسر حماسة “القوات اللبنانية” وتقدمها – مزايدة – على الشيوعيين في التحريض.
ثم من يملك تفسيراً لموقف بعض القوى العسكرية المحرض على الإضراب؟!
هذا مع التنبيه إلى أن أحداً، حتى هذه اللحظة، لم يعلن اعتراضه على الإضراب أو معارضته له، حتى لو لم يكن يعرف بالدقة ما هي الأهداف “الاقتصادية” منه.
إنه إضراب سياسي، أولاً وأخيراً،
فلندقق في وجهته السياسية، في طبيعة القوى الداعية إليه، وفي النتائج السياسية المحتملة له.
فلا أحد يُضرب من أجل أن يبعد الرغيف أكثر عن مدى تناوله،
ولا أحد يُضرب لأهداف تناقض طموحاته السياسية.
فهل ثمة مجال بعد لقليل من التعقل بحيث يظل المسؤول هو المسؤول ولا تضيع الطاسة ويضيع ما تبقى من أهداف وأمنيات وأحلام في وقف الانهيار بعد حين، واعتبار موعد رحيل أمين الجميل نقطة بداية جديدة في تاريخ لبنان؟
إنها ساعة للجد واحترام جوع الجائعين، وليست فرصة لأن يزرع السياسيون في رأس بعض القيادات النقابية أوهاماً سلطوية تسرّع وتيرة الانهيار وتفاقم أسباب الانقسام والاقتتال الأهلي.
فالرئاسة، الآن، السبب الأول في الكارثة التي تطحننا،
ولسنا نريد أوهام الرئاسة، في غد، سبباً لاستمرار الكارثة حتى اندثار آخر مواطن وآخر شبر في الوطن.

Exit mobile version