طلال سلمان

على الطريق قراءة “بالعربي” لانتفاضة فلسطين المحتلة

آن للعرب عموماً، قيادات ومنظمات وجماهير، أن يتعاطوا مع الانتفاضة المجيدة في أرض فلسطين المحتلة، بفهم أعمق لطبيعة هذه الانتفاضة، وأن يستشرفوا بجدية أبعادها وآفاقها في ضوء معطيات اللحظة السياسية الراهنة، عربياً وإسرائيلياً كما على المستوى الدولي.
وآن للقيادة الفلسطينية أن تستوعب حجم الانتفاضة وآثارها والنتائج المترتبة على استمراريتها وتصاعد فعاليتها، خصوصاً إذا ما طورت أساليب حركتها، كما هو متوقع.
إننا أمام منعطف تاريخي، وأمام تحول نوعي في مسار الصراع العربي – الإسرائيلي:
لكن أي خطأ في الفهم، أو في الاستنتاج، قد يلحق أبلغ الضرر بالانتفاضة وبقضية فلسطين (وشعبها) وبالنضال العربي من أجل التحرر والوحدة والتقدم.
ومن الظلم أن يفرض على هذه الانتفاضة المباركة أن تخوض مجموعة من “الحروب” في آن معاً، وهي “حروب” شرسة تستنزف الكثير من حيويتها وتسد عليها بعض آفاقها المفتوحة، وتحمل في طياتها خطر “تزوير” الانتفاضة وهويتها.
بعض هذه “الحروب” تأتيها، وهذا منطقي، من جانب العدو الإسرائيلي، وهي تمتد على مساحة واسعة تغطي ما هو عسكري وما هو سياسي (وإعلامي بالطبع) ، وما هو أخطر: طبيعة الصدام وطبيعة الطرفين المتصادمين ومن ثم طبيعة “الحل” أو “التسوية” المنشودة وبمن تكون.
فالقمع بالضرب، بعد سياسة القبضة الحديدية، والمواجهات الدموية اليومية، وتكسير الأيدي، والاعتقالات بالجملة وقرارات أبعاد المناضلين وصولاً إلى التجويع، كل ذلك هو أبسط “الحروب” وأقلها تأثيراً على مسار الانتفاضة.
أما الأشد إيذاء فهو الجهد الإسرائيلي المبذول، على النطاق الدولي لتصوير الوضع في الأرض المحتلة وكأنه احتجاج مكثف من شعب مستعمر (بفتح الميم الثانية) ضد دولة مستعمرة (بكسر الميم الثانية)…
ويزيد في خطورة الأمر إن هذا الجهد الإسرائيلي يتلاقى مع جهد غربي عام، وأميركي على وجه الخصوص، يلغي الأبعاد السياسية للانتفاضة، ويحصرها في إطار أخلاقي بحت بحيث يمكن إدراجها تحت بند “حقوق الإنسان”.
تختفي فلسطين، هوية وقضية، منظمة وثورة، انتماء ومصيراً، وتكاد تقزم المطالب في تحسين صورة الاستعمار حرصاً على دوره التمديني.
وهكذا تمتنع الولايات المتحدة، مرة واحدة، عن استخدام حق الفيتو وتسمح بإدانة إسرائيل (وهي إدانة معنوية في أي حال)، ثم يسارع جورج شولتس إلى تبريرها بوضوح سياسي قاطع: “من أجل إسرائيل، وحرصاً على صورتها، (كممثل للغرب وحضارته)، اتخذنا، مضطرين هذا الموقف”:
وفي الحملة الاعلامية المؤثرة التي يتبناها الغرب ويطلقها “تعاطفاً” و”تأييداً” للانتفاضة يظل السقف واطئاً بحيث تكاد تختنق الانتفاضة تحته إذ تصور وكأنها حركة مطلبية، لا أفق سياسياً لها، ويمكن أن تنتهي بزوال أسبابها المباشرة: أي بتحسين الأوضاع المعيشية لأبناء المخيمات وبالتساهل في “منح” بعض الحقوق المدنية لهؤلاء “العبيد السمر” في “أرض إسرائيل” الديموقراطية.
ولتأكيد الديموقراطية في إسرائيل تخرج التظاهرات متضامنة مع أولئك “البدو”، لتعزز أكثر فأكثر الانقاطع بين مطالبهم وبين السياسة من جهة، والانقطاع أو الانفصال الكامل بينهم وبين سائر الفلسطينيين المشردين في أرض الشتات، وكذلك بينهم وبين من يسميهم الاعلام الغربي (وبعض العربي!!) عرب إسرائيل.
وهكذا تغيب “قضية” الانتفاضة و”هوية” القائمين بها، والسياق الطبيعي للصراع المفتوح في المنطقة منذ الحرب العالمية الأولى (وعد بلفور ثم الاحتلال البريطاني لفلسطين، تمهيداً لإقامة الكيان الصهيوني فوقها).
يغيب هدف التحرير، وتغيّب هوية الفلسطينيين، حيثما كانوا داخل الأرض المحتلة العام 1948، أو داخل الأرض المحتلة العام 1967، (الضفة والقطاع)، أو المشردين منهم في أربع رياح الأرض، نتيجة للاحتلال وبسببه، ويغيب أخيراً إن ما يجري هو طور آخر من أطوار الصراع العربي الإسرائيلي.
وعبر هذا كله يشتد اللغط ويتفاقم (دولياً وإسرائيلياً، وحتى عربياً، مع الأسف)، حول هذه “الفلسطينات” المختلفة (48، 67)، الداخل والخارج، الانتفاضة والمنظمة، وصولاً إلى التقسيم القيصري بين الفلسطينيين وبين سائر العرب.
ثمة إسرائيل واحدة، لا نقاش حول طبيعة وجودها ودورها في المنطقة، وتشريدها لشعب فلسطين واحتلال أرضه، إنما النقاش، إذا ما أثير، فهو حول مدى النجاح السياسي لهذا الحزب الإسرائيلي أو ذاك، أو مدى نجاح السياسات الإسرائيلية عموماً في معالجة “الاشكالاات” الناجمة عن الاحتلال، وكيف تكون هذه السياسات أكثر انسجاماً مع الاستراتيجية الغربية وأكثر تلبية للمصالح الغربية (وضمنها الإسرائيلية)، في هذه المنطقة الغنية.
أما الفلسطينيون فهم “مجموعة” من الشعوب، بل من القبائل والتجمعات البشرية، لا تربط بينهم رابطة، بعضهم “لاجئون”، وبعضهم “بدو”، بعضهم رعايا تابعون أصلاً للمملكة الاردنية الهاشمية وبعضهم الآخر “رعايا” موضوعون تحت وصاية مصر، ثم إن بعضهم من الدروز وبعضهم الآخر من الشركس وبعضاً ثالثاً من الأرمن، كذلك فإن بعضهم مواطنون إسرائيليون، وبعضهم الآخر سكان أرض محتلة يحكمون – نظرياً – بموجب اتفاقات جنيف الخ…
وأما العرب فأمم شتى، غائبة عموماً، فإذا ما استحضرت واستذكرت الرابطة بينهم وبين الفلسطينيين، فمن أجل استعداء بعضهم ضد البعض الآخر، وتصوير إن مصالح الأنظمة العربية تتعارض إلى حد التناقض مع مطامح شعب فلسطين، بدءاً من حقه في توكيد هويته وكيانه السياسي أو الإطار السياسي لنضاله الوطني ممثلاً بمنظمة التحرير، وانتهاء بحقه في الاستقلال الوطني والدولة، ودائماً داخل انتمائه القومي وبفضله وليس على حسابه.
… ومن القمع إلى التظاهر بالتعاطف يبدو وكأن الانتفاضة “شأن داخلي” إسرائيلي، قد يختلف الإسرائيليون في ما بينهم حوله، وقد يختلفون مع حلفائهم حول طريقتهم في علاجه، لكنه في جميع الحالات شأنهم هم، ولا علاقة “للآخرين” به، بدءاً بالفلسطينيين، بمجملهم، مروراً بمنظمة التحرير الفلسطينية، وانتهاء بالعرب،
ومن أسف أن الغياب العربي المفجع عن الانتفاضة، دعماً ومساندة وتطويراً ومن ثم توظيفاً في ما يخدم قضية شعبها وأمتها، يساعد على تثبيت هذه الصورة في ذهن العالم،
… والأخطر إنه يعزز الشعور بالوحدة، بل بالوحشة، لدى أبطال الانتفاضة وجمهورها الواسع في أرض فلسطين المحتلة،
كما إنه يمكن لدعاوى انفصال الداخل عن الخارج، بقدر ما يعزز الشوفينية أو القطرية أو الكيانية الفلسطينية، التي تغري الفلسطينيين بالتوجه نحو شيء من الصلح المنفرد مع العدو الإسرائيلي،
أي إن الغياب العربي عن الانتفاضة يساهم في تصوير الانتفاضة وكأنها: “شأن إسرائيلي”، داخلي، أو هو يجعلها، في أحسن الحالات شأن إسرائيلي مع بعض الفلسطينيين العزل والضعفاء والممكن استفرادهم واستدراجهم إلى صفقة بائسة يضيع عبرها بعض فلسطين الارض والثورة والقضية إضافة إلى الهوية.
إن هذا الغياب العربي يكاد يتخذ شكل التواطؤ على الانتفاضة، ويكاد يلحق بها من الضرر ما لا يستطيع العدو الإسرائيلي مهما بالغ في استخدام وسائل العنف والقمع والإرهاب الدموي.
إن الغياب العربي يزيد من إضعاف قيادة المنظمة التي يتوجب عليها، الآن، أن تطور ذاتها ونهجها وأساليبها وعلاقاتها، بما يعيد إلى الانتفاضة هويتها وطبيعتها بوصفها، بعض حرب التحرير الوطنية وبعض أشكال مقاومة الاستعمار الاستيطاني والعنصري.
إن الغياب العربي وعجز القيادات العربية (والفلسطينية ضمنها) عن توظيف هذه الانتفاضة في خدمة أهداف النضال الوطني (الفلسطيني) والقومي يهددان جوهر الانتفاضة ذاته، إذ يتسببان في الطعن بمشروعية الانتفاضة ومشروعية إطارها السياسي، أي في أصالة انتمائها الوطني والقومي.
لقد استخدم من في الداخل ما يملكون من وسائل لحمهم ، قبضاتهم، حجارتهم، وأساساً إرادتهم الصلبة في توكيد هويتهم ومقاومة الاحتلال،
فمتى يستخدم من في الخارج ما يملكون ، وما أكثره؟!
متى يتوجه من في الخارج إلى الداخل،
متى يؤكدون هويتهم كما أكدها من في الداخل؟
متى يثبتون عروبتهم بل حسن قراءتهم للحظة السياسية، بحيث يكملون ما بدأه أهل الداخل، وهكذا يصيرون شركاء في النصر بدل أن يكونوا، وباستمرار، بين أسباب الهزيمة والمسؤولين عنها؟
لقد أثبت أهل الداخل عروبتهم، وبقي على أهل الخارج أن يثبتوها،
ومن فلسطين ، وفي فلسطين، وبفلسطين تكتسب الشهادة بالعروبة وليس على حسابها.
… متى نذهب إلى الانتفاضة، متى نصل إلى الانتفاضة، متى ننتمي إلى الانتفاضة،
وهل نتحرك قبل أن ينجح العدو في إخماد نار الانتفاضة؟!

Exit mobile version