طلال سلمان

على الطريق قراءة أولى في بيان دمشق

يستطيع العرب أن يدّعوا، الآن ، أنهم قد “أنجزوا”، وأنهم بالتالي قد نجحوا في استدراك أو في تعويض بعض ما خسروه نتيجة افتقادهم لوحدة صلبة في موقفهم من المفاوضات الثنائية مع العدو الإسرائيلي.
فبيان دمشق إنجاز دبلوماسي، ولو بالمعيار التكتيكي، وهو جهد ملحوظ لتحسين شروط التفاوض، لاسيما بعد الانتكاسات التي وقعت للصف العربي، وعلى الخط الفلسطيني أساساً، بعد الاستغلال الإسرائيلي المتعجل للمعركة الرئاسية الأميركية التي أودت “بالإدارة الأقل ولاء للصهيونية” وأتت ببيل كلينتون وفريقه المعلن شراكته الكاملة لإسرائيل وحكومتها “المعتدلة” بقيادة “الصقر” إسحق رابين.
إنه “الهجوم العربي المضاد” لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الإطار السياسي والقانوني ومن المضمون الفعلي لـ “مؤتمر السلام” والمفاوضات الثنائية، كما رسمتها إدارة جورج بوش – جيمس بيكر، والتي اجتهدت إسرائيل “لتحرير” إدارة كلينتون من ضوابطها، ولم تكن هذه الإدارة بحاجة إلى تحريض لمحاولة التملص منها، أو – أقله – إعادة صياغتها وفق منظورها هي وطبيعة ارتباطاتها هي باللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، وبصماته شديدة الوضوح على أشخاص هذه الإدارة كما على مواقفهم المعلنة.
وهو هجوم كان يستهدف، أيضاً، وقف التدهور في الموقف العربي عموماً والموقف الفلسطيني خصوصاً، لاسيما وإن الخلافات الفلسطينية – الفلسطينية كانت قد بلغت مستوى متفجراً ينذر بمخاطر حرب أهلية على الأرض المطلوب تحريرها وتمكين أهلها من تقرير مصيرهم فوقها واستعادة حقوقهم فيها.
وإذا كان “بيان دمشق” لم ينه الخلاف الفلسطيني – الفلسطينين بدليل الموقف العنيف الذي ردت به “حماس” بلسان إبراهيم غوشة في عمان، فإنه قد زكى وجهة معينة وحصنها بموقف عربي يشكل نوعاً من الضمانة ونوعاً من الضابط في الوقت نفسه.
لقد أعاد البيان قدراً من الاعتبار السياسي إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وخص “وفدها المفاوض” بتزكية معنوية مؤثرة، وأسقط الاتهام بالتفرد أو الانفراد الذي غالباً ما يؤدي إلى التواطؤ فالانحراف فالتفريط وما هو أعظم وصولاً إلى النهاية الساداتية.
صار الوفد الفلسطيني بعض “الوفد العربي”، ولم يعد – كما كان، أو كما يريد أن يكود – خارجه.
وإذا كانت “حماس” قد نجحت في أن تنتزع لنفسها حق النقض “الفيتو”، فإن قيادة منظمة التحرير استعادت بالمقابل موقع “الحكم”، أي صاحب الحق بالقرار حتى لو كانت معارضته مبررة وجدية وذات قوة جماهيرية لا يُستهان بها.
بالمقابل، فإن هذا الموقف العربي الموحد، ولو رمزياً وعلى قاعدة الحد الأدنى، قد كشف حقيقة أن المفاوضات هي حاجة أميركية، ومطلب حيوي لحكومة إسحق رابين ، في الوقت ذاته.
وصحيح أن المفاوضات هي الخيار الوحيد المتاح أمام العرب المعنيين بها،
لكن الصحيح أيضاً، كما أثبتت صفقة تأجيل الجولة التاسعة، أن المفاوضات هي “قرار” أميركي يلبي مصالح أساسية للدولة العظمى الطامحة للسيادة المنفردة على الكون، وهي في الوقت ذاته “مبرر” وجود للحكومة الإسرائيلية الحالية التي وصلت إلى السلطة بما يشبه “الانقلاب الانتخابي” برعاية واشنطن مباشرة.
والندم آفة خطيرة تودي بمن تصيبه، لكن بيان دمشق يثبت، في جملة ما يثبته، إنه كان بالإمكان إنقاذ القرار 799 وتنفيذه، لو أن العرب (والفلسطينيين منهم خاصة) ردوا على التعنت الإسرائيلي بمثل الموقف الموحد الذي اتخذوه بالأمس، ولم يتبرعوا بلعب دور المساوم عليه استدراراً لاعتراف أميركي أو لصفقة منفردة سرعان ما انقلبت تغطية أميركية للرفض الإسرائيلي، وإهداراً للقرار الدولي المنصف.
على أن ما ينبغي الالتفات غليه، مع بيان دمشق وبعده، هو وضع الداخل الفلسطيني، وموقف “حماس” على وجه التحديد.
فالموقف العربي الموحد في دمشق مهدد، إذا هو لم يحصن جيداً، لأن يكون سبباً لمزيد من الخلافات الفلسطينية – الفلسطينية، وبديهي أن تستغلها إسرائيل – ضمن جو الإحباط السائد – لتحويلها إلى حرب أهلية في الداخل الملتهب بالغضب ضد العدو الذي لا يفتأ يزيد يومياً من تنكيله بشعب فلسطين، قتلاً وحصاراً وتجويعاً ورعاية لأسباب الشقاق وتحويل النقمة منه إلى الذات.
فهذا الموقف العربي يجب أن يكون أداة لتوحيد صف الفلسطينيين وليس سبباً إضافياً للخلاف في الداخل.
وهو ليس “نصراً” للمنظمة على “حماس” ولا يجوز أن يكون كذلك، وإنما هو تدعيم وتحصين للمفاوض الفلسطيني الذي اضطرته الظروف العامة والخاصة للقبول بمبدأ التفاوض لكنه ليس مجبراً على التسليم بالشروط الإسرائيلية وكأنها القدر.
أي أن هذا “النصر” التكتيكي يجب أن يستخدم ضد العدو الإسرائيلي وليس ضد “المعارضة” الفلسطينية، وإلا تحول إلى سلاح على العرب، والفلسطينيين منهم أولاً، بدل أن يكون سلاحاً في يدهم.
إن تحسين شروط التفاوض أمر مهم،
لكن الأهم أن يبقى لنا ما نفاوض عليه،
وأهمية بيان دمشق إنه أثبت أن العرب، على ضعفهم، يستطيعون أن يفعلوا القليل المفيد وأن يستنقذوا الكثير مما لا يجوز التفريط به،
وبالمقابل فإن إسرائيل، على قوتها، لا تملك أن تفرض إرادتها بالمطلق على الكون، حتى وهي في موقع الشريك الكامل “للسيد” الأميركي.

Exit mobile version