طلال سلمان

على الطريق قبول التسوية المرفوضة…

لا يمكن فهم الرد السوري الإيجابي على مبادرة الرئيس الأميركي جورج بوش إلا في سياق النهج الذي اعتمدته دمشق منذ مغامرة صدام حسين البائسة في اجتياحه الكويت، وهو نهج يقوم على محاولة حصر الأضرار وتحديد الخسائر.
ولقد كان الرئيس السوري حافظ الأسد الأصرح بين القادة العرب في توصيفه لنتائج تلك الخطيئة المميتة التي ارتكبها صدام حسين، مستعدياً بها العالم على العرب، إذ رأى فيها “هزيمة قومية شاملة” لا موقع لعربي بين المنتصرين (عليه) فيها، وقال بصدق: “إننا جميعاً مهزومون”، مقرراً إن الهزيمة ليست لحاكم العراق وحده أو لقطر أو مجموعة أقطار عربية بالذات.
بهذا المعنى فالقبول السوري بمنطق المبادرة الأميركية، مع محاولة حثيثة لتحسينه وتحصين بعض نقاطه الإيجابية بضمانات شخصية من الرئيس الأميركي وإداراته التي تصفها دمشق “بأنها الأقل خضوعاً للصهيونية وإسرائيل” في الأربعين سنة الماضية، هو إحدى ثمار الهزيمة القومية الشاملة، وليس انتصاراً من أي نوع ولا هو قدم كذلك.
ومؤكد إن مثل هذا القبول ما كان ليصدر عن دمشق لولا التحولات الهائلة التي شهدها الكون في السنوات القليلة الماضية، وأبرزها سقوط المعسكر الاشتراكي واندثار حلف وارسو والتبدل الجذري الذي نقل الاتحاد السوفياتي من قيادة الثورة العالمية إلى الملتحق بالغرب والمعتمد اقتصاد السوق والمهدد بالتفكك والعارض أسراره العسكرية والأمنية للبيع.
السؤال، الآن، وفي ضوء ما كان في الخليج، هو عن حصة إسرائيل في النصر الأميركي الباهر، وإلى حد يمكن – بالتالي – تحجيم الهزيمة العربية لجهة انعكاساتها على مستقبل الصراع العربي – الإسرائيلي.
وهامش المناورة ضيق جداً، ليس فقط بسبب علاقة التحالف الاستراتيجي القائم والمعلن بين واشنطن وتل أبيب، بل أيضاً بسبب انعدام القدرة العربية على التأثير، ناهيك بالانقسام الذي أحدثته مغامرة صدام في الوضع العربي المتهالك أصلاً.
يتصل بذلك إن التحولات الدولية والانهيارات العربية قد أضعفت الدور الأوروبي وضربت طموحه إلى قدر من الاستقلالية كان يمكن توظيفه لتحقؤيق قدر من التوازن المفتقد في الموقف من طرفي الصراع في المنطقة.
وعبر الحوار مع المسؤولين السوريين تسمع كلاماً صريحاً في توصيف المرحلة وطبيعة التسوية العتيدة واحتمالاتها المحدودة تغيب الأوهام لتحل محلها الوقائع القاسية الباردة.
فدمشق تدرك إنها لم تكن يوماً ولن تكون قريبة من واشنطن ومعتمدة منها وقادرة على “استدراجها” بعيداً عن “حليفتها” و”ربيبتها” إسرائيل، ولكنها تستطيع – إذا أحسنت القراءة – أن تفرض احترامها وأن تثبت صدقيتها وحيوية دورها الذي لا بديل عنه في رسم مستقبل المنطقة، كل ذلك من دون التخلي عن تواضع المهزوم.
ويخالفك المسؤولون السوريون الرأي إذا أنت كررت المقولة الشهيرة: إن أية تسوية للصراع العربي – الإسرائيلي، اليوم، وفي ظل توازن القوى القائم، لن تكون في مصلحة العرب، فليترك الأمر كله للأجيال المقبلة لعل الظروف تتبدل فتبدل في التوازن وتصبح التسوية ممكنة بشروط مقبولة، إذا ما سلمنا جدلاً بأن “التحرير” سيظل هدفاً مستحيلاً… كما كل الأحلام.
ولقد تسمع بينهم من يقول بنبرة حزينة: – إن نظرة مدققة إلى المستقبل القريب لا تبعث على الاطمئنان. إن الغد أسوأ من اليوم، وميزان القوى بين العرب الإسرائيليين سيميل أكثر فأكثر لناحية الكيان الصهيوني، خصوصاً إذا ما تعزز بالمستقدمين الجدد من الاتحاد السوفياتي وأنحاء أخرى من العالم. الوضع العربي إلى مزيد من الضعف والتفكك. ومؤكد إن إسرائيل التي تعيش هذا الواقع وتعرف تفاصيله ليست متحمسة لأية تسوية الآن، وتفضل إرجاءها إلى حين يصبح لا ضرورة لها، إذ قد يصير العرب قابلين هيمنتها والاستسلام لها بغير قيد أو شرط.
بعيداً عن هذه التقديرات الشخصية، بطابعها العام، فإن المسؤولين الإسرائيليين جميعاً، من “الصقور” إلى “الحمائم”، يرفضون بمسلكهم العملي أية احتمالات جدية لتسوية ما، حتى بالشروط المعلنة من قبلهم.
ويبقى ما ليس منه بد: أن تراهن على تطور ما في الموقف الأميركي بحيث لا يكون “قوة فرض” على العرب لمصلحة إسرائيل.
ويبدو إن الموقف السوري ناجح في هذا المجال… حتى إشعار آخر.
والاشعار الآخر معلن على غير المنظور من احتمالات التطور في الوضع العربي العام، وهي برغم كل شيء احتمالات مفتوحة، وإن كانت إرهاصاتها الأولى مثيرة للقلق أكثر مما هي مدعاة للاطمئنان إلى وجهتها وهويتها القومية.
لقد تبادل العرب والإسرائيليون الأدوار، فصار الرافض قابلاً والقابل (لفظياً) رافضاً، لكن طبيعة الأزمة لم تتبدل، ومن هنا فالاحتمالات تظل مفتوحة وباب التداعيات مستعص على الاغلاق.

Exit mobile version