طلال سلمان

على الطريق قبائل الحكم اللبناني

مسلية هي التفاصيل بقدر ما هي مأساوية حكاية الحكم في هذا البلد الأمينز
من التفاصيل التي قد تسلي همومك الدولارية، سنختار نماذج عشوائية منها:
*أول نتيجة “إيجابية لتشكيل الحكومة الجديدة إنها حققت ما يمكن تسميته (مجازاً) الفصل بين السلطات، فالإعلان عن انتهاء بدعة “الرويكا” أي الثلاثي الرئاسي، يعني عودة “التخوم” بين السلطة الإجرائية والسلطة التشريعية (وكله مجاز!)… وزوال التماهي الذي كان يقلق “الرئيس الأول” من طموحات “الرئيس الثاني” بينما “الرئيس الثالث” يشعر بأنه محاصر ومحصور حتى ليكاد ينسحق بينهما.
لقد شكل رئيس الجمهورية “حكومته الأولى” في ما يقولون؟!
في حين يقول “الخصوم” إن “ثنائية” الجمهورية الأولى (!!) وصيغة 1943 قد عادت إلى المسرح مجدداً معززة بالتراث الصلحي المؤسس!
بالمقابل نشط “الرئيس الثاني” للحفظ على “مؤسسته”، أو معظمها، المجلس النيابي ليتحصن فيها كقلعة لمعارضة محتملة بقدر ما يستشعر من “الثنائي” ابتعاداً عنه وإبعاداً له عن لعبة السلطة التنفيذية.
الكلمات كبيرة لكن المعاني غريبة عنها،
فالكل قبائل، ويمكنك استبدال كلمة “قبيلة” بكلمة “سلطة” أو بكلمة “رئيس” حيثما وردت… كأن تقول: قبيلة الرئيس الهراوي داخل حكومة ما بعد 6 أيار، والتي قامت نتيجة تحالف بين مجموعة من القبائل المتخاصمة، فيها الميليشيات والطوائف والمذاهب والأقليات، مع بعض المخضرمين برئاسة رشيد الصلح.
مجلس وزراء القبائل هذه المرة أكثر انسجاماً، من حيث الشكل، ولكنه أبعد عن مجلس نواب القبائل، وإن ظل الطرفان محكومين بعدم خرق الهدنة والاندفاع إلى الحرب. لذا ستزيد “المؤامرات” و”الأفخاخ” و”الكمائن” السياسية، ولعل أبرز مثل عليها قضية النائب نجاح واكيم.
لقد التقط مجلس نواب القبائل السقطة التي تورطت فيها قبائل السلطة التنفيذية وكأنها زخة مطر تهطل بعد جفاف طويل، واستخدمها لتوجيه ضربة موجعة إلى “خصومه” متجاوزاً نجاح واكيم وما قاله وكذلك ما قيل فيه.
*من التفاصيل التي لا تنتهي في البلد المكون من نوعين من التفاصيل: جوهرية وثانوية، ذلك الحديث المكرر والمعاد عن ضرورة تطهير أو تنظيف أو تنشيط الإدارة.
والإدارة قبائل هي الأخرى، بعضها أفخاذ لقبائل الميليشيات، وبعضها الآخر ينتسب إلى قبائل الرؤساء، والكل يتساوى في شرف الانتماء إلى “البطون” ذاتها،
وليست مصادفة أن يتركز الحديث عن قبيلة وزارة المال، باعتبارها المسؤولة عن توفير الإيرادات وتنظيم الإنفاق وتحديد السياسة التي من شأنها تحصين النقد الوطني ووقف التدهور في قيمة المواطن.
لكن التطهير أو التنظيف أو حتى التنشيط لا يمكن أن يتم غلا إذا فوضت القبائل النيابية بسلطاتها الاشتراعية للقبائل الحكومية وتمكنت هذه من مواجهة شقيقتها الثالثة القبائل الإدارية!
والتفويض غير وارد، في ما يبدو، لأنه يلغي قبيلة كاملة برئيسها وشيوخها وأفخاذها والبطون،
وهذه، في أي حال، واحدة من ساحات المواجهة المحتملة بين القبائل الحكومية والقبائل النيابية والتي ستنتصر فيها على الأرجح القبائل الإدارية وهي سيف الطوائف والمذاهب وترسها جميعا!
*من التفاصيل أيضاً وأيضاً حكاية الانتخابات النيابية التي تكثر الجعجعة حولها بينما الطحين معدوم،
أكثرية القبائل تتحاشى الإعلان عن رفضها، لكنها في الكواليس ترفضها وتتآمر على احتمالها، الضعيف أصلاً،
وهذه نقطة تلاق بين القبائل جميعاً، الرئاسية والنيابية والحكومية، ولكن هذا لا يمنع من أن يحاول بعضها إحراج أو إحراق البعض الآخر عبر المزايدة نفاقاً أو تواطؤاً وعلى طريقة “عليّ وعلى أعدائي يا رب”.
لم تحدث الصدمة الإيجابية، إذن،
فالشارع ما زال في الشارع، لأنه لم ير في “التغيير” ما كان يأمل فيه من علاج لأزماته المعيشية الخانقة.
والحق إن التغيير محدود ولا يمكن أن يكون إلا محدوداً طالما أن المعطيات السياسية (على الأرض) ما تزال قائمة بأساسياتها ومنطقها وتوازناتها الدقيقة.
إنها حكومة انتظار الآخرين،
أو إنها حكومة الوقت الضائع في انتظار انتخابات الآخرين، بينما شعارها المعلن إنها حكومة الانتخابات النيابية في لبنان وهذا الصيف، وقبل أيلول،
وهي أقل توهجاً من سابقتها، ولكن مصيرها قد لا يكون أفضل،
فحكومة ما بعد ميشال عون ولدت في جو “انتصار” سياسي (وعسكري) للحكم، وكان من الصعب مناقشة ظروف الولادة وملامح المولود،
إنها حكومة جاءت على ظهر موجة إنهاء “التمرد”، ولكنها انتهت بتمرد “سياسي” عليها وإن اتخذ شكل الانتفاضة “الشعبية” التي استوعبت في جمهورها العريض بعض أولئك الذين ناصروا “التمرد” وحموا “المتمرد” بأجسادهم في محيط “قصر الشعب” ببعبدا حتى اللحظة الأخيرة.
أما حكومة ما بعد 6 ايار فقد جاءت محكومة بوعود كبيرة بينما إمكاناتها ضئيلة جداً، ورأسمالها يتكون من شوق الناس إلى أي تغيير لعل “النحس” يذهب مع الراحلين! وهذا رصيد سريع الذوبان لأن أخطاء الآخرين ليست بذاتها مزايا لبدلائهم.
*من التفاصيل أخيراً أن الدولار قد أشعل النار في جيوب الناس وفي بيوتهم مجدداً، موحياً إنه ما زال سيد السوق والشارع!!
والحرب بين قبائل الحكم وقبيلة ادلولار شديدة التعقيد لأن الصفوف تتداخل بحيث يصعب التمييز بين الخيش وبين الحرير وبين الخصم وبين الحليف والابن بالتبني.
على أن الدولار أقوى من جميع الطوائف والمذاهب والعصبيات،
عند عتبته يلتقي الرؤساء والكبراء والوزراء والقادة والفعاليات والميليشيات والمافيات، ويمحضونه الولاء المطلق: يقاتل بعضهم بعضاً إن شاء، ويهادنون بعضهم بعضاً إن هو جنح إلى المصالحة، يمنح المطيع شهادة حسن سلوك ويلقي الحرم على العاصي والخارج على الطاعة.
وهكذا فإن الدولار هو وحده السيد، في الحكم وفي الشارع، في المؤسسات وفي الانتفاضات، وحتى في مشروع الانتخابات لو تمت.
وصراع القبائل مستمر، والكلمات الكبيرة تبتذل وتستهلك في تفاصيل التفاصيل المنهكة والمقيتة والتي تموه حقيقة الأمر.
ومع كل صباح عليك أن تتأكد : بكم فتحت هذه القبيلة أو تلك،
وقبل النوم تأكد بنفسك: على كم أقفلت القبائل الحاكمة!

Exit mobile version