طلال سلمان

على الطريق في يوم باسل…

بغير أن يتواعدوا تلاقوا، ومن كل حدب وصوب جاؤووا لكي يلتفوا حوله. كانوا يريدون أن يطمئنوا عليه، كانوا يريدون أن يقولوا أنهم معه، وأن “باسله” فيهم.
تهاوت الحدود المصطنعة والمركبة أمام الحقيقة البسيطة: فها أبناء الجولان مع أبناء طرابلس، وها أبناء حمص وحماه مع أبناء صور وصيدا، وها أبناء عمان واربد مع أبناء حلب وأدلب والمعرة، وها أبناء بيروت مع أبناء دير الزور، وها هي السويداء وعشائر البقاع، وها أبناء الساحل السوري يتلاقون مع الوافدين من جبل لبنان ويتداخلون مع أهل الشتات الفلسطيني يحف بهم الذين ما زالت جذورهم في إسكندرون وأنطاكية وكيليكيا لا يفرطون بها ولا هي تنقطع فترميهم للريح.
كلهم هنا، باللهجات المتعددة والوجدان الواحد. بالآراء المختلفة والموقف الواحد.
سابقت السيارات الأخبار والمراسم. وبعثرت نسمات الصبع المبللة بالمطر والمعطرة برائحة التراب المناصب والألقاب المفخمة. لا أفضلية لأصحاب المناصب على من اتخذوا من عاطفتهم أجنحة ليكونوا معه في ساعة المحنة. إنهم يستطيعون أن يعطوه أكثر، لأنهم لا يريدون منه إلا أن يصمد ويبقى ضمانة اليوم والغد.
قرى الساحل الفقيرة إلا بمشاعرها انتدبت نفسها للترحيب بالقادمين، البيوت الصغيرة تتسع لكل الأحبة، من ضاق به المكان تتسع له الصدور.
الحزن مشاع ولكل فيه نصيب، لكأنما كان “باسل” ابناً لكل بيت فنقص بعد فقده.
من قال أن العاطفة لا تبني ولا تحمي؟!
ومن قال إنها مجرد “عاطفة” تلك المشاعر والأساطير والوقائع والمواقع والروايات والقصائد والأحاديث والحكايات والمبارك من الآيات التي تضج بها الأفئدة وتزدحم بها الذاكرة؟!
من قال أن الميت يموت في هذا الشرق الذي يحاسب فيه الحي بمعايير السابقين ويطالب في كل لحظة أن يدانيهم، ان يتمثل بهم، أن يحذو حذوهم، أن يكمل ما بدأوه أو يصحح ما أعوج من مسلكهم.
مثالك في ذاكرة الجميع، و”المحكمة” في حالة انعقاد دائم، والحكم لن يتأخر فيالصدور: أينكم من القدوة في أبي بكر وعمر؟! أينكم من الصراط علي بن أبي طالب؟! أينكم من خالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح؟! أينك من عمر بن عبد العزيز؟ أينك من معاوية وعمرو بن العاص وسائر الدهاة؟! أينك من عقبة بن نافع وموسى بن نصير وطارق بن زياد؟! أينك من المعز لدين الله الفاطمي؟! أينك من الظاهر بيبرس وقلاووي؟! أينك من عماد الدين محمود؟! أينك من صلاح الدين…
وعند صلاح الدين تتركز المقارنات وتقسوا الأحكام: لا حل وسطاً، فمن ابتعد عنه فإلى الجحيم، ومن اجتهد لأن يقتدي به، ضمن قدراته وظروفه، فإلى الصدارة يحمل وتنفتح له القلوب بغير حجاب.
أين الطريق إلى القرداحة؟!
بل أين القرداحة نفسها، بالبيت فيها والمسجد الجامع الذي جعله بانيه مثوى للوالدة الغالية لتظل قريبة مكاناً قربها إلى النفس..
“يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي…”
الأغلى إلى جوار الأعز الآن، “الجدة” تحنو على “حفيدها” وترعاه، ولا يبقى لمن فقد الأحب من والدة وولد إلا أن يكمل الطريق في اتجاه التاريخ.
لكأنها أمة يجمعها الحزن أكثر مما يجمعها الفرح.
ربما لأنه أمة تعيش بوجدانها أكثر مما تعيش واقعها.
وربما لأن الامتحان الحقيقي لرجالها يكون مع الشدائد، مع المصائب، مع الجلل من الأحداث، مع العظيم من النكبات،
الفرح يصطنع أبطاله.
أما الأحزان فوحدهم الرجال يصمدون لها ولا يسقطون تحت ثقلها ويعملون للخروج من ليلها إلى صبح بهي…
في البدايات كان يمكن أن تتقدم السيارات ببطء، ثم سدت المشاعر ا لطرق. كان عليك أن تحمل حزنك وتمشي. لا تسل من أين. لا تسل إلى أين. البشر هم الدرب. الأصوات المتهدجة للشيوخ، النشيج المتقطع للصبايا، أنة الأسف في أحاديث الرجال، والعويل المكتوم تحسه يملأ الفضاء وإن لم تستطع أن تحدد بالضبط مصدره.
بشر، بشر، بشر،
الطرق بشر، والهضاب بشر، السطوح بشر، وللنوافذ ملامح البشر وفي الوعد اختفت أشجار الزيتون تحت لهاث البشر المتوجهين إلى ساحة الوداع وساعته.
في المطار الريفي النظيف تراصفت الطائرات التي حملت عواطف الأخوة الذين في البعيد.
جاءت الرئاسات اللبنانية بثلاث طائرات: لكل دولة طائرتها، ولصاحب الدولة طائرته الخاصة.
وجاءت مصر قبل رئيسها والوزراء…
طيف صلاح الدين يظلل المناسبة مرة أخرى: فما من مرة أمكن صنع النصر العربي إلا على قاعدة التوحد أو التوحيد بين مصر وسوريا.
… وفي مصر صار حافظ الأسد “أباً” للمرة الأولى.
وطيف جمال عبد الناصر حاضر فيسوريا دائماً، وحاضراً أبداً في وجدان هذا القائد الذي يستوطن التاريخ ويحاول أن يضيف إليه: حافظ الأسد.
جاء الأردن الرسمي بالطائرة، بينما الأردن الشعبي يملأ بمواكبه الطرق.
جاءت السعودية، وجاءت إمارات الخليج جميعاً، جاء المغرب (الأدنى والأقصى)، وجاء السودان وسائر العرب.
لقد جمعهم ، أخيراً، باسل الأسد،
ومؤسف أن يكون قد جمعهم الموت، ولكنه جمعهم من أجل الحياة، وليس فقط من أجل واجب العزاء.
كان مجيئهم موقفاً.
لقد جاؤوا إلى حامل رايتهم، جاؤوا ليقولوا أنهم معه، ولعله الوحيد الذي ما زال قادراً على أن يجمعهم.
جاؤوا ليقولوا: أنت وحدك استطعت وتستطيع أن تحفظ بعض ما تبقى لنا من حقوقنا، ولقد أتينا نحمل معك بعض حزنك لتستطيع أن تكمل ما بدأت فتحمل عنا بعض أعباء قضيتنا.
… وفي البيوت جلس الذين أوفدوا مشاعرهم ودموعهم ولز يستطيعوا الذهاب، إلى الشاشات الصغيرة يتأملونه.
كانوا مشفقين عليه وعلى الوالدة الثكلى، وكانوا بتلهفون للاطمئنان عليهما.
وساعة رأوه واقفاً، ثابت الجنان والقلب خلف نعش فقيده – فقيدهم، حبسوا الدمع حياء منه: المصاب أعظم من أن يختصره التفجع، والمهمات أثقل من أن تنسيها أو ترجئها الأحزان.
القائد لا يحزن، لا يبكي، لا يتوجع، ولا يعتذر بمصابه.
ممنوع من الحزن أنت، ممنوع من الحداد، ممنوع من الاحتجاب داخل طيات الأسى واللوعة.
الامتحان لإنسانيتك مختلف جداً، ويكاد يكون وحشياً، بقدر ما تثبت أنك جبار في انتصارك على ما هو شخصي وحميم يسلم الناس بقيادتك وبمسؤوليتك عن مصائرهم، الشخصية منها والعامة.
مشى بخطوات وتيدة، مرفوع الرأس، مشدود الملامح، لكن العينين كانتا تقولان كل ما هو ممنوع من إعلانه.
كانت صورة “باسل” تغطي الحدقتين، كان الوجدان يبث بلا انقطاع ذلك الشريط الطويل لأجمل صفحات الحياة. لحظات الولادة، والبشرى بأنه قد “جاء”. سنوات الطفولة والمداعبات وعبث الأصابع الطرية بالشعر، بالقبعة، بالشاربين… سنوات الفتوة، وبدايات الإعداد والاستعداد للدور المربوط بالقدرارتباطه بالقدرة.
مبكراً، بدأ يدرس نفسه، وبقسوة على النفس، ما يريده أن يكون. القراءة بديل من اللهو، والرياضة للمتعة وإعداد الجسم للمهمة الصعبة.
وفي المطار، وبين السيارة والطائرة، في ومضة واحدة تفجرت العواطف بلا ضوابط و”الجمهور” الذي أقام الجنازة في منزله يرى بشكل خاطف الوالدة المفجوعة بباسلها، السيدة أنيسة، تصعد سلم الطائرةمستندة إلى “بشار”، ومن خلفها “الرئيس – الوالد” وسائر أفراد الأسرة.
ثم جاءت اللحظة التي توقعها كثيرون: فجأة أطل من نافذة الطيار، مدّ وجهه ويديه، ولوّح للجمع المحتشد، للأمة القلقة عليه، ثم ضم الكفين – على عادته – بالتحتية.
هو بخير، إذن، هو أقوى من المصاب.
في القاعة الملحقة بالمسجد الرحب، جلس إلى إخوانه الذين جاؤوا يواسونه. كان يخرجهم من وجومهم فيحادثهم في شؤون كثيرة.
ثم جاءت لحظة الوداع الأخير: قام وقاموا إلى المسجد، فانتظموا صصفوفاً أمام النعش الذي يضم أغلى الناس، واستمع مصغياً إلى “الخطاب الأخير”الموجه إلى “باسل” عبر بارئه الذاهب إليه، فتح كفيه للدعاء. قرأ الفاتحة. مسح بباطن كفيه وجهه، ثم عاد إلى القاعة لتقبل العزاء ووداع الأهل الذين كان لا بد أن يعودوا. انتبه إلى أن بعضهم لم يتناول طعاماً، فسألهم أن يبقوا قليلاً. وأذهلهم حضوره، فأمسكوا الدمع وقاموا يودعونه ليعود إلى حيث يخلو إلى أسرته ونفسه والوجع المقيم.
جليلاً كنت في حزنك.
كبيراً كنت في مواجهة المصاب. وظل “العام” هو الحاضر في وجدانك وعقلك على حساب “الخاص” وهو الحميم الحميم.
وبعيداً عن العاطفة فلقد تبدى، على هامش الحزن ووجع المصاب، موقع حافظ الأسد في قلب الأمة.
له وحده كان يمكن أن يتدفق. ذلك الحشد “العربي”، إليه فقط كان يمكن أن يزحف مئات لاألوف من بسطاء الناس، ليقيموا من حوله سوراً دافئاً بقلوبهم كما بموقفهم.
لقد أحاطت الأمة بالقائد لتقول أنه من يعبّر عنها، في لحظة الامتحان الصعب للقدرة.
ولقد أثبت القائد جدراته بالمكانة التي تحفظها له الأمة في وجدانها.
لقد رحل باسل،
لكن “أبا باسل” أعظم حضوراً اليوم مما كان في كل تاريخه الطويل.
لقد كان في العقل فقط،
لكنه الآن في العقل والقلب معاً.
ولعل هذا أعظم عزاء لحافظ الأسد، وللأمة جميعاً.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.

Exit mobile version